ألبير كامو ظاهرة أدبية وثقافية خارج المعتاد، بأصوله المختلطة التي جعلته يتوقف كثيرا عند مشكلات الهوية في نصوصه الأدبية والفكرية، وبكتاباته التي أهلته لجائزة نوبل في وقت مبكر وجعلت منه أحد أهم كتاب القرن العشرين.
من هنا، فهو من الكتاب الروائيين الأكثر التباسا وإشكالا في تاريخ الثقافتين، الفرنسية والجزائرية. من جهة فهو جزائري بحكم مكان الولادة، والحياة، فقد اشترك مع الجزائريين في مآسيهم اليومية، وكبر في الأحياء الشعبية نفسها، حي بلكور مثلا، التي تكتظ بالبشر وباليوميات القاسية والظلم الاجتماعي والتقتيل الأعمى.
وعاش فقرهم وغربتهم أيضا، لأن أصوله التي ينحدر منها جزئيا هي إسبانية، ما يجعل منه فرنسيا ناقصا، حتى ولو أراد أن يكون فرنسيا كاملا. كونه إسبانيا لا يفتح أمامه بالضرورة الأبواب الواسعة لحياة أفضل. للاستعمار منطقه وعنصريته المقيتة التي بنى عليها مشروعه الاستيطاني الظالم. لا يمكنه أن يتجاوز ذلك بسهولة.
كبر ألبير كامو داخل هذه التنافرات وهذه الجاذبيات الكثيرة. لم يكن فرنسيا كاملا؟ لم يكن إسبانيا كاملا أيضا؟ ولم يكن جزائريا مثلما اشتهى أن يكون؟ كان الثلاثة مجتمعين معا دون أن يستطيع لملمة الفروقات التاريخية. أن يكون إسبانيا يعني أنه سيتغاضى عن جزأين من مكوناته التاريخية، الفرنسي والجزائري. أن يكون فرنسيا، كان ذلك يعني خيانة تاريخه الفقير الذي تقاسمه مع الجزائريين ومع «الكاراكولس» أي الحلزون، كما كانت النظرة الكولونيالية تسمي الإسبان، تحقيرا لهم.
كيف يمكن صناعة الهوية المتفردة من مجمل الهويات التكوينية الأساسية دون تنافر. ألبير انتهى إلى خيارات استعمارية حتى ولو كان ذلك شديد القسوة. انفصل عن الجزائريين أيضا في حلمهم بالاستقلال نهائيا، من الآلة الاستعمارية القاسية. فقد بقي مدة طويلة بين كرسيين، الفرنسي والجزائري، الاستعمار والثورة، ولم يحدد موقعه في النهاية إلا عندما انتصرت الهوية الفرنسية بمكونها الاستعماري في الجزائر على بقية العناصر الأخرى.
تم الانزلاق بسلاسة من خلال حصوله على وضعه الاعتباري بعد روايته الغريب التي كانت إيذانا بهذا الانزلاق، إذ خلت من أي حضور إيجابي للجزائري، وبدا ميرسو في الساحل كأنه يدافع عن نفسه من العربي الذي كان يحمل سكينا قبل أن يملأ ميرسو صدره ورأسه بعدد من الرصاصات القاتلة. وربما كان ذلك تعبيرا عميقا عن مأساته الوجودية الفردية كما عبر عنها في خطاب ستوكهولم، يوم حصوله على جائزة نوبل، حيث بدت القضية الجزائرية هامشية مهما كانت درجة التعاطف مع وضع عام عبر عنه بلغة منزلقة عن المعنى الواضح.
على العكس من صديقه اللدود، جان بول سارتر، الذي كان موقفه واضحا من الثورة الجزائرية، فساندها ودافع عن ضحاياها، وانخرط في النضال ضد الجرائم التي كانت ترتكبها المؤسسة الاستعمارية.
وكتب مؤلفه المعروف والواضح في معاداته للاستعمار والمناداة بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره: عارنا في الجزائر. هوية سارتر في هذا الدفاع كانت واضحة، فهو في النهاية فرنسي ديمقراطي متضامن مع ثورة يراها عادلة، على العكس من ألبير كامو الذي ظل رهين رؤية محكومة بازدواجية الهوية التي لم تخرج عن النزعات الاستعمارية في النهاية، على الرغم من بحثها عن مساحة عادلة ومشتركة تجمع بين كل القوميات والأديان والأعراق.
هذا الهامش والهاجس من الحرية هو الذي جعل كامو يقترب كثيرا من الحركة الوطنية، ويكتب أشياء كثيرة تصب في خانة فضح الاستعمار دون أن يعيد النظر في جوهرها، أي تاريخها الوجودي في الجزائر. من ذلك تحقيقه الصحافي الشهير: بؤس منطقة القبائل Misère de la Kabylie ، الذي أنجزه في شكل متابعة موسعة وجريئة جدا، قام بها من 05 جوان حتى 15 منه، في سنة 1939 ونشرها فيAlger Républicain ، الصحيفة اليسارية التي أسسها باسكال بيا Pascal Pia في سنة 1938 ليكون خطابها مناقضا للخطاب الاستعماري السائد، والتي استطاعت أن تستقطب تيارا بكامله مناهضا للطغيان. مشكلة هذا التيار، قبل أن ينشق داخليا بين الراديكاليين والمصلحين، هي أنه ظل متعلقا بفكرة الحقوق والواجبات، تحت الراية الاستعمارية. وهو خطاب بدا متخلفا عن تطور القضية الجزائرية بشكل واضح. الجملة الأولى التي بدأ بها ألبير كامو تحقيقه في منطقة القائل كانت قوية: ذات صباح باكر رأيت في تيزي وزو أطفالا بألبسة ممزقة يتنافسون مع الكلاب على محتويات قمامة الزبالة. أجاب أحدهم عن تساؤلاتي: يحدث هذا في كل صباح.
المقالة طويلة شديدة القسوة، وصف فيها البير كامو الوضعية المعيشية لسكان المنطقة، والفقر الذي جعل الكثير من القبائليين يموتون من شدة البرد والعزلة. كان إحساس كامو في هذه المقالة جزائريا، منصتا ومتبصرا وعادلا بامتياز. المشكلة الوحيدة والكبيرة هي أن ألبير كامو لم يُعِد في أية لحظة من اللحظات، النظر في النظام الاستعماري، والآلة التي كانت وراء الوضع الذي وصفه بدقة. على مدار صفحات التحقيق الكثيرة، لم يتحدث كامو إلا بضمير النحن، أي بوصفه واحدا من هذه المنظومة التي كان هو من ثمراتها. ولم يضع نفسه في صف الأهالي Les Indigènes الذين لم يكن لهم أي وضع اعتباري. وصف كيف يعيشون وكيف يموتون في ظروف أسوأ من حيوانات تعيش في الخلاء. ودقق في التفاصيل الصغيرة التي جعلت كل من قرأ المقالة يتعاطف مع ضحايا البرد والطبيعة والتفقير.
كان هدفه في النهاية معرفة المنطقة جيدا للتسريع من عملية الاندماج التي كان كامو واحدا من أهم المدافعين عنها. كل من قرأ تلك المقالة يشعر بأنه معني بعمق، وكأن ألبير كامو يصف وضعية ومأساة في أقاصي الشرق والغرب الجزائريين.
خبرة كامو في الكتابة الأدبية والإعلامية جعلت من مقالته مرجعا لمعرفة الوضعية المعاشية للشعب الجزائري في الحقبة الاستعمارية.
الذين يمجدون الجانب الحضاري؟ للاستعمار الفرنسي يحتاجون اليوم إلى قراءة هذا النص ليدركوا جيدا الحسنات الكبيرة التي خلّفها الاستعمار، ومنها الجوع والفقر، والأمراض المعدية الكثيرة، وحالة الأهالي وهم يتدفأون من البرد الشديد، في مرتفعات أرض القبائل، بضم أجسادهم بعضها إلى بعض. بؤس منطقة القبائل، شهادة فرنسية حية ضد الاستعمار بكل آلته الجهنمية التي ابتذلت الإنسان وسرقت حقه في العيش الكريم كما جميع البشر.
للأسف، كل هذه القوة وهذه الطاقة الخلاقة غيبتها الخيارات اللاحقة لألبير كامو عندما أصبح صوت الجزائر الأخرى جزءا من المنظومة الثقافية الباريسية في ذلك الوقت. فجأة، سكت الطفل الإسباني/ الجزائري الفقير بسبب انتصار ألبير كامو الآخر، الذي أصبح صوتا فرنسيا ثقافيا كبيرا يدافع عن جزائر متعددة تحت راية الاستعمار الفرنسي، جعلها اندلاع الثورة التحررية، غير ممكنة، بل بلا معنى.
تشخيص جيد
لك الشكر واسيني،وقد كشفتَ جانباً مهما كان مغيباً من “حياة”ألبير كامو الذي لمْ يرَ” الطاعون”الاستعماريَّ إلاَّ أدباً أهلهُ لنيل “النوبل”والشعبُ الجزائري برمته ظلَّ”غريبا”ول”ميرسى”أن يسعد بذلك ويتخفى خلفهُ” ألير”،شكراً لهذه القراءة العميقة لتحقيقهِ بايدي
تحليل جيد لشخصية كامو ، منذ أن قرأت كتابه الغريب و أنا أحاول أن أشرح لنفسى ما كتبته فى هذا المقال أستاذ واسيني، شكرا لك .
عندما نتحدث عن ظلم المستعمرين لأهل البلد ننسى حال المواطن البائس بعد رحيل المستعمر لن نجد بلدا تحسن حاله في ظل حكم أهل البلد ..دكتاتورية دموية .سرقة المال العام .حروب أهلية. عمالة للاخرين ..الخ الخ ..الله يرحم زمن المستعمر ..
الجزائريون لم يكونوا ، ليسوا ولن يكونوا “سواسية كأسنان المشط” . منهم من لم ينتظر قدوم سنة 2020 ، ليقول رأيه في الاستفتاء ، الذي جرى يوم أول جويلية 1962 ، لكن لما كانوا قلة قليلة جدا ، لا يتجاوزون 0,3 في % (16 534 بين 5 975 581) فإنهم لم يستطيعوا ، لسوء حظهم ، تغليب رأيهم ، لوقف عجلة التاريخ ، ما دفع بعضهم إلى ركوب أهوال البحر والاتجاه شمالا نحو “المخيمات” في الجنوب في بيربينيان وفي غيرها .
شكرا جزيلا الأستاذ وسيني الاعرج على هذه المعلومات المكملة و المهمة للتعرف أكثر على الكاتب ألبرت كاموس. درس و ما اجود .