وسمت الرواية في الدراسات الجديدة بكونها جنسا إمبرياليا، يلتهم كل ما يعترضه من أجناس وخطابات، قديمة وجديدة، أدبية وغير أدبية. ويبدو أن هذه الصفة لم تظل حكرا على الخطاب الروائي، بل صار التنوع والتعدد الأجناسي مظهرا بارزا في أجناس مختلفة، ومن بينها القصة القصيرة، التي يمارس خطابها أيضا هذا الخطاب المهيمن على بقية الأجناس، تحديدا منذ بروز الموجات التجريبية المختلفة، وتعالي نداءات التجريب والتجديد أو الحساسية الجديدة (ونحن هنا نحيل إلى كتاب أدوارد الخراط الذي اهتم فيه بمظاهر التجريب في القصة العربية القصيرة). فالنص القصصي يلتهم أجناسا كثيرة، وهو ما يجعل صفة الجنس الإمبريالي صالحة أيضا للقصة القصيرة. فهي جنس يمارس التوسع ويمتص من خطابات كثيرة أشكالها وأساليبها. وهو ما يبدو في أعمال قصصية كثيرة، اتسمت بالتنويع والتلوين الشكلي واستدعاء أجناس أخرى.
ولعل مجموعة «نظرة أخرى» لسمير بن علي تشكل مثالا على هذا الخطاب وعلى توسع القصة القصيرة وممارستها للعبة التعدد الأجناسي. فالشكل القصصي في هذه المجموعة يندمج مع المسرح والشعر والرسائل والبلاغات الرسمية والعسكرية، وغير ذلك من الأجناس. والمتخيل القصصي يمتزج بخطابات التاريخ والخرافة والسيرة والسياسة. وهو ما نتتبع نماذج منه في بعض القصص.
الأجناس الافتراضية:
يتفاعل القص مع الثورة الاتصالية وخطاباتها ويحاول توظيف تقنياتها، فنجد إشارات مختلفة إلى «فيسبوك» والبريد الإلكتروني. ومن نماذج ذلك قصة «فايس بوك» التي يستدعي عنوانها هذا الخطاب، فموضوعها محور الأفعال السردية لشخصياتها. لكن فيسبوك لا يحضر كطارئ على الأسرة، يجب درسه والتوعية بمخاطره، بل يحضر خطابا له تقنياته ومفرداته:
حدثني عن نفسك
ماذا تعمل؟
أين أنت؟
أنا معك. أنا مسرحي أشكو الوحدة…
ليس أكثر مني…»
وتسجل هذه القصص أيضا حضورا لافتا للفنون.
الأجناس الفنية
يوظف الكاتب فنونا مختلفة. فلا تخلو أقاصيصه من حضور للخطاب المسرحي والسينمائي والموسيقي. فقصة «فايس بوك» ترد على شكل كتابة سينمائية. فهي سبعة عشر مشهدا متتابعا، تظهر عليها تقنيات الكتابة السينمائية:
«المشهد السادس عشر (ليلا داخلي)
يغادر الأب غرفة البنت متجها إلى الصالة ويطل رأس الابن باسما.
المشهد السابع عشر (ليلا داخلي)
تظهر غرفة الابن وعلى المكتب الحاسوب وعليه صفحة المحاورة مع الأب…»
وأما في قصة فك الحصار فتلوح منذ البداية أساليب الكتابة المسرحية وتقنياتها مثل الإشارات الركحية والحوار. فتفتتح القصة بالإشارات الركحية التي يحدد خلالها الكاتب ملامح الفضاء المسرحي من مكان وزمان وحركة شخصيات:
«المكان»: القصر الملكي لعاصمة مملكة خورستان
«الزمان:» الصباح الباكر في سلسلة الزمن
«الشخصيات: ستتدافع على السطح بلا ترتيب غير ضرورة الظهور
قبل أن يرفع الستار يدخل الوزير الأول مرتبكا».
هذه الإشارات الركحية تضيء ملامح النص المسرحي الكامن في القصة. بدعمها مصطلح ستار الوارد في المقطع الفارط، إضافة إلى الحوار المسرحي المتطور ومتعدد الأطراف. وفي إطار هذا التقارب السردي الفني، يبدو حضور المقاطع الموسيقية والشعرية على غرار هذا المقطع لعبد الوهاب الدوكالي.
ألا أونو.. الأدو.. الأثري
مين يفتح المزاد.. مين يشري مني
مني.. مني..
إن هذه الأقاصيص تلوذ بالخطابات الفنية الجمالية وتربط معها أواصر مختلفة، ولعل ذلك يرد في سياق تكامل الفنون وتفاعلها وتقارب العوالم الخيالية. لكن القصة القصيرة تتجه أيضا إلى الأجناس المرجعية.
الأجناس المرجعية:
تتعدد في هذه المجموعة مظاهر حضور الأجناس غير التخييلية مثل، الصحافة والبلاغات الرسمية ووثائق الاختبارات. في هذا الإطار نسجل حضور الخطاب الصحافي الذي نجد مظاهره في قصة «المقال» وفي قصة «فك الحصار» أيضا. ففي القصة الأولى يبدو هذا الأسلوب من خلال مقطع تلخيص المقال الذي كتبه الصحافي وكشف خططه وأدواته. «وضع أمامه الأوراق البيضاء. فألقى قلمه يمخر عبابها. بدأ بتقديم مسيرة وحيد الغربي وعلاقاته بالصحافة وثنّاها بتقديم لأعماله التي أثارت ردود فعل عنيفة في المدة الأخيرة بما تقدمه من رؤية فلكلورية سطحية عن البلاد ودعوة سافرة إلى التطبيع الثقافي مع العدو الصهيوني تحت شعار التعرف إلى ثقافة الآخر، والتسامح الديني ونبذ الانغلاق والمبالغة في جلد الذات».
أما في «فك الحصار» فنجد تقريرا صحافيا من خلال مراسلة لصحيفة أجنبية:
« الساعة 6 من بدء العملية المسماة بفك الحصار تفيد آخر المعلومات التي تحصلنا عليها، أن قوات الشرطة والجيش التي تدخلت لإجبار السكان على الالتحاق بمواطن العمل». وفي هذه القصة نفسها تبدو لنا مقاطع من البلاغات الرسمية أولها تقرير من قائد قوات الشرطة والثانية من أمير اللواء زيد القائد العام للقوات البرية إلى وزير الدفاع».
«لقد أرسلنا القوات بحسب الأوامر. تقودها قوات الطلائع والمظليين».
أما في قصة الرحلة فيطالعنا خطاب الامتحانات وأسئلتها:
من أسس قرطاج؟
من قاد الحرب البونيفية الثانية ضد قرطاج؟
في أي سنة دمرت قرطاج؟»
وأما في قصة تأشيرة فيلوح لنا خطاب الرسائل الذي ينتمي إلى الأجناس السيرذاتي. من خلال رسالة كارلادي تشيني من فينيسيا:
«عزيزي أحمد…
أعرف أنك ستستغرب رسالتي الآن بعد ست سنوات من لقائنا ليست المرة الأولى التي أكتب إليك، لكنني منذ سنوات وأنا أكوم رسائلي في صندوق خاص وهذه المرة قررت أن أرسل إليك هذه الأوراق».
يمكن القول إن الكتابة القصصية عند سمير بن علي في مجموعته نظرة أخرى، تبدو ميالة إلى امتصاص أجناس أخرى وتوظيف تقنياتها. فهي قصص مشبعة بأجناس وخطابات مختلفة. تستدعي إلى عوالمها الجمالي والتخييلي من مسرح وسينما وموسيقى، ولا تغفل الأجناس المرجعية مثل الصحافة والبلاغات الرسمية، بل تقحمها في نسيجها، لذلك يمكن القول إن هذه المجموعة تكرس ما ذهبنا إليه من كون القصة القصيرة أيضا، لا تخلو من توسع وإمبريالية. وهي تلجأ إلى الأجناس الأخرى لتشكيل خطابها.
كاتب تونسي