كشفت الحملة الدعائية ‘يا بيبي، أنت فقط تستطيع’ عن التحالف الخفي بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومؤيديه غير المعلنين الذين ‘خرجوا من الخزانة’ السياسية بضغط الظروف. يتبين أنه توجد في طول الخريطة السياسية في اسرائيل وعرضها سلسلة بشرية تتفق على شيء واحد وهو أن نتنياهو هو الوحيد. والاعضاء في هذه السلسلة غير منتظمين كجماعة سياسية فالقاسم المشترك بينهم ثروتهم (‘مديرون في الاقتصاد الاسرائيلي’، كما يشهدون على أنفسهم)، لكنهم جميعا من اليمين والوسط واليسار يؤيدون نتنياهو ويعلنون أنه لا يوجد عنه بديل سياسي. برغم أن تلك حملة تأييد لاتفاق سياسي، جهد صاغتها للحفاظ على الحياد. إن الموقعين عليها يدعون في الحقيقة الى التوصل الى اتفاق لكنهم لا يقولون شيئا عن طبيعته، وهم يؤكدون أيضا أنهم جاءوا من جميع أطراف القوس السياسية ويبدو أنه قد تم فعل كل شيء كي لا تبدو الخطوة مثل خطوة سياسية. ليس الحديث في الحقيقة عن عمل سياسي بل الحديث عن مبادرة اعمال للمديرين في الاقتصاد ترمي الى انقاذ ثروتهم من العقوبات والمقاطعات التي تهددها. فالحديث عن اتفاق سياسي هو اتفاق اعمال. وأهميته في نظرهم هي في مجرد التوقيع عليه أما التفاصيل فأقل أهمية. وأما نتنياهو فانه يشبه عاملا في اعمالهم لا يهم ما الذي يعتقده لأنه يمثل في التفاوض المجتمع، أي يمثلهم هم. وهم يعلمون من تجربتهم أن نتنياهو سيهتم بأن يظل المال متداولا بين الاغنياء فقط ولهذا يريدون تقويته. وهم كالمديرين يحددون له بصورة واضحة ما الذي يجب عليه فعله، وهو أن يكافح بكل ثمن حتى بثمن السلام العقوبات والمقاطعات التي تهدد باسقاط السور الذي أقامه لهم. إنه السور الذي يفصلهم عن أكثر مواطني اسرائيل الذين أصبح غلاء المعيشة بالنسبة اليهم مسألة وجودية. تكشف الحملة عن القيمة الأساسية التي يؤمن بها المنفقون عليها وهي المال. فهم بحسب هذه القيمة الوحيدة يحكمون على الواقع في ميادين مختلفة: في السياسة والاخلاق والفن والتربية. والامر ببساطة أن المال خير ولهذا فان ما يجلب الربح خير وما يسبب الخسارة شر. وهكذا أصبح حكم بيبي لاول مرة وبرغم ما في ذلك من التناقض معرضا للخطر حقا. إن اغنياء بيبي يمكن أن يغفروا كل شيء: الاحتلال والحروب وطرد الاجانب والفروق الاجتماعية والفساد والتربية السيئة وخدمات الرفاه المتدنية، لكن لا يمكن أن يغفروا المس باموالهم فقط. فهم يأبون أن توجد المقاطعات والعقوبات والغاء العقود والخسائر. فيبدو أن شيئا ما ليس على ما يرام في ‘الصراع’ وقد حان الوقت للتوقيع سريعا على اتفاق. إن نموذج السوق الحرة الذي يرى أن كل واحد يهتم بمصالحه مع تجاهل مصلحة المجموع، وأن يدا خفية غير منحازة، أي عمياء وغير مبالية اخلاقيا تهتم بمصلحة المجموع قد تغلغل الى السياسة. وقد أراد اقتصاد السوق الفصل بين الاقتصاد والدولة. ونحن نشهد منذ زمن مسارا مشابها في السياسة أبرز تعبيراته خصخصة الخدمات العامة الصحة والتربية. فقد أصبح المواطن مستهلِكا. وأصبحت فكرة الدولة تُفهم بتمثيلها بمصلحة من المصالح حيث أصبح رئيس الوزراء هو المدير، فهذا مسار يريد فصل السياسة عن الدولة. إن السياسة الجديدة تريد أن تكون لا سياسة. ومن المعلوم أن معنى هذا الاجراء هو الغاء السياسي، أي الغاء امكانية تحديد هويتنا أفرادا وأمة وصوغا مشتركا وصوغ مجتمعنا ومستقبلنا بصورة مشتركة. إن اعتقاد أن ‘بيبي وحده قادر’ هو التعبير عن عملية اللاتسييس التي جرت على الاسرائيليين بحيث كفوا عن أن يؤمنوا مثلا بامكانية تغيير رئيس الوزراء. وهذا هو التفسير الوحيد لحقيقة أن الناس الذين يعرفون أنفسهم بأنهم يسار ووسط مستعدون لتفويض بيبي للتوقيع على اتفاق سياسي وكأنه لا يهم من يمثل الدولة في الاتفاق وما هي الروح التي سيأتي بها الى طاولة التفاوض. إن اللاتسييس فقط يمكن أن يفسر حقيقة أن ‘الزعيم الكبير’ الذي انشأه الاحتجاج الاجتماعي كان يئير لبيد. إن المشكلة هي أن الائتلاف اللاسياسي لنتنياهو أوسع كثيرا من دائرة الموقعين على حملة التأييد. إن كل من أثرى تحت قيادة نتنياهو في حين أصبح أكثر سكان الدولة أفقر، وكل من رُفع في عمله في وقت أُقيل فيه رفاقه في العمل، وكل من حظي بصناديق ومخصصات وجوائز وشهرة في حين أُقصي غيره كل اولئك ينتمون الى تحالف نتنياهو سواء اعترفوا بذلك أم لا. إن تحالف الرابحين من نظامه هو الذي يُثبته منذ زمن طويل في السلطة. وبهذا المعنى فان ورقة الاقتراع في صندوق الاقتراع التي منحها أكثر الاعضاء في تحالف نتنياهو الخفي لحزب آخر ليست سوى أداة سياسية لا معنى لها من جهة انتخابية. لأن من يُثبت نتنياهو في الحكم ليسوا ناخبيه بل كل اولئك الذين هم مستعدون لاغماض عيونهم عن المظلمة الطويلة التي وقعت بجيراننا، من تحطيم الأسس الاجتماعية التي تقوم عليها الدولة وتحطيم الاحلام التي كانت عندنا عن المجتمع الذي سنحيا فيه. إن اغنياء بيبي يغمضون أعينهم للحفاظ على ثرواتهم أو لتعظيمها، وهم يجندون أنفسهم لتأمين مستقبل أبنائهم وأحفادهم وأحفاد أحفادهم وينسون أن الواقع الذي سيورثونهم إياه سيكون بلا قيمة. لكن لا يجوز أن ننسى أن المجتمع الذي لا يكون الطموح الى العدل فيه حجر الزاوية فيه لن يتأخر موعد سقوطه ولن تساعد جهود مديريه لتأمين أنفسهم بصورة شخصية. فهم يعيشون في وهم إزهار كما قال وزير الخارجية الامريكي جون كيري. بقي فقط أن نأمل أن نتذكر حينما يتحطم الوهم ونستيقظ لنرى الواقع المخيف، أن نتذكر قوة السياسة المحرِّرة من جديد.