كان ألبير كامو أديبا معاصرا يكتب بأدب، يرافق قلمه الصدق والصراحة، يراعي مقتضيات الكتابة في لحظتها الفورية، أي يكتب كما يفكر وكما يريد أن يفعل. فهو أديب، فنان معاصر لما يكتب في اللحظة ذاتها، ولا يترك الفجوة تحفر مسافة بينه وبين من يعيش معهم. فخلاف مواطنيه الأخيرين من الكتاب والأدباء والفلاسفة والفنانين الفرنسيين، لم يحاول هو أن يكون إلا ما أراده، يقرر مصيره بيده وفكره، الفكرة تساوق وترافق العمل في وحدة يصعب فصمها، ومن هنا صدقه وصراحته وجديته، التي استعان بها، لكي يفصح عنها بالإبداع الفني والأدبي والفكري، كأفضل مجال وصعيد يكشف السرائر والأسرار وما خفي، وما لا يدركه العوام، أي بالجملة، القدرة على تجاوز النفاق والبهتان والإفك، خاصة عندما تصبح قواعد وعملة متداولة ويلتزم بها المُتنفّذون في الحياة العامة.
ينتمي ألبير كامو إلى العصر الكولونيالي، بينما أدبه كان ولا يزال دائما مناهضا للنزعة الكولونيالية في مراحلها كافة. فهو أديب معاصر، لا يترك للزمن فرصة الانصراف أو المضي. أدبه يبقى يحايث اللحظة في عنفوانها وفي عنفها أيضا، فقد كان معاديا للوضع الاستعماري لأنه أحد ضحاياه، فهو جزائري وليس مثل الآخرين، الذين صدّقوا أنفسهم بأنهم فرنسيون حتى النخاع، أو أنهم فرنسيون في الجزائر، مع وجود أصيل وحقيقي لتسعة أعشار من العرب والمسلمين. هؤلاء الذين أوهموا أنفسهم بأنهم مواطنون فرنسيون كاملو الحقوق والحريات، في بلدٍ هُم فيه «الغُرباء» وليسوا «أهل البيت». وتلك هي المفارقة التي عاشها وعايشها إلى العظم ألبير كامو، واحتاج من أجل أن يوضحها إلى عالم الأدب وخياله وحالاته المعرفية والنفسية والروحية.. إلى الإبداع في لحظته الأبدية. ونحن اليوم كباحثين ونقاد ومؤرخين نحاول أن نلتقط بوضوح الإمكان الذي حمله ألبير كامو كمخرج للأزمة الجزائرية الحادة.
في مقال سابق، أكدنا على حيوية أعمال وأفكار ألبير كامو، واستمرارها، إلى حد الساعة. فهو القائل إن «الصحافي هو مؤرخ اللحظة». وهذا التعبير رائع جدّا بالنسبة لمؤرخي التاريخ الراهن، والتاريخ الجديد والتاريخ المعاصر على السواء. فالمقولة تضعهم في لجة «المعركة الحقيقية» التي يفرضها التاريخ المعاصر على الباحثين والمؤرخين، ولا تدعهم يتركون مواقعهم ومواضعهم من أجل البحث والدراسة والمعالجة التاريخية لما يجري من أحداث ووقائع، وما يَرِد من أخبار ومعطيات، كلها موضع معاينة وتحقق وأخذ موقف وتحديد موقع، على ما آل إليه العالم اليوم في عصر العولمة، الذي يلح على الجميع، وجوب الانتماء إليه، ليس بمعنى ما، ولكن بكل ما في الكلمة من معنى، حتى يحصل الخلاص وتنفرج الأمور. فقد كانت أول تجربة صحافية مع كامو، أنه ذهب يحقق بنفسه في الحالة الاجتماعية لبلاد القبائل عام 1938، كمراسل لجريدة يسارية «الجزائر الجمهورية»، وعاد بسلسلة من المقالات «بؤس في بلاد القبائل»، وتفاعل مع حقائق الوضع، لحد أن ذلك نغَّص عليه وقضَّ مضجعَه، لأنه شعر منذ البداية بأن الأمر يعنيه.. ولأنه أبدا لن يرضى بأن يستمر الوضع على هذا النحو المفضي إلى الكارثة. وعليه، فلم يكن المراسل ألبير كامو مجرد صحافي يسجل أخبارا ومعلومات، بل يؤرخ في اللحظة ذاتها، لما يمكن أن يحدث لاحقا، إذا لم تُسْعَف الأوضاع بإجراءات لازمة.. وقد حدثت الكارثة فعلا..
لحظة اكتشاف الذات والتأمل في الهوية ومعانيها، هو الذي مهد إلى بداية تصفية الاستعمار والسعي إلى تشكيل الكيانات السياسية الجديدة التي تستوعب الشعوب
والواقع، أن إمكانية الحديث عن الجزائر المعاصرة كتجربة تاريخية لفرنسا في الجزائر، متأت من التراث الذي خلفه كامو، بالقدر الذي صار مرجعا لكل التجربة الإنسانية برمتها، أي تاريخ الاستعمار وما بعده في لحظة منصهرة تماما تتداخل فيها اللحمة مع السّدى، لتشكل خبرة عالمية، عالمية الثورة التحريرية الكبرى التي صنعت استقلال الأمة الجزائرية. ففعل التحرر وسيرورة الاستقلال التاريخي للأمة الجزائرية لم يكن تصرفا أهليا محضا بقدر ما ساهمت فيه اعتبارات أخرى، على ما كان يرى المناضل الجمهوري فرحات عباس، في كتابه «تشريح لحرب الجزائر». تكلم كامو، كما تكلم الآلاف من الجزائريين، سواء أكانوا من الفرنسيين أو من المسلمين، على ما كان يرى ألبير نفسه. الوجود الحقيقي ليس فقط لمن يستطيع أن يأخذ الكلمة ويوضح بها رأيه وموقفه ويحدد بها مطالبه، بل يجب أن يتعدى ويتخطى مرحلة المطالب، ويصل إلى بلورة حاجاته وينتزعها انتزاعا، باعتباره من أصل البلد ومحددا لمستقبله.. لكن الغالبية الساحقة من الأهالي لا يتكلمون، بل هم ضحايا استعمار فاسد، حوّلهم إلى كتلةً من الدهماء وكمّا مهملا، لا يمكن أن ينجز ويصنع مستقبله، بل يبقى دائما موضع استغلال واحتلال واستثمار، إن من الفرنسي أو من العربي الأهلي. فالأمية والجهل، حالة معطلة تكبح إلى الخلف دائما، على خلاف ذلك العلم والفكر والفن والمدنية عماد الرقي والحياة الديمقراطية لكل أفراد عائلة الدولة ومؤسساتها. يقول ألبير كامو، في هذا الصدد «وجود سبعة ملايين من الأميين حقيقة لا غبار عليها في الجزائر، ومن ثم فلا يمكنها أن تحدد وضعها بشكل جماعي»، (كاموإلى إذاعة فرنسا الوطنية، 1 يوليو/تموز 1946). فقد دخلت الجزائر بشعبها إلى مرحلة تاريخية يختلط فيه الفعل الأهلي والفرنسي، من أجل بناء نظام الحكم اللائق بسكان الجزائر، على تنوعهم واختلافهم. الحقيقة، أن غياب قدرة المسلمين الجزائريين على تحديد وضعهم ومصيرهم، ناجم عن قوة سياسية معطلة ومعيقة لفعل وحركة التاريخ المعاصر في الجزائر، فالقدر اليسير جدّا من هذا الفعل تحدثه الثقافة الفرنسية، التي صار يبدع بها بعض من المسلمين ويتجاوبون بها مع مؤسسة السلطة الفرنسية في الجزائر. الإشكالية التي ارتقت إلى حد التحدي الوجودي عند كامو هي كيف يمكن أن تعيش في الجزائر بكل زخم المعاصرة؟ وقوام هذا التحدي هو التعايش بين المختلفين، وإن جمعهم بعض التشابه، لكن يبقى دائما، وفي المطاف الأخير أن الاستعمار فِعْل ينتج ضحاياه ويُعْدِم عوائقه وحوافزه معا.
كتب ألبير كامو في هذا المجال: «البشر لا يتشابهون. أنا أعرف جيدا عمق التقاليد التي تفصلني عن الإنسان الافريقي وعن المسلم، لكني في الوقت ذاته، أعرف جيدا ما يجمعني بهم وهو شيء خاص بهم، ولا يمكنني أن أزدريه، من دون أن أكظم كبريائي» (كامو، افتتاحية جريدة Combat ، 7 مايو/أيار1947). المشترك لا يلغي الاختلاف إطلاقا، خاصة في وضعية استعمارية تتبادل فيها العناصر المنشئة للاختلاف والتنوع والتعدد، لأن المجال السياسي كفيل بإدارتها في التاريخ المعاصر، على ما عاش ألبير كامو نفسه. الاعتراف بالاختلاف والتنوع هو الشرط اللازب للحظة المعاصرة، فقد كانت ثلاثينيات القرن العشرين مناسبة لمرور قرن من الاحتلال الفرنسي للجزائر، وقد آن الوقت ليبدأ الفعل السياسي في حياة دولية جديدة، يسري زمنها ليس على الكبار فحسب، بل على المُسْتَضعفين والمستعمَرين والضُّعفاء أيضا. ميلاد لحظة اكتشاف الذات والتأمل في الهوية ومعانيها، هو الذي مهد إلى بداية تصفية الاستعمار والسعي إلى تشكيل الكيانات السياسية الجديدة التي تستوعب الشعوب، على ما هي كائنات مختلفة ومتنوعة ومتعددة. والوجودية هي هذا التوجه بالذات: الاعتراف بحقيقة الذات المتفردة وأحقيتها في العيش على منوالها.
كاتب وأكاديمي جزائري
مقال جميل ومفيد، شكرا وننتظر المزيد