أقنعة السيرة الشعرية: الأنا السيرذاتي لا يُقال إلّا بإنطاق أنا آخَر

دأب الشعراء العرب المحدثون، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، على توظيف سيرهم الشخصية ضمن ما سُمّي بتقنية القناع، فكان هذا الشاعر، أو ذاك يستعير شخصية أسطورية أو دينية أو تاريخية أو متخيّلة، قياسا إلى ما تفرضه تجربته الخاصة؛ ورغم ما يبدو في الظاهر أن الشاعر يتَّحد بهذه الشخصية ويتحدث بلسانها، إلا أنّه من الصعب ﭐدّعاء تطابقهما. فالقناع ليس مجرد تقنية، أو حيلة بلاغية، أو صوتا عابرا في القصيدة، بل صار يجسد نصّيا شكل أجرأة، أو تحويل تخييلي بنسبةٍ تزيد أو تنقص؛ فهو بدوره يعيد بناء علاقة أنا الشاعر بالآخر، فتكون العلاقة مغايرة ومتوتّرة تبني تشكُّلها الكينوني من تجارب الأنماط الميثولوجية والأنثروبولوجية المتنوعة، التي تعمل بوعي أو في غفلة من الذات، على تجسيد التصاديات النفسية والفكرية القائمة بين الأنا والقناع في حالة اختلاف وتعارض، أكثر مما هي حالة تماهٍ وتطابق، أو في حالة تشظٍّ إذا ما تعدّدت الأقنعة في النص الواحد، وألقت ظلالُ الذّات عليها بكثافتها التعبيرية في بحثها عن نفسها وتمثيل آخَرِها رمزيّا وكِنائيّا.

وعي تاريخي

ارتبط كلُّ شاعر بِآخَره من خلال قناعٍ مُحدَّدٍ يستدعيه حينا، ويبدع فيه حينا آخر، داخل كتابة تمزج بين الغنائي والملحمي، أو هي تنزع إلى الدرامي، أو إلى تخييل الذات. والأطرف أنّ هذا القناع كان يغتني في كلّ مرة – قياسا إلى ما تشهده تجربة الشاعر نفسه – بتحوّلاته ومفاجآته اللامتوقعة التي لا تنقطع في الزمان والمكان. من قناع إلى آخر، يمكن تمييز ثلاثة أنماط أساسية لبناء محتواه السيرذاتي، ثُمّ لتحديد شَكْل غيريّته داخل الخطاب:
نمطٌ أوّل يتمُّ من خلاله استدعاء شخصية أسطورية أو تاريخية أو دينية؛ حيث كان أصحابه من الشعراء المحدثين يملكون وعيا تاريخيا، وكان مشروعهم الحداثي يتمثل في إعادة كتابة ذواتهم التاريخية وصياغتها ضمن أفق كُلّي جديد. فأنا الشاعر، في تجربة الحداثة، ظلّ ينظر إلى ذاته بوصفها شخصية وجماعية؛ شخصية بمسؤوليتها وأعباء وجودها الفردي، وجماعية مُعمَّمة في تحديد مصيرها واختيار موقفها من المجموع ومعضلاته الرئيسية. ولذلك، فإنّ القناع لم يأْتِ من فراغ الواقع، ولا من رغبة السيطرة عليه، أو التعالي على همومه ومشكلاته، وإنما جاء نتيجة لـ»معاناة الواقع» التاريخي، واستجابة لـ «وعي متأزم» بهمومه ومشكلاته الفكرية. فالشاعر بدر شاكر السياب ـ مثلأ- اختبر النماذج الأولى لرمزيّة القناع، الذي مثّل به عن ماضي حياته وشخصيته المعذبة في طورها الدراماتيكي الأخير، وارتفع به إلى مصافّ «الأسطورة الشخصية» حيث صار الشاعر والرمز، في فترته المأساوية خاصة، شيئا واحدا لا يمكن تجزئته، دالّا بشكل فاجع على طفولته الماضية وتاريخ مشرط الداء اللعين الذي كان ينخر جسده من جهة. وتناول خليل حاوي شخصية السندباد في «رحلته الثامنة» كشكلٍ من التكنية عن سفره الداخلي وما يجد فيه من بحثٍ مُضْنٍ عن المعنى، واستعاد عبد العزيز المقالح شخصية «سيف بن ذي يزن» ووظّفها باعتبارها رمزا استعاريّا يُقدّم عبره، أطيافا من حزن جيله، فيما استعار أمل دنقل قناع «سبارتاكوس» للدلالة على رفض الذات وتمرُّدها على الواقع الاجتماعي والسخرية منه، بكيفيّة دراماتيكية. وفي «اعترافات مالك بن الريب» يستعيد يوسف الصائغ قناع الشاعر الأموي ليكشف تجربة الفقد الشخصي بقدر ما الجمعي، حيث انسحق البطل التراجيدي الذي تأكّلتْهُ الخطيئة بعد أن «باع الضلالة بالهدى».

نداء الطفولة

في النمط الثاني يُعنى الشاعر باستعادة «الآخر» الذي كانه في طفولته وفي ماضيه الشخصي؛ حيث يستثمر معطيات مرجعيّة تأثّرتْ بها حياته، إلا أنّه يعيد صياغتها وتنضيدها، وفق ما يُمليه النظام الشعري من تكثيف وإزاحة وتوقيع خاصّ، فنكون أمام سيرةٍ تخييليّةٍ أكثر من كونها مرجعيّة. وهذا النمط الذي يتخفّف من مراجع الأيديولوجيا بما تفرضه من مركزية القصيدة الأطروحة، ووضوح الصوت السياسي والاجتماعي للشاعر، إنّما يُفصح عن نفسه ـ بشكلٍ قصديٍّ- من مجموع المؤشرات النصّية التي تدلّ عليه (الغلاف، العنوان، الإهداء، كلمة الغلاف..)، وتتشيّد ضمن كتاب شعري- سيرذاتي.
يمكن أن نُمثّل على ذلك بديوان محمود درويش «لماذا تركت الحصان وحيدا؟»، «يمثّل عودة إلى ماض ذاتي. ماضيّ في الكتابة. ذاتي الشعرية» كما يقول الشاعر نفسه، وعبره يستعيد سيرة الطفولة والمكان والأشياء في حساسيّتها الأولى واتصالها البدئي بالعالم، بيد أنّ انفتاح السيرة على زمن البدايات الأولى للرؤية والإحساس التي خبرتها ذات الشاعر في اتصالها بالعالم، يوازيه الانفتاح على أنماط تعبيرية تستوعب ارتجاعات هذا الزمن العالق بالذاكرة والحلم والخيال، الذي به تتمُّ إعادة تركيب الزمن المنكسر. فالعودة إلى الطفل الذي كانه، هي عودة مضاعفة تتمّ بوعي الحاضر، حيث يمكن – مجازا- أن يلتقي الأنا بغيريّته، بصورته الشبح كتمثيلٍ كنائيٍّ عن صعوبة الإمساك بالأصل. وفي «البحث عن الزمن الحاضر: ديوان السيرة الذاتية»، يعود هاشم شفيق إلى حياته الماضية وحسب: سيرة الطفولة، سيرة الصبا، سيرة الشباب في بغداد في مطلع السبعينيات، قبل أن يستقرّ به المقام في قبرص أواسط الثمانينيات. ونستشفُّ من خلال هذه العودة مأزق الكائن الوجودي والأخلاقي والإنساني، الذي يمتحن سلسلة أحداث فتح عينيه عليها في بلده العراق وتأثر بها، ويكابد باكرا طور المنفى والتشرد باحثا عن وطن يحلم به، وعن أرض يقيم فيها بدافع الحياة. ويمكن أن نكتشف في أعمال عبد الكريم الطبال الشعرية استعادة دائمة للطفل الذي كانه، وهو يتعقبه ويتخيل آثاره نصيا في علاقته الحميمة بالأم وبمسقط الرأس المغمور بالماء )شفشاون(.

تخييل الذات

ينزاح النمط الثالث من اشتغال القناع إلى التخييل أكثر، بِشكْلٍ يثبت أنّنا أمام «سيرة مُتخيّلة» يبتكرها الشاعر المعاصر بحدسه وبحثه وقلقه، ويبنيها من مجموع الشظايا التي تتلامح في «مرآة» ذاته، وفي «مرآة» الآخر كذلك. فلا يعود هذا النمط مرتبطا بواقع ثابت وقارّ، أو يتطابق كُلّيا أو شبه كلّي مع إحالاته التي كانت تتقيّد بالقناع أو بالمرجع، بل هو ينفصل ـ تدريجيّا- عما يَـشدُّهُ إلى المرجع ويكفُّ عن أن يكون هو نفسه، فما يُنْجز سيرذاتيّا لا يتمُّ إلا عبر سيرورة الكتابة ودلاليّتها الخاصة فحسب. إنّه محض مغامرة تستدعي من الشاعر أن يكتب سيرته الذاتية بيد ويمحوها بيده الأخرى، وأن يحيل على وقائع من محكيّ حياته سرعان ما يفسخها خارج كلِّ ميثاق، إلى حدّ أنه يصعب استجلاؤها، ولاسيما عندما ينتقل ذلك المشروع من فضاء القصيدة باعتبارها شذرات واستدعاءات مقطعيّة يُميّزها استعمال «أنا» سيرذاتي رمزي مرتبط بالقناع، أو«أنا» مرجعي مرتبط بالاسم الشخصي للشاعر، إلى فضاء الكتاب بما هو مجال حيوي ومُفكّر فيه يعيد بناء السيرة وتخييلها من منظور جديد. من هنا، صِرْنا لا نتعرّفُ على سيرة الشاعر إلا داخل مبدئها التحويلي الذي لا يطمئن إلى «ما كان»، بل يعود إلى ما «انقطع» في التاريخ الشخصي ويعيد بناءه زمنَ الكتابة؛ بمعنى أن أنا الشاعر الذي لم يعد يتأطر داخل مرجع ثابت، صار ينكتب ذاتا مُتخيلة لا تملك وعيها إلا في اللحظة الحاضرة، وإذا عاد إلى ماضيه الشخصي فلكي تصير السيرة مبدأ ابتكارها الخاص. إنه لا يستعمل وجوده، أو مَقْطعا من حياته، أو يسرد سيرته إلا بقدر ما يُغير فيها حَشْدا من العناصر لدواعٍ لا شخصية وجمالية دون أن يدّعي امتلاكه لحقيقة شخصية؛ فسيرة الأنا أكثر من كونها قناعا أو تنكُّرا، بل هي تحويل ولعب حُرّ لقوى تخيُّلية، كما في كتابات معاصرينا؛ من أمثال: وديع سعادة، وصلاح فائق، ومحمد بنطلحة، ومنصف الوهايبي، وقاسم حداد، وشربل داغر، وآدم فتحي، ومبارك وساط، وزليخة أبو ريشة، وصلاح بوسريف، وأحمد الشهاوي وغيرهم.
فعلى سبيل التمثيل، يأخذنا قاسم حداد في «أخبار مجنون ليلى» إلى الأخبار الأخرى عن قيس؛ أخبار شاعر عن شاعر بوسيط الاستعارة داخل لعبة تتبادل الأدوار والرموز والأقنعة، فلا يبقى من قيس إلا مُدوّنته الشعرية التي أودعها حُبّه لليلى في متاه الكتابة والحياة، أما مُدوّنة «الأخبار» التقليدية فلا معنى لها إلا في سياقات تنتظمها الكتابة من جديد، عبر استراتيجية مخاتلة تمارِس الإزاحة والنقض والتكثيف بين طرفي الخبر والنص، الرواية والشعر. تستضيف «الأخبار» منطقا جديدا ضمن لعبة الانعكاس المرآوي: كتابة داخل كِتابة، وسيرة داخل سيرة، بالمعنى التخييلي الذي يحتفي بالذات في حوارها مع الآخر المحلوم به. وفي «تركيب آخر لحياة وديع سعادة»، يستدعي وديع سعادة سيرذاته ويستثمر مقتضياته الممكنة نصّيا، فيما هو يبنيها من جديد ويعمل عليها تخييليّا عبر إعادة تركيب «الحياة الداخلية» من جماع عناصرها الدالّة، ووفق تمثُّل الذات لشذرات خطابها الباني؛ حيث السيرة تتوزّعها صور، ومشاهد، ومحكيّات، وأحلام، وهلوسات، وخيبات، وفجائع، وقد ظلّت بقاياها «الغارقة» تصطرع وتتخمّر في لاوعي الأنا، قبل أن تجد إمكان عيشها من جديد، وتجد شكل كينونتها الجديدة من خلال انتشارها، عبر رهان الغيريّة، في ذوات/ مرايا عبر محور التذكُّر والتخيُّل ذهابا وإيابا.
هكذا، صار بوسعنا أن نتتبّع اشتغال السيرذاتي ليس بصفته خطابا بانيا فحسب، بل طريقة في التعبير لتخييل ذات الشاعر حتى داخل معطياته البيوغرافية، التي يعيد بناءها وتأويلها، وتمثيل تجربة المعيش التي يناجزها نصّيا في حاضر الكتابة، من خلال من خلال انفتاحها على مجموع الإمكانات والتقنيات الكتابية والتصويرية، التي تستوجبها بنية الشعر كخطاب مخصوص مُفارق، ويسعى على ضوئها إلى تثمين الهُويّة المتدفّقة عبر رهان الغَيْريّة. فالمغامرة السيرذاتية للذات لا تتحقق إلا بـانعطافة البحث عن الغير؛ لأنّه يستحيل ادّعاء العودة إلى الذات والتطابق معها، فيكون الفعل السيرذاتي نفسه هو فعل غيريّة. وهكذا تثبت قراءة النص الشعري بوصفه سيرة ذاتية للأنا التخييلي، الأنا المتخيَّل؛ فالأنا لا يُقال إلّا بإنطاق أنا آخَر. فإذا كانت الذات الشخصية تتقيّد بمرجع يحيل على ماضيها، إلا أنّه في الشعر، تتفلت الذات السيرذاتية من نفسها بشكل جوهري.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية