أثار خروج حزب ميركل – الاتحاد الديمقراطي المسيحي – من الحكم ، مجموعة من التساؤلات عن التغيير المحتمل في السياسة الألمانية داخليًا وخارجيًا، فهو الحزب الذي ساهم بصنع الوحدة الألمانية، وكذلك الاتحاد الأوروبي، وما تمخض عنه من عملة أوروبية موحدة.
أمّا مرحلة ميركل فتكاد تكون قد صبغت السياسة الألمانية بلونها على مدى ستة عشر عامًا ، لتكون إحدى ثلاثة مستشارين ممن حكم المدة ذاتها بعد بسمارك وهلموت كول.
لعل الناخب الألماني – شأنه شأن الناخب في البلاد الديمقراطية- لا ينظر إلى السياسة الخارجية الألمانية بوصفها معيارًا للرفض والقبول، بقدر اهتمامه بما ينعكس عليها إيجابًا في البرامج الانتخابية للأحزاب المتنافسة، كالصحة والتعليم والضمان الاجتماعي، والبيئة.
الصوت الانتخابي
ثمة أسئلة فرضت نفسها في خروج حزب ميركل، وتقدم أحزاب أخرى، لعل الأجوبة عليها تكمن في أنّ منافسي حزب ميركل قد استخدموها في الوصول للصوت الانتخابي، وهي مشكلة اللاجئين فضلاً عن الحديث عن البيئة والرقمنة، والحدّ الأدنى للأجور، حيث برزت مشكلة اللاجئين بعد أن اتخذت ميركل سياسة الباب المفتوح في قبول اللاجئين القادمين من بلاد تموج بالصراعات، ولاسيما سوريا والعراق واليمن وأفغانستان، ولعلها صنعت مشكلة بنيوية في المجتمع الألماني، وأدّت لتصاعد دور الأحزاب الشعبوية وفي القلب منها الحزب البديل AFD متناغمًا هذا الصعود مع عدد من الأحزاب الشعبوية في أوروبا، بعد موجة لجوء غير مسبوقة كان لألمانيا نصيب الأسد منها، هجرة انقسم الألمان حولها على المستوى الاجتماعي والسياسي، ولم تتوقف عند صنّاع السياسة فقط، وقد اتخذت منها بعض الأحزاب سبيلًا للوصول إلى الناخب سواء بالاتفاق مع ميركل أو بالاختلاف معها.
ففريق رأى أنّ المهاجرين سيسدون النقص الحاصل في اليد العاملة نظرًا لازدياد أعداد المرشحين للتقاعد، فضلاً عن أنّ المجتمع الألماني يوسم بالمجتمع الهرم، ووجود المهاجرين ولاسيما فئة الشباب، سوف يؤدي لاستمرار الانتاج في بلد يُصنّف أنّه صاحب الاقتصاد الأول أوروبيًا ، والرابع عالميًا؛ وفريق يرى أنّ المهاجرين لا تتوقف “خطورتهم” في الأعداد التي تدفقت على ألمانيا ، بل أنّ الخطر يكمن في الثقافة التي يحملها المهاجر وأثرها على المجتمع الألماني ، مما يجعل الثقافة الألمانية والقيم الألمانية في خطر.
استخدمت الأحزاب المتنافسة ومن ثم المؤتلفة في التشكيل الحكومي الحالي، ما يُطلق عليه الكلمات ذات الدلالات المتعددة والتي قد تصل إلى حد المبالغة في شدّ الناخب، وهي التحديث والرقمنة والبيئة، وشكل المؤتلفون فيما عرف بإشارة المرور، في إشارة إلى ألوان الأحزاب الثلاثة الاشتراكي الديمقراطي، والخضر، والأحرار الليبراليون.
الائتلاف الثلاثي أو “إشارة المرور” وضع برنامج عمله القائم على تحديث ألمانيا والرقمنة، والبيئة، والحديث عن البيئة يعني أن هذا البند يعود إلى حزب الخضر الذي يرفض استخدام الطاقة النووية، ويسعى لوسائل بديلة صديقة للبيئة، ولاشك أن تخلي الائتلاف عن الدعوة إلى رفع الضرائب يعود إلى رغبة الأحرار بذلك ما يدفع بالائتلاف للقروض لتفعيل برنامجه الحكومي، وأنّ رفع الحد الأدنى للأجور إلى 12 يورو للساعة، يصبّ في مصلحة العامل في ألمانيا.
الحقائب الوزارية
بعد أن أصبح الاشتراكي الديمقراطي” ألولاف شولتز” مستشار ألمانيا الجديد، فإن التوزيع الوزاري في الوزارات السيادية جاء متناغمًا مع توجهات الأحزاب، بعيدًا عن شعار الحكومة “التحلي بالجرأة من أجل مزيد من التقدم. تحالف من أجل الحرية والعدالة والاستدامة”
فقد حصل الخضر على وزارة الشؤون الخارجية والمناخ والاقتصاد، ولاشك أن وزارة المناخ تعني أن الكهرباء النظيفة، والحفاظ على البيئة والعمل على التخلي عن الفحم، والسعي لإنهاء الطاقة النووية ستكون من أولويات عمل الوزارة .
وحصل الليبراليون على المالية، وهذا يتسق مع طروحات الليبراليين في زيادة الحد الأدنى للأجور، ورفض زيادة الضرائب.
وفي ظل ما حصل من تشكيل ائتلافي وزاري ، يبقى ” وباء كورونا” أحد أهم المشكلات التي واجهت حكومة ميركل، واستخدم التعامل مع هذا الوباء ضد حزب ميركل الذي فشل في البقاء في الحكومة، فالوباء لم يكن محليًا بل عالميًا، ولعل ألمانيا – رغم ما تكبدته من خسائر مالية – ظلّت إحدى أفضل الدول في التعامل مع هذا الوباء على المستوى الصحي، لكن هذا لم يشفع للحكومة السابقة، ولهذا سارع الائتلاف الجديد ممثلاً بالمستشار الجديد “شولتز” لتشكيل فريق دائم في ديوان المستشارية لإدارة ملف كورونا فضلاً عن إنشاء مجلس علمي للأوبئة في وزارة الصحة.
السياسة الخارجية
لعل السياسة الخارجية الألمانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، هي الثابت الوحيد الذي حافظت عليه كل الحكومات المتعاقبة، بعد طي صفحة الحرب العالمية الثانية وما خلّفته من مصائب على ألمانيا والعالم، ولهذا ظلّت تنعت السياسة الخارجية الألمانية بالسياسة المحافظة أو يسميها البعض اللعب بين الحبال، ولكنها سياسة غير تصادمية، ولا تخرج عن السياسة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي، بوصف ألمانيا عضوًا في الحلف، ولعل أحد المآخذ كانت على ميركل توقيع اتفاق الغاز مع روسيا وهو المشروع الذي عُرف بـ نورد ستريم 2 ، وهو مشروع ضخم وقع مع شركة الغاز الروسية العملاقة غاريزوم، وعدّ هذا المشروع تحديًا للولايات المتحدة الأمريكية ، فضلاً عن تهديد الرئيس الأمريكي السابق ترامب بفرض ضريبة جمركية جديدة على السيارات الآتية من الاتحاد الأوروبي .
لكن ذلك لم يصل إلى أن تكون السياسة الخارجية الألمانية في حالة عداء مع واشنطن أو الاقتراب من أعدائها إلّا فيما يؤمن بعض المصالح الاقتصادية، فيبدو أن ذلك ممكن بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية ، ولكن ما عانته ألمانيا ومازالت تعاني منه، محاولة الحفاظ على الاتحاد الأوروبي، وهي القلب النابض له، وقد شكّل خروج بريطانيا منه، وتعرّض دول فيه لأزمات مالية كبيرة تحملّت ألمانيا ومازالت أعباءها، أمّا من حيث بناء القوة ، فالحكومة الجديدة تتجه لتحديث الجيش الألماني ودعمه بالمسيّرات فضلاً عن السماح له بالمهام القتالية الخارجية وليس فقط المهام اللوجستية، لكنّ هذا لا يعني بحال من الأحوال العودة لما قبل الحرب العالمية الثانية، فاهتمام الألمان ينصب في الجوانب الاقتصادية، والثقافية، والتأثير بالكتلة الديمغرافية الكبيرة في أوروبا التي تتكلم الألمانية.
هل ثمة تغييرات متوقعة؟
ثمة أمر مهم في السياسة الداخلية الألمانية، وهو الحفاظ على النظام الاجتماعي الذي تتميز به ألمانيا، بل تفاخر به ، ولهذا تعمل كل الحكومات على تعزيزه والحفاظ عليه، وإذا كانت الوزارات التي تحدثنا عنها تشابه أولويات الأحزاب المؤتلفة، فإنّ هذا يعني بطريقة أو أخرى، أنه سيكون التعامل مع الملفات الداخلية بطريقة واقعية، حيث سيكون حزب الخضر مؤثرًا في ملف اللاجئين، وهو الداعي إلى نبذ العنصرية والكراهية، ولن يحيد عن ذلك الاشتراكي كونه كان مشاركًا مع حزب ميركل في الحكم ، ولهذا ستعمد الحكومة – في الغالب- على العمل على دمج اللاجئين في المجتمع الألماني، وربما التخفيف من القوانين الناظمة للجنسية والإقامات المختلفة. كذلك على الصعيد المحلي لابدّ أن العمل على تنفيذ البرنامج الموضوع سيكون من خلال الاقتراض وليس من خلال رفع الضرائب سيشكل عائقًا أمام الحكومة، وربما يسرّع في فشلها، لاسيما أن حقبة ميركل كانت ناجحة بكل المقاييس رغم الأزمات الكبيرة التي مرّت على العالم ، وقد خرجت من الحكم بإرادتها ، ولم يسجل عليها أي فضحية مالية أو غير ذلك .
كاتب سوري
كلام رائع جدا