يعتقد الكثيرون منّا، بتأثير من وازع دينيّ أو غيبيّ أو غير ذلك، أن النعيم والهناء مقدّران بيننا بصورة عادلة، لكن هناك من يرى أن الحياة باغية في تقسيم السعادة، فقسم منّا يتسلّق سلّمها على الدوام، وقسم لديهم ميل فطريّ نحو خيبات الأمل، فهم يهبطون على سلّم الحظّ إلى آخره. في رواية «الشارة القرمزيّة» لناتانيال هوثورن، نقرأ عن عائلة كانت فيها «الفتاة الكبرى تمثال السعادة في سن السابعة عشرة»، وكانت «الجدة تمثال السعادة في سن السبعين»، ولم يعطنا الروائي تفسيراً لسبب الشعور الفائق بالسعادة الذي كان يغمر الجدّة والبنت. هل نستنتج من هذا أن المرء يمكن أن يكون سعيداً من دون سبب، ويمكنه أن يصبح تعيًسا كذلك للا سبب؟ يصحّ هذا القول بالطبع إذا استثنينا الظروف القاهرة والطارئة التي تُقحم البشر في حياة هانئة أو شديدة المرارة، مثل حصول حدث مؤات وتحقيق أمنية معيّنة، أو التعرّض إلى الإصابة بمرض لاعج أو فقدان عزيز أو خسارة السمعة والمهانة العامة… يمكن للمجنون أن يكون سعيدًا، فها هو يضحك ويغنّي ويرقص في الشارع، كما ويمكن للمجذوم أن يعيش النعيم بكلّ ألوانه مع أنه عليل، لكن مثل هذه النعمة لا يطلبها أو يرجوها أحد أن يمنّها عليه زمانه، ويحدث أن يمتلك أحدنا جميع أسباب السرور والرغد، ومع هذا يكون مهموماً بامتياز.
أكثر الأمور إثارة في الحياة هو استحالة وقوع بعض أحداثها، ومع ذلك فهي تحدث بكلّ بساطة مثلما يستيقظ طفل من نومه. وإذا كانت الشجاعة والذكاء، والحلم والقدرة على الصبر، صفات نكتسبها بالوراثة ولا دخل لنا في تقريرها، فإن ما نشعر به من راحة وهناء، أو عكس ذلك، يعود إلى نفوسنا مباشرة، وأعظم ما يخشاه المرء هو التعاسة في حياته، وليس هذا فقط، إنما ليس سهلاً أن يكون لديك صديق أو قريب يكابد مرض الاكتئاب حتى ولو في الخيال، فهذا لا يمرّ به أحد أو يسأل عن صحّته، وكأنه أصيب بأبشع عاهة أو مرض معدٍ بطريقة النظر، كما أن مجرّد التفكير بأمره مستبعد تمامًا، خشية أن يمتدّ جذر الكِدر القويّ والمتفرّع في تربته إلى روح المرء، فتنبت منه شجرة الشقاء المسمومة، وثمارها أشدّ مرارة من الزقّوم.
عندما يكتئب الجسم فإن القلب يذبل. انتحرت آنا كرنينا بسبب الشعور الفائق بالتعاسة تحت عجلات القطار، وقتلت إيما بوفاري نفسها بالزرنيخ للسبب نفسه، وقصة الكاتبين ستيفانج فايج وأرنست هيمنغواي في طريقة إنهاء حياتيهما، شهيرة. حين علمت الشاعرة آني ساكستون بانتحار سيليفيا بلاث، ارتعبت وقالت: «هذا الموت لي». كانت مصابة بحالة اكتئاب نمت في روحها بصورة بطيئة للغاية. بعد إحدى عشرة سنة، لفّت نفسها في معطف من الفرو وجلست في سيّارة سباق وأشعلت محرّكها في مرآب مغلق.
إن كان الوجع أصاب الروح منّا فلا طريقة لوصفه، أو أنني عاجز عن تصويره بالتعبير الأدقّ، وإذا شاء حظّك الأنحس أن تقاسي من داء «الاكتئاب» فإنك سوف تحسب الأيام البطيئة، ثم دقائق الساعات البطيئة، وشيئاً فشيئاً تقوم بحساب الثواني وهي تمرّ. بعيداً عن أدوات الطبّ ومُعطياته، يمكنني تعريف هذه العلّة بأنها تورّم العقل الناضر (من النضارة)، وما يتبعه من فقدان القدرة على الدفاع عن النفس، ينقلب الكونُ عندها إلى أعداء لا يُحسبون لكثرتهم، حتى الذبابة التي تعبر عن بُعد ميل تتحوّل بواسطة الضنى الشديد الذي تسبّبه الكآبة إلى غول، وأنت قابع في مكانك بلا حول ولا قوّة. قرأتُ هذه الجملة المسجوعة (عبدٌ بلا سلاح كالطير بلا جناح) منقوشة على خنجر قديم، وفيها أبلغ وصف لهذا المرض. العبد: هو الإنسان حرّاً كان أم مملوكاً، وعندما يكون المرء أعزل تماماً مثل طائر مقصوص الجناحين، يهجم العالم عليه ويحاول النيل منه، لأنه صار بلا حامٍ ولا مدافع يُبعد عنه الألم الصغير والكبير والأكبر.
الدماغ البشري بإمكانه الوصول بنا إلى القوّة العُظمى، وإلى العجز الأكيد أيضاً، وقيل قديماً: إذا أراد الله أن يُهلكَ امرأ، أصابه بمرض في عقله. والمقصود هنا ليس الجنون بالطبع، لأن المجانين لا يفهمون شيئاً ولا يشعرون بالتالي بأي ألم من جرّاء عاهتهم. الاكتئاب هو الجنون الذي يصاحبه وعي المرء لحاله، ولهذا السبب يُقدم على الانتحار، لأنه لا يحتمل أن يقضي حياته بقلب ذابل وعقل كسيح.
هنالك نوعان من الألم؛ نفسيّ وجسديّ، يختلفان في نوع المجسّات المستقبِلة في جهازنا العصبي، لكنهما يتشابهان في مقدار الأذى، وهذا يثبت أن الروح جزء من الجسد، وليست لغزاً أو سرّاً باطنيّاً أو نوراً يُضيئنا من الداخل إلى الخارج، مثلما تخبرنا كتب الدين والأدب. الاثنان؛ ألم الجسد والروح، ينامان في أثناء الرقاد، ويحملان علينا في اليقظة، والبرء منهما يكون عادة عن طريق أدوات الطبّ المتنوّعة. ربما أخذ العرّافون والمشعوذون بعض الدور في العلاج، فإذا فشلت جميع الوسائل أطلقتُ عليه اسم «ألم ثلاثيّ الأبعاد».
العالم مليء بتنويعات للأوجاع، وأكثرها أذى هو الألم الجبّار ثلاثيّ الأبعاد، يقهرنا ويذلّنا ويجعل واحدنا مثل قشّ على أرض جرن، وجهاً لوجه مع مزاح القدر، ننحني أمامه بصمت دون أي إرادة، ودون وعي طبيعي، ودون قدرة على الدفاع، ولا يفيد طبّ عندها ولا حكمة، واسألوا مجرّباً واسألوا حكيماً… فإن كانت الروحُ هي البدن أو بضعة منه فإني أستعير أدوات الثاني في اجتراح صورة للعذابات التي تكابدها النفس عندما تُصابُ بهذا الوصب. هل جرّبتَ أنّ أحداً ينخسك في عينك ويدوس على قلبك على مدار الساعة، ويطحن كذلك عظامك؟ عندما يتخلّى عنك العالم فإن كلمة ألم غير مناسبة، لأنه عبارة عن ضباب عذاب يُثقلكَ كالعماء، وأنت تفتّش عن بصيص ضوء في بئر وحشة قلبك، وليس ثمة من يقدّم لك المساعدة لأنك بلغتَ المستوى السابع من الألم، وذقتَ البؤس بكلّ ألوانه. مَنْجَاتُك في يومك من هذا العذاب ساعات قليلة من النوم تسقط فيه مثلما في وهدة، وهو غير النوم الذي يعرفه الجميع، بل خدر حزين يريحك أولاً فتنسى شقاءك وجحيمك الذي صرت فيه، سرعان ما يتحوّل إلى نوع من الشلل يُسكب عبيره فيك ويضمّخك برائحة الموت، فتفزّ مرعوباً ليغلّف العذاب قلبك وعقلك ودم حياتك من جديد.
الأوجاع الصغيرة والمتوسطة ناطقة، أما الكبيرة والجسيمة والتي تجعل المرء يرتجّ ويضطرب فصامتة. نقرأ في الإنيادة، وكانت إحدى نساء فرجيل تتعذّب وتحترق في أتون ألم الفراق: «ثم أفسح ألمها أخيراً الطريق إلى صوتها». كلّ معاناة تتجاوز طاقتنا على التحمّل، تمحو في الوقت نفسه قدرتنا على الكلام، وغالباً ما يخنق الصوت ذاته. هنالك مقدار من العذاب يستطيع المرء تحمّله، إن زاد عن حدّه ولو بمقدار ذرّة، تُصابُ الأعصاب بالشلل؛ لأن الدماغ الأعلى أعطى أوامر بما يُدعى بالنهي العصبي، أي أنّ عليها أن تتوقّف عن العمل تماماً. كما أن من أعراض الألم ثلاثيّ الأبعاد أنّ المصاب به تتغيّر بداهته وطريقة تفكيره نتيجة العزلة والمقاساة، فيرتكب الحماقة بسبب عقله المشوّش، وربما قام بفعل جرميّ ضدّ نفسه وهو يجرّب الانتحار عندما يتملّكه اليأس من الشفاء. إنها آخر إطلالة من نور الحياة فينا إلى الخارج، يعمّ بعدها الظلام الحتميّ والأخير والدائم.
يقول جان جينيه: «إذا وقعتَ، فسوف تستحقّ الصلوات الجنائزيّة الأكثر تقليديّة». عندما يتملكك الألم ثلاثيّ الأبعاد ويسيطر عليك، تحترق روحك بنار خفيّة تأكلك ببطء، لكن الحياة تتدفق فيك بقوة وزخم بحيث يصبح الموت ذكرى حزينة ويأتي في هيئة بكاء في أثناء النوم، وتكون على يقين عندها أن أمر النجاة يحتاج إلى معجزة تشبهُ أن يقفز المرء من الأرض إلى السطح السابع من المبنى بقفزة حادّة الزاوية وزجزاجيّة، أو أن يحترق ويغدو رماداً ثم تعود الحياة إليه، بما يشبه قصّة طائر العنقاء التي رواها المؤرّخ هيرودوت أول مرّة، وذكر أنها تحصل مرّة واحدة في كلّ ألف عام.
أسباب التعاسة عديدة، وكذلك مسبّبات السعادة، وللاثنتين خاصيّة مشتركة، وهي أنهما تقعان على طرفي خط الحظ الذي يتلاعب بنا ويحدّد مصيرنا. عن الفيلسوف مدني صالح: «قل ما تشاء عن الحياة، لكنها تبقى مسألة حظ»، وحلو الحظّ بيننا من كان بعيداً عن داء الاكتئاب الذي يُسمى في عالم الطبّ (أبو الأمراض) جميعاً. الانهماك في العمل طوال اليوم هو تعريف للسعادة الحقيقيّة، وليس كلاماً أدبيّاً عنها، والفتور في الهمّة وعدم الجدّية أو فقرها يؤدي بالمرء إلى الإحباط، يتبعه شعور عميق بالاشمئزاز من الحياة، يضع القدم على الخطوة الأولى من طريق التعاسة الذي ينتهي بالاكتئاب، وأعراضه تكون على درجات يتسلّقها المرء جميعاً إذا كان تعيس الحظ جداً، ثم يقدم على الانتحار حتماً، بالغاً الخطوة الأخيرة من طريق الأسى.