بدت المدينة كأنها أفرغت من ساكنتها، وأنا أطوف في حاراتها وشوارعها، وأرى المحال والمقاهي التي أوصدت أبوابها. مع أنها مدينة سياحية، والفصل صيف، يشهد توافد سياح، وهي الفرصة الانسب من أجل كسب فوائد، لأن الشتاء يشهد ركوداً. لكنها بدت كأن الحياة قد غادرتها، لا شيء يدب فيها عدا السكون. رأيت طاولات تعوّد باعة أن يعرضوا عليها فواكه وخضراوات، لكنها صارت فارغة بعدما غادروها. لا أطفال يمرحون في الجوار ولا بالغون يتسكعون على الأرصفة.
كما إن المطاعم كذلك أسدلت ستائرها الحديدية، مع أن الوقت كان ملائماً من أجل غداء متأخر. السيارات خفت حركتها، ولا نراها سوى مرصوفة في المواقف، ومن النادر أن تعبر مركبة أو نسمع هدير أخرى من مكان قريب.
لم أشاهد سوى جماعة من مهاجرين غير شرعيين، يتجولون في لا مبالاة، لأنهم يعلمون أن الشرطة لا تغادر المخفر في هذه الساعة من النهار، لا أحد سوف يسألهم عن وثائقهم أو يضايقهم. كان المهاجرون غير الشرعيين يشعرون بأمان وشعرت باستغراب عن سبب خلو المدينة من الحركة. وعلى الشاطئ لم يختلف الأمر، عدد قليل من البشر يرتكنون إلى الظل، ومن حولهم مقاهٍ ومطاعم مغلقة. هكذا هو المشهد في كاتانيا (أو قطانية)، ثاني كبريات المدن في جزيرة صقلية، التي تصير مدينة مهجورة، في ساعة الظهيرة، كأن ناسها سمعوا صفارات إنذار أو يخشون وصول عاصفة.
في البدء استفزني هذا الوضع، لأننا نحكي عن مدينة تقبض مداخيلها من السياحة، والسياحة تفترض حركة وتجارة، وإتاحة خدمات إلى الوافدين إليها، لكن كاتانيا تخلت عن هويتها، في تلك الساعة من النهار، ولم تعد الحركة في أرجائها إلا بعد الثالثة، ثم استتبت في الرابعة، واستمرت كذلك إلى غاية ساعة من متأخرة من الليل. وعندما سألت سبب موات المدينة، في وقت الظهيرة، في مدينة يقارب عدد سكانها 300 ألف نسمة، أخبرني أحدهم أن الناس ينصرفون إلى قيلولة، لأنها مثل واجب وطني لا غنى عنها. لا يمكن أن يكون أحدهم صقلياً إذا لم يمارس حقه في القيلولة، إذا لم يخلد إلى نوم في عز النهار.
«بل إن القيلولة مثل عبادة»، على رأي آخر. لا تكتمل صفاتهم إذا تنازلوا عن نصيبهم من النوم في الظهيرة. وفي كاتانيا شرعت في التفكير بهذا الحق الذي أضعناه، فالقيلولة كانت كذلك عنصراً من ثقافتنا، لكنها تكاد تندثر، كنا نلجأ إلى نوم قصير من أجل مواجهة العالم ومواصلة مشاغل اليوم، ثم تنازلنا عنه.
فن القيلولة
لم ينتبه علماء الاجتماع في الجزائر إلى موضوع «قيلولة»، ولا نعثر على مقال واحد ولا دراسة في هذا الشأن، على الرغم من أنها عادة لها جذور، وتاريخها يعود إلى حقب ماضية، ويمكن أن نعثر على ذلك في لوحات فنية، فقد صور إيتيان ديني، في واحدة من لوحاته «نساء في قيلولة» عندما زار بلدة الأغواط (جنوب البلاد)، كذلك صورها أوجين فرومونتين، في لوحة «استراحة خيالة عرب»، ونرى القيلولة أيضاً في لوحة لمحمد راسم، ونجد القيلولة كذلك في كتابات أدبية (مولود معمري مثلا).. وكانت ممارسة تسود جل دول البحر الأبيض المتوسط، فقد رسم غوستاف كوربيه عام 1856 لوحته الشهيرة «آنستان على ضفة السين»، وهن تستلقيان في قيلولة، في ظهيرة حارة من الصيف، جنب النهر. بالتالي فنحن نتحدث عن ممارسة لها تاريخ، وتعود عليها الناس في ما مضى، لكنها تكاد أن تختفي، في العقود الأخيرة، نظير التغيرات والاضطرابات التي تعرفها الحياة. هذه الحياة التي زادت من إيقاعها ومن تسارع أحداثها، فصارت تحرم الناس من قيلولتهم، ولا يبدو بديل آخر من العودة إليها قصد مقاومة هذا العالم المتسارع، الذي يجرد الناس من حقوقهم الصغيرة. إن العودة إلى القيلولة هي شكل من أشكال مقاومة هذا العالم، الذي ينحو إلى عولمة كل شيء، من عولمة اقتصاد إلى محو عادات الناس أو سلبها منهم.
وقت مستقطع
في الدين، تبدو القيلولة وقتاً مستقطعاً بين صلاتين (الظهر والعصر)، وهي اللحظة التي تقسم اليوم إلى نصفين، فالحياة في السابق كانت تحسب ساعاتها بناء على وقت القيلولة، لكنها صارت، في العقود الأخيرة، تحسب بناءً على مواقيت الدوام، وهذا الإسراف في العمل يجعل الإنسان يهمل حقوقاً لم يتنازل عنها سابقوه، فيحصل أن نصادف شخصاً يشتكي من ضيق الوقت، وأن لا فسحة له في التفرغ إلى مهام خارج الدوام، والسبب يعود إلى سوء تسيير ساعات الدوام، كما إن من أسباب تواري القيلولة أن أرباب العمل أنفسهم لا يفكرون في مصلحة عمالهم، فلا يتيحون لهم وقتاً في التفرغ لها.
فقد يبدو للبعض أن القيلولة شكل من أشكال الخمول، بينما الحقيقة أنها على النقيض من ذلك التصور، فبعد القيلولة سوف يعود العامل إلى موقعه بنشاط أكبر مما كان عليه، كما إن مدة النوم ليس بالضرورة طويلة، قد تدوم دقائق أو ساعة، وهي فسحة لن تعطل آلة الإنتاج بقدر ما تضمن له روحا أكثر حيوية. لذلك يبدو أن القيلولة هي من العادات التي ضاعت، فضاع معها نصيب من الاتزان في الحياة الناس، وفقدانها جعلنا نفقد العلاقة مع الوقت، ونظن أن النوم لا يصح سوى عندما تظلّم السماء.
تخلينا عن عادة دأب عليها من سبقونا، ولا يزال يصر عليها ساكنة صقلية، ففي هذه الجزيرة وبعد أن يفرغ الناس من نومهم في وقت الظهيرة تعود الحياة كأنها ماكينة، في نشاط وقدرة على التحمل، وتطول إلى ساعات متأخرة في الليل، بينما في الجزائر، حيث القيلولة انعدمت تنتهي الحياة مع الدقائق الأولى من الغروب، وتخلو المدن كأنها تخاف من الظلمة.
كاتب جزائري