يشغل «اقتصاد الظل» مكانة مهمة في الدراسات الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة، وهو حسب تعريف الأمم المتحدة، الأنشطة التي قد تُعتبر منتجة بالمعنى الاقتصادي، لكنها مخفيّة عن عمد عن السلطات العامة، لغايات مثل التهرّب الضريبي، التحايل على أنظمة العمل والتأمينات الاجتماعية، وغيرها من القوانين. وبالتالي فليس بالضرورة أن يكون اقتصاد الظل اتجاراً بالممنوعات مثلاً، بل يشمل سلسلة ممتدة من أنماط وعلاقات الإنتاج، تُشكّل نسبة معتبرة من اقتصاد أي دولة، وتزيد أو تنقص حسب الوضع الاقتصادي، وقوة سلطات إنفاذ القانون، ومستويات الفساد في المؤسسات العامة، وطرق التعاطي مع الظواهر الاجتماعية المختلفة.
في كل الأحوال لا يمكن اعتبار ذلك الاقتصاد مجرّد ظاهرة عابرة، أو إجرامية بالضرورة، فرغم تأثيره السلبي، من ناحية التحصيل الضريبي، وحقوق العمّال، إلا أنه قد يعبّر أحياناً عن نوع من المرونة الاجتماعية، التي قد تستفيد منها فئات معيّنة، جزئياً وعلى المدى القصير والمتوسط؛ فضلاً عن هذا فهو قد يتداخل بقوة مع قطاعات الاقتصاد النظامي، ويرفدها بالعوائد والأصول والخدمات والعمالة، ما يجعله ضرورياً لها. ولذلك فلا يوجد نظام اقتصادي دون «ظله».
إلا أن «اقتصاد الظل» قد يكتسب معاني خاصة، في حالة الدول الفاشلة والمنهارة، مثل كثير من دول المنطقة العربية وافريقيا وأمريكا اللاتينية، إذ يصبح أشبه بإجرام معمّم، مرتبط بتنظيمات شديدة العنف، تعمل خارج إطار أي عرف أو تقليد، وتقوم بممارسات، تتراوح بين إنتاج المخدرات وترويجها عبر الحدود، والانتهاك الشامل للموارد الطبيعية والحيوية، والإجبار على العمل العبودي، والاتجار بالبشر. تلك التنظيمات قد تكون ميليشيات عقائدية؛ مسلّحين قبليين؛ جماعات مرتزقة؛ أو حتى بقايا أجهزة أمنية تابعة للدول الفاشلة. ومن أفغانستان، مروراً بسوريا ولبنان وافريقيا الوسطى، وحتى فنزويلا وكولومبيا والإكوادور، يمتد اقتصاد ظل/عصابات عالمي، له كثير من الأصول والمنتجات، وليس منفصلاً بالتأكيد عن الاقتصاد العالمي النظامي والمقونن، أو حتى هامشياً فيه، بل ربما يكون أحد موارده الأساسية، إذا أخذنا بعين الاعتبار ما يقدّمه لعملية الإنتاج والتبادل العالمية. نتحدث هنا عن موارد طبيعية مثل الماس والذهب واليورانيوم؛ ضبط ملايين العمال والفلاحين، الذين لا يشملهم أي مفهوم عن حقوق العمل، أو حتى حقوق الإنسان، في ورشات ومزارع واسعة الإنتاجية؛ السيطرة على مناطق جغرافية استراتيجية، أساسية في عبور المواد الخام والمُصنّعة؛ إنتاج وتوزيع كل ما يمكن وصفه بـ»الممنوعات»؛ فضلاً عن استغلال ما يرد إلى مناطق النزاعات من إغاثة ومساعدات إنسانية.
لا تعمل كل تلك العصابات دائماً بالضد من إرادة الدول الكبرى أو الإقليمية، بل كثيراً ما تدخل في علاقات معقدة معها، قد تشمل الدعم والتدريب وعقد الاتفاقيات غير الرسمية. إلا أن الحالة اللافتة هي الجماعات التي تعتبر نفسها في طليعة «مقاومة النظام العالمي» مثل بعض الميليشيات الإسلامية في منطقتنا، أو اليسارية في أمريكا الجنوبية. هل يمكن بالفعل لتلك الجماعات خلخلة نظام الهيمنة العالمي، من داخل اقتصاد الظل؟ أم أن عملها «في الظل» مجرد تفصيل جانبي، لا علاقة له بقضية المقاومة؟
الخصوصية والعصابة
يمكن ملاحظة ميل مقلق لدى عدد من الدول الفاعلة عالمياً، في التعاطي مع العصابات المسيطرة على دول أو أجزاء من دول، بوصفها سلطات أمر واقع، لا بد من فتح قنوات تواصل معها لأغراض متعددة، منها التوصّل لـ»حلول سياسية» لنزاعات مزمنة؛ أو التعامل مع فئة أو طائفة تدّعي العصابة تمثيلها؛ أو تيسير وصول المساعدات الإنسانية العاجلة لمناطق الحروب.
يقوم بهذا الدور عادة عدد من الدول الإقليمية، التي يمكن اعتبارها «قريبة» لسبب أو لآخر، من هذه المجموعة المسلحة أو تلك. هذا إذا تحدثنا فقط عن الصلات المعلنة، إذ تمتلئ وسائل الإعلام الاحترافية بتقارير استقصائية، عن علاقات، توصف بـ»المشبوهة» بين حكومات دول كبرى وعصابات ذات ممارسات شديدة الإجرام. قد يشير كل هذا إلى تغيّر أساسي في نظرة الدول الأكثر فاعلية في النظام الدولي تجاه «الهوامش»: لم تعد البلدان المنكوبة والمفقرة، مجالات لمشاريع سيطرة استعمارية مباشرة، أو تنصيب أنظمة «خاضعة» بل مجالاً لإدارة أزمة لا تنتهي، تُعبر جانبا من «خصوصيات» تلك البلدان، التي لم يعد من المستحب التدخّل المباشر في شؤونها. إلا أن «إدارة الأزمة» لا تقتصر مثلاً على محاولة احتواء الصراعات والانهيارات، ومنع تمددها، بل هنالك بالتأكيد إدارة العلاقات الاقتصادية مع العصابات. وهو موضوع تعمل عليه أجهزة استخبارات وشركات ومؤسسات متعددة، كما تبرع به بعض الدول، المصنّفة «غير غربية» ومنها مثلاً روسيا والصين وإيران، التي تدير شبكة معقدة من العلاقات، مع جماعات منبوذة غربياً، أو موضوعة على قوائم العقوبات والإرهاب، إلا أن عوائد التعامل معها ترفد النظام الاقتصادي العالمي بأكمله. ما يجعل تلك الدول، أو مؤسسات معينة فيها، تلعب دور وكالة أو وساطة غير مألوف.
يبدو كل هذا وصفا غريباً لعهد «ما بعد استعماري» بمعنى الكلمة، إذ أن ترك الأمور على ما هي عليه في البلدان المنهارة، والاقتناع بالتعاطي مع درجات مختلفة من الوكلاء، بدءاً من العصابات، مروراً بالحكومات الفاسدة، وصولاً إلى الدول الإقليمية الوسيطة، يشير إلى نظام دولي لا يهتم بفرض أي «مركزية» سواء كانت غربية أو غير غربية، بقدر ما يرى أن التعاطي مع تشتت وتفتت دول ومجتمعات بأكملها خياراً أكثر واقعية وعملية. إنه نوع غريب من «المهارة بين الثقافات» التي لطالما روّجت لها مؤسسات دولية كثيرة مع تقدّم العولمة: أن تجيد التعامل مع عصابات متنوّعة، شديدة «الخصوصية» بل أن تحترم «ثقافتها» في كثير من الأحيان. يمكن، بناء على ذلك، تحقيق فهم جزئي لبعض أغرب الظواهر في عالمنا، مثل سكوت دول غربية عن انتشار شبكات لجماعات وميليشيات، من المفترض أنها «إرهابية» في أماكن كثيرة من العالم، بل حتى داخل حدودها نفسها؛ وعلاقاتها المعقدة مع دول تناصر أنماطاً من «المقاومة» مثل إيران أو حتى جنوب افريقيا. ما ذاك النظام الدولي، الذي يستطيع استيعاب كل هذا؟
«خارج» النظام
قد تكون استعادة نظرية روزا لوكسمبورغ، عن ضرورة «خارج الرأسمالية» لتحقيق فوائض القيمة في النظام العالمي، أمراً مفيداً في محاولة الفهم والتفسير. فقد اعتبرت المفكرة والمناضلة الماركسية الشهيرة أن تراكم رأس المال لا يمكن أن يتم في إطار نظام مغلق ومكتمل، كما اقترح ماركس في تجريده النظري، بل لا بد من «خارج» ما للنظام، قد يُعتبر قبل رأسمالي، أو غير رأسمالي، يمكن، عبر استغلاله، وإعادة ترتيب علاقات الملكية والعمل والاستهلاك فيه، تحقيق ما لا يمكن تحقيقه ضمن الشروط الداخلية للنظام.
اعتبرت لوكسمبورغ في طرحها أن «الخارج» يحلّ مشكلة قصور الطلب الاستهلاكي في الدول الرأسمالية عن استيعاب فائض الإنتاج، عبر إيجاد أسواق في الأقاليم المُستَعمرة، وهو الأمر الذي أثار كثيراً من الاعتراض والنقد بين الماركسيين والمهتمين بالاقتصاد السياسي. إلا أن الأكثر أهمية في فكرتها، بعيداً عن تلك الاعتراضات، أن النظام لا يمكن أن يعمل إلا بوجود مساحات واسعة خارجه، لا تنطبق عليها قواعده وآلياته بشكل كامل، ما يمكّنه من الدخول بعلاقات غير متكافئة مع ساكنيها. ظنّت لوكسمبورغ في عصرها أن الإمبريالية سترسمل مع توسّعها العالم بأكمله، وتدمجه فيها، ما سيوصل النظام الرأسمالي إلى حدوده المنطقية والتاريخية، فتتصاعد أزمته إلى ذروتها، مؤدية لانهياره، لكن يبدو أنها كانت مخطئة. فما حدث أن «الإمبريالية» لم تعد قادرة أو مهتمة بإدخال مزيد من المساحات إلى داخل نظامها، بل ارتضتها «خارجاً» دائماً، تتعامل معه عبر وكلاء، وعليه أن يحافظ على صفته تلك، مع ضمان قدرتها التامة على استغلاله في الوقت نفسه.
سياسات «الخارجيين»
يحدث في المساحات الخارجية عن النظام العالمي، التي تشغلها دول فاشلة وعصابات، كثير من الأمور غير المقبولة بمقاييس أي دولة محترمة، وهذا يساهم في تحقيق أشكال مروّعة من الاستغلال لملايين البشر، دون القدرة على الاحتجاج أو المقاومة الفعلية أو التنظيم الديمقراطي، إذ أن العصابات، في استعدادها الدائم لـ»المعركة» تنفي أي إمكانية لتحرّك البشر في سبيل تحسين أوضاعهم، أو مواجهة القهر الذي يتعرضون له. يبقى للناس فقط السلوك ضمن إمكانيات وعلاقات اقتصاد الظل، الذي تديره تلك العصابات. في المنطقة العربية قد يكون المتاح هو التنقّل بين الأعمال الهامشية، والاندراج في شبكات تلقي المساعدات وتوزيعها، والمشاركة في نشاطات إجرامية وشبه إجرامية؛ بينما في مناطق أخرى، خاصة في افريقيا وأمريكا اللاتينية، يبدو العمل العبودي هو المصير.
بهذا المعنى فقد تكون مواجهة سيطرة العصابات، حتى لو كانت مناهضة لـ»الاستكبار العالمي» أو «المركزية الغربية» هي «المقاومة» الفعلية للنظام. فأغلب أعداء «الرجل الأبيض» أثبتوا قدرتهم على التعايش معه لعقود، وبناء علاقات شديدة التعقيد معه.
يمكن طرح العراق بوصفه المثال الأوضح: دولة تفاهم الاحتلال الأمريكي والنفوذ الإيراني على تقاسمها لسنوات، وهي اليوم تحت سيطرة كل صنوف العصابات، تذهب ثرواتها لجهات مجهولة، فيما يرزح شعبها تحت الفقر، إلا أن ميليشياتها الحاكمة ترفع دائماً رايات مقاومة الاستكبار العالمي.
كاتب سوري