فضاء الكتابة الشعرية، هو بامتياز فضاء المرايا المتحركة، بمجموع ما يمكن أن تتقمصه من أوضاع وأشكال ووظائف، إذ ليس لهذه اللغة، أو تلك، أن تدعي امتلاكها المطلق والنهائي لسلطة الكلام. ذلك أن حركية المرآة، التي هي ذاتها حركية القول الشعري، تنبهنا إلى واقع التأثير المباشر الذي تحدثه، فيما ينعكس عليها من مشاهد ورؤى والمشوب بحالة التقلبات والتحولات. تماما كما يحدث في إيقاع الصيرورة الزمنية، حيث تكون الأشياء مدعوة باستمرار، لتجديد ما يتناسخ فيها من مقالات ومقامات، بحكم انفتاحها الدائم على المستجدات الذاتية والموضوعية، وأيضا على الاختراقات والترددات الصادرة عما هو عابر، وموسوم سلفا بواقع تجدده واختلافه.
إنها الحركية المفضية إلى شحوب وأفول الهالة الموضوعة على جبين الثوابت التي تتقمص إهاب ما يعتقد أنه حقيقي من طول استئناسنا به ومعايشتنا له. علما بأن هذا الأفول،غالبا ما يكون موضوع تجاهل من قبل الرؤية الحريصة على الاحتفاظ الأبدي، بما تراكمه على امتداد صيرورتها المعطوبة من ممتلكات معرفية، تقنية كانت أم فكرية. ونعني بها الصيرورة المحرومة من عامل الحركة الذي هو في العمق، التجلي الضمني لتتالي إيقاعات الزمن الحي، والمؤثثة بمقتضياتها البشرية والطبيعية. فخارج حركية الزمن، لا توجد سوى بقايا الجثة، بصرف النظر عن مرجعيتها الدلالية، حيث لا فرق هناك بين ما هو واقعي، وما هو رمزي أو تخييلي. وبالتالي، ما من شيء يوجد هناك سوى أكذوبة الحقيقي المتبجح بأوهامه، أي ذلك الصوت الأصم الصادر عن أصداء ما هو غائب وفي حكم العدم. من هنا يصح القول، إن أفول هالة الحقيقي، يعني عمليا اختفاء المؤشرات الدالة عليه، والمساهمة في إنتاج، وهندسة مكونات المشترك، ضمن رؤية توافقية مؤطرة بأوهام اليقين. والملاحظ أن الكثير من قديم الأطاريح وحديثها، ينتظم في هذا النسق المزعوم، سواء كان معنيا بأسئلة الكتابة الشعرية، أو بتلك المنصبة على مدونات شعرية بذاتها.
وفي اعتقادنا أن مرجعية هذا الوهم، تتمثل في طبيعة النصوص المستجيبة سلفا للتلقي العام، بفعل تمحورها حول ثيمة معلنة ومزهوة بوضوحها، التي يراد لها أن تكون منتمية لما هو مندرج ضمن خانة الحقائق والمسلمات، انطلاقا من حرص الفهم على تحقيق نوع من التطابق بين آليات اشتغاله، وما يقاربه من نصوص، بغاية تكريس سلطته الإجرائية في فضاء المقروئية، باعتبار أن آلية الفهم تفقد صلاحيتها حالما يتعذر عليها ضبط ما تكون بصدده. وفقدان الصلاحية هنا، من شأنه تحجيم صلاحية العقل الذي منه يستمد الكائن البشري دلالة وجوده.
إن انمحاء الهالة عن طرس/نص ما، من شأنه ترسيخ فكرة انتفاء النماذج الثابتة والحصرية، التي تصنف على ضوئها الكتابة الشعرية. أيضا من شأنه تعميق الوعي بما تمتلكه أكوان الذوات اللامتناهية، من قدرة على تفجير المزيد من تجارب القول، والبوح، والتطريس. فبقدر ما توجد ثمة ذات إضافية، بقدر ما تنبثق معها هواجس البحث عن ممكن آخر، يتحين فرصة تجليه تحت أنظار العين الرائية. هكذا إذن، سوف ننتبه إلى وجودنا في معترك ذلك القلق العظيم، الذي ما فتئ يمسك بتلابيب الكائن، أنى تطلع إلى تسمية وتأويل ما يراه وما لا يراه.
القلق الذي لا يطمئن إلى قدر إقامته في مدارات ما يعتبر من وجهة نظر المشترك معلوما، وواضحا، ومنتميا إلى إكسير الحقيقي، الذي يتباهى بتعاليه عن كل تشكيك أو مساءلة. القلق الباحث في اللامعنى عن معناه، الذي لا يصرفه ضوء الغنيمة عن التملي في ملامح العتمة. هناك تحديدا، تتحقق لعبة استكناه ما يغري بتعقب أثر المحال، أو بالأحرى أثر الغيلان التي تستيقظ خلسة في براري الذاكرة، دون أن تكون بالضرورة محتاجة إلى رنين أجراس يدل على مكانها، ودون أن تحيل بالضرورة على واقع سبق له أن عربد بحضوره المعلن والمكشوف، في ذلك المكان أو الزمان. ولأن بذرة الشك لا تكف عن تعميق جذورها في تربة السؤال، فسيكون من الطبيعي أن يدمن القلق الشعري ترسيم قطائعه التي تراود يقظاته المتتالية بين متواليات الكتابة، ما يفضي إلى ذلك التعدد البين والملموس في ألوان وأشكال النسيج النصي، التي تأخذ في نهاية المطاف شكل تمارين، هي في حد ذاتها مناوشات لتلك الحجب الحجرية، التي يدمن الوجود على إسدالها بينه وبين رؤيتك المتشوفة للتخفيف من سوداوية الحجب.
والقول بالتمارين، هو اعتراف ضمني بالعائق الوجودي الذي لا يكف عن مشاكسة الكائن/الشاعر، في إدراكه للحد الأدنى من خصوصية الجوهر، المعبر عنه بذلك الالتباس المروع الذي يتخلل تفاصيل الصاعقة، فيحول دون تبين إيقاعاتها. أعني جوهر الشيء، الصوت، الفكرة، أو إن شئت، اللاشيء الذي يقف هو أيضا حائرا أمام فراغه المتهالك بين القول والقول. إن الاقتناع برعب العائق، هو الذي يضاعف الحاجة إلى المزيد من التمارين. ونعني بها تمارين اختراق غابات القول والإنصات. تمارين السير على حافات الرغبة والتعرف. تمارين الانفلات من جبروت آلة الوقت، بحثا عن وقت آخر لم يقع بعد في شباكها. تمارين تقشير لحاء الحرف، والصوت، وما تلكأت الصورة في البوح به، وغيرها من التمارين الممعنة في تلاعبها بأرواح الفهم والتفسير، التي تضاعف من عنت الشعر، بما هو مختبر لتجديد العناد التعبيري، كي يضرب بعصاه في متاهات ما يبدو للرائي شبه منفتح وشبه منغلق، بوصف هذا العناد، الهبة الناطقة بلسان السراب، كما بلسان السديم. وبتعبير آخر، الهبة التي وضعتها الطبيعة على لسان الكائن، في دمه، وفي مخياله، من أجل أن يمتلك القدرة على الرؤيا.
الطبيعة هي أيضا، على بينة من كل هذا وذاك، خاصة بالنسبة للعائق الماثل أمامك، والذي تتعمد هي وضعه بينك وبين أشيائها ولغاتها. غير أن الطبيعة وقبل ذلك، على بينة تامة من قدرة الشعري على تحييد ما يصد الرؤية عن الإيماء إلى منازلها. فالعائق لا يعني تجريدك من حق الرؤية، بقدر ما يعني حتمية امتلاكك لشروطها. كما لو أن الطبيعة تخشى على شعرية جمالياتها وأسرارها من الابتذال، فتتعمد حجبها عن العامة، عبر تفعيلها لدينامية العائق، بما هو حد دلالي، لا تستطيع تجاوزه سوى الحدوس الشعرية الخبيرة، باكتشاف ما يتوارى خلفه من دلالات. علما بأن المتواري، هو الذي يحيل على تلك العوالم التي لا تكشف عن جوهرها إلا من خلال تسميتها بلغة منزاحة تماما عن فضاءات الوجود العام. فمن هذا المنطلق تحديدا، يمكن الحديث عن المغامرة اللغوية التي يخوضها الشاعر، في أفق عثوره على الشيفرة السرية التي تسمح له باختراق أجواء المحفل الآخر، الذي تحرس الطبيعة على تنحيته بعيدا عن فضول الابتذال.
شاعر وكاتب من المغرب