دخلت ألمانيا على خط الأزمة الليبية، عارضة مبادرة سياسية جديدة تبدو التفافا على باريس وروما، المتصارعتين على النفوذ في ليبيا. واستشف المحللون من تصريحات الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، أن برلين أجرت اتصالات مع الأطراف الدولية والإقليمية المعنية بالملف الليبي، تمهيدا لإطلاق مبادرة ثلاثية، مع إيطاليا وفرنسا، من أجل “منع تآكل الدولة الليبية” على حد قوله. ويؤكد الألمان أن العمل التمهيدي الذي قاموا به بعيدا عن الأضواء، سيُؤسس لـ”حدث دولي ذي مغزى” بشأن ليبيا في الخريف الحالي. ومن العناصر المهمة التي جعلت برلين تدفع بقوة في اتجاه عقد ذلك المؤتمر حول ليبيا، وجود حكومة إيطالية جديدة أفرزتها الانتخابات، ما حفز الرئيس الألماني شتاينماير على زيارة روما والاجتماع مع نظيره سيرجيو متاريلا، لدرس مشروع المؤتمر الدولي. وقال شتاينماير في روما إنه متأكد من توافر شروط العمل على إيجاد حلول مشتركة مع الحكومة الإيطالية الجديدة. وفي السياق أسمعت المستشارة إنغيلا مركيل صوتها لتدعو بقوة إلى عقد المؤتمر في أسرع وقت.
على أن الألمان يربطون هذه المبادرة لحل الأزمة الليبية بملف الهجرة غير النظامية من الضفة الجنوبية للمتوسط نحو الضفة الشمالية. وهم يعتبرون أن عليهم ألا يتركوا إيطاليا بمفردها، بسبب تباعد المواقف من ملف الهجرة، ويعتقدون أنهم يستطيعون الاعتماد على المفوضية الأوروبية الجديدة، للعمل بحزم من أجل إيجاد حلول لقضية الهجرة. لكن الأكيد أن فرنسا وألمانيا ليستا على قلب رجل واحد في الموضوع الليبي.
انحياز فرنسي
استبق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، أواخر الشهر، بدعوة الفرقاء الليبيين إلى اجتماع مصالحة لم يُحدد مكانه ولا ميقاته. وأتى هذا العرض الجديد لمحاولة محو آثار انحياز باريس لإحدى القوتين المتصارعتين، وهما الحكومة المعترف بها دوليا، برئاسة فائز السراج، وقوات الشرق التي يقودها الجنرال خليفة حفتر. وحاول ماكرون أن يحصل على مُباركة لمبادرته من قمة البلدان الصناعية السبع الأخيرة في بياريتس، إلا أن المشاركين اكتفوا بكلام عام، من دون منح تفويض، مثلما كان يتمنى الرئيس الفرنسي، ليس فقط لقلة اكتراث الزعماء الآخرين لما يجري في ليبيا، وإنما أيضا لأن حكومة الوفاق اعتبرت فرنسا طرفا منحازا لا يصلح وسيطا.
تغيرت أمور كثيرة منذ أن استضاف ماكرون الغريمين السراج وحفتر في “سيل سان كلو” بباريس، في تموز/يوليو 2017 بعد شهرين فقط من صعوده إلى سدة الرئاسة. وكان يبحث عن إنجاز خارجي كبير يُدشن به ولايته. وتعززت تلك الخطوة لاحقا بجمع أربعة زعماء ليبيين مرة واحدة في قصر الإيليزيه، لكنه لم يُفلح في كسر الجليد بين حكومة الوفاق (الغرب) والبرلمان (الشرق). مع ذلك، ظل الليبيون يعتبرون فرنسا وسيطا مقبولا، إلى أن ارتفع النقاب عن الدعم الاستخباري والعسكري الذي كانت (وما زالت؟) باريس تُقدمه للجنرال حفتر، والذي كشفت بعض أبعاده عملية “طوفان الكرامة” الرامية لغزو طرابلس.
وللمرة الأولى بدا في الخطاب الذي ألقاه ماكرون في قمة السبع الكبار، ضربٌ من الاعتراف بالخطأ الجسيم الذي اقترفه، إذ علق على مواقف نظرائه بقوله، في جلسة غير علنية، “نجحنا في أن نتفق على التوقف عن قتال بعضنا البعض، بالوكالة، على الأراضي الليبية” من دون إيضاح من كان يُحارب من؟ ولا من من القيادات الليبية يحتمي بالدعم الخارجي لتغيير الموازين العسكرية لصالحه؟
ثلاثة متغيرات
يعتقد الخبير الفرنسي باسكال إيرولت أن باريس لم تتعود على وضع بيضها في سلة واحدة، مؤكدا أنها تتعاون مع حكومة الوفاق من خلال وزير الداخلية فتحي باشاغا، إلى جانب الدعم الذي تقدمه لحفتر. ويندرج التعاون مع الجانبين في إطار الحرب على الإرهاب، وخاصة في منطقتي فزان (جنوب) وبرقة (شرق) ويشمل هذا التعاون أيضا مجال التدريب. غير أن المراقبين لحظوا في الأسابيع الأخيرة ثلاثة متغيرات في موقف باريس من الأزمة الليبية، أولها إقرار وزير الخارجية لودريان في تصريح لقناة “أوروبا 1″ بأنه لن يكون هناك حلٌ عسكريٌ للأزمة. وثانيها اعتراف ماكرون خلال قمة السبع الكبار، بأن باريس وروما كانتا تتصارعان بالوكالة في ليبيا، وأن هذه الحرب ينبغي إنهاؤها، و”وقفُ القتال مع بعضنا البعض”. أما الثالث فهو دعوة باريس الملحة على لسان وزير الخارجية لودريان، إلى عقد مؤتمر دولي حول ليبيا، “لإيجاد حل سياسي للأزمة”.
وبعدما كان هذا الصراع أساسا فرنسيا إيطاليا، برزت قوى جديدة رسخت أقدامها في ليبيا خلال السنوات الأخيرة، وهي في سبيلها إلى أن تُصبح طرفا لا يمكن الالتفاف عليه أو تجاهله. وهذه القوى الجديدة هي روسيا والصين وتركيا، بالإضافة للدول الخليجية. ولا تهتم هذه الدول “الجديدة” بالهجرة غير الشرعية، التي جعلت منها إيطاليا وفرنسا عنوانا كبيرا لموقفها من الصراع في ليبيا، وإنما ينصبُ اهتمامها على ثروات البلد وموقعه الجغرافي كجسر كبير إلى افريقيا. وأتى هذا الاهتمام من ضمن استراتيجيات جديدة تُركز على القارة الافريقية، منها مؤتمر القمة الروسي الأفريقي الذي تستضيفه سوشي غدا وبعد غد، وسيكون مشفوعا بمنتدى اقتصادي. ومنها أيضا مؤتمر القمة السنوي الصيني الأفريقي، الذي أظهر الأهمية الكبيرة التي بات الصينيون يولونها للقارة السمراء، ونقل عنهم اليابانيون هذا التقليد، من خلال مؤتمر “تيكاد” للصداقة مع أفريقيا، الذي يحرصون على إقامته سنويا. أما تركيا، فبالرغم من وصولها المتأخر إلى ليبيا، حصدت صفقات تجارية كبرى وأقامت علاقات متينة مع حكومة الوفاق.
تتقاطع مبادرة البلدان الثلاثة (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا) إذا ما أبصرت النور، مع الحل الذي دافع عنه موفد الأمم المتحدة، رئيس بعثتها للدعم في ليبيا، غسان سلامة، الذي كان اقترح، في إحاطته إلى مجلس الأمن، خطة من ثلاث مراحل لمعالجة الأزمة الراهنة، تبدأ بهدنة يتطلب تطويرُها خفض التصعيد، والتوصل إلى اتفاق يقضي بوقف شامل لإطلاق النار، ثم تنظيم مؤتمر دولي تشارك فيه الدول المعنية بالملف الليبي، يليه مباشرة ملتقى ليبي يضم الأطراف المحلية الفاعلة في الأزمة. وقد دعمت قمة الدول السبع الصناعية الكبرى أطروحة الدكتور سلامة من أجل تحقيق تسوية سلمية للصراع.
تمدُد “داعش”
ينطلق الحرص الألماني على تسريع الحل السياسي في ليبيا، من تزايد المخاوف من انتقال مقاتلي “تنظيم الدولة” و”القاعدة” من العراق وسوريا إلى جنوب ليبيا ومنطقة الساحل والصحراء عموما، حيث لا تسيطر أية دولة من دول المنطقة على المجال الجغرافي السائب. وتداخلت في المنطقة خلايا الارهاب مع شبكات الجريمة المنظمة والتهريب وتجارة السلاح. كما يُخشى أن تستثمر تلك الخلايا الحرب الدائرة في طرابلس، منذ خمسة أشهر، لزرع شبكات وخلايا نائمة في العاصمة.
ويمكن القول اليوم إن منطقة الساحل في خطر، إذ لا تملك الجيوش المحلية من السلاح والعتاد والرجال ما يؤهلها لمراقبة منطقة تُعادل مساحتها مساحة الاتحاد الأوروبي، وتضم 135 مليون نسمة. وانتهت الخطط العسكرية، التي وضعت في هذا الإطار، منذ أكثر من ثلاث سنوات، بتوجيه من فرنسا، إلى فشل ذريع، ما حمل زعماء المنطقة على عقد قمة في واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو، أواسط الشهر الجاري، درسوا خلالها تفاقم المخاطر الارهابية في منطقتهم. وأظهرت دراسات تم تداولها في القمة، أن نشر 4500 جندي فرنسي من قوة “بركان”، و13 ألف عنصر من القبعات الزرقاء في مالي، لم تمكن من احتواء الجماعات المسلحة التي تتحرك في المنطقة. من هنا أتت هواجس الألمان، الذين يتقاسمون مع الأمم المتحدة المخاوف من تحوُل ليبيا إلى منصة للجماعات المسلحة، التي يمكن أن يتسرب عناصرها وخلاياها إلى أوروبا من خلال موجات الهجرة غير النظامية، عبر المسالك الليبية. وكان أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وقف على هذه الحقيقة، عندما صرح قائلا “لسنا في صدد كسب الحرب في منطقة الساحل”.
فمع أن دول المنطقة اتفقت على تشكيل قوة جديدة قوامها 4000 إلى 5000 جندي لملاحقة الجماعات الارهابية، بقيادة فرنسية، فإن الجهود مازالت متعثرة لأسباب مالية، إذ أن الدول التي ستتشكل منها تلك القوة، تعتبر من أفقر البلدان في العالم، وهي مالي والنيجر وبوركينا فاسو وموريتانيا والبنين.
ضربات أمريكية
في هذا المشهد المُعقد اختار الأمريكيون العمل لحسابهم الخاص، مُكتفين بضربات جوية جراحية تستهدف عناصر يُعتقد أنها من قيادات “تنظيم الدولة” أو شبكة “القاعدة”، في الجنوب الليبي. وكانت آخرتها العملية التي استهدفت الأسبوع الماضي ثمانية عناصر من “تنظيم الدولة” في محيط مدينة مُرزُق جنوب غرب ليبيا، والتي قالت القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) إنها تمت بالتنسيق مع حكومة الوفاق الوطني. غير أن حكومة الوفاق لا تملك أية سيطرة على الأرض في الجنوب، ما يُعزز مخاوف دول الجوار والدول الأوروبية من تحوُل تلك المنطقة الشاسعة إلى نوع من مركز الخلافة غير المعلن لـ”تنظيم الدولة”.
وكانت لهذه الحرب، المستمرة منذ ثلاث سنوات، إلى الجنوب من ليبيا، تداعيات اجتماعية مدمرة في جميع دول الساحل، إذ أظهرت إحصاءات حديثة أن 3005 مدرسة أقفلت أبوابها في دول المنطقة، نتيجة للحرب التي أودت بحياة 4 776 شخصا في ستة أشهر (من نوفمبر إلى مارس الماضي). من هنا فإن وقف التمدد الداعشي يبدأ من طرابلس في رؤية الألمان والأوروبيين عموما، لأن التسوية السياسية للأزمة تفسح المجال لمعاودة بناء مؤسسات الدولة وتوحيد الجيش وبسط سلطته على الجنوب. لكن هل ستهتدي القوى الكبرى المتنافسة على ليبيا إلى توافق حقيقي يُنهي الحروب بالوكالة؟