رغم تأكيد نتنياهو مجدداً على رفضه قيام دولة فلسطينية، لأن ذلك سيؤدّي إلى «خطر وجودي» على إسرائيل، إلّا أن جوزيب بوريل، تحدّث عكس ذلك، في اليوم التالي لذلك التصريح، مطلع الأسبوع الماضي، في الاجتماع الشهري لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، الذي حضره هذه المرة نظراؤه من المملكة العربية السعودية ومصر والأردن والأمين العام لجامعة الدول العربية، إضافة إلى وجود منفصل أيضاً لوزيري خارجية إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
خرجت من ذلك الاجتماع خطة طريق، في قلبها دعوة لعقد «مؤتمر تحضيري للسلام» ينظمه الاتحاد الأوروبي ومصر والأردن والمملكة العربية السعودية وجامعة الدول العربية، مع دعوة الولايات المتحدة والأمم المتحدة أيضا للمشاركة في المؤتمر، وصيغت معالم «مشروع» من عشر نقاط مقترحة لذلك المسار:
ورد أولاً في خطة الطريق تلك أنّه ينبغي أن تؤدي هذه العملية إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة «تعيش جنباً إلى جنب» مع إسرائيل، وكذلك إلى تحقيق «التطبيع الكامل» للعلاقات بين إسرائيل والعالم العربي، ومن أجل ذلك لا بدّ من قيام الجهات الفاعلة الدولية بمساعدة الطرفين على إعداد أسس للسلام… وفي بناء «بديل سياسي متجدد» لحماس.
أيضاً يتعين على الأطراف الدولية الفاعلة أن تعقد في أقرب وقت ممكن، مؤتمراً تحضيرياً للسلام، للتسوية وإنهاء الحرب المستمرة، خاصة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ويمكن الوصول إلى تصميم للإطار المبدئي للخطة من خلال تشكيل مجموعات عمل خلال عام واحد. وتراعى في تلك الخطة تلك العناصر الأساسية في قرارات الأمم المتحدة، مع تأمين ضمانات أمنية قوية لكلّ من إسرائيل والدولة الفلسطينية المستقبلية، بشرط الاعتراف الدبلوماسي المتبادل و»التكامل» بين الطرفين. وينبغي أيضاً استمرار التشاور مع الطرفين في جميع الخطى، ولكن «إذا قرر أحد الطرفين الانسحاب سيستمرّ المؤتمر في أعماله». وتتضمّن النقطة العاشرة من الخطّة تلك، الإجراءات التمهيدية والملحّة، مثل مواجهة الأزمة الإنسانية، وإطلاق الرهائن، ومنع التصعيد الإقليمي. تضمّنت كذلك تعزيز الشرعية الديمقراطية للسلطة الفلسطينية، ودعم إعمار غزّة، من بين أهداف أخرى.
مسألة وقف إطلاق النار وتخفيف التوتّر مهمّة استثنائية لا بدّ من التركيز عليها وإعطائها الأهمية القصوى وبذل الجهود لتحقيقها، بما في ذلك تسهيل حلّ مسائل الرهائن والأسرى والمعتقلين
للوهلة الأولى، يبدو ذلك المسار مستحيلاً، وفي الوهلة الثانية يبدو ضرورياً.
فقد كان مارتن غريفيث مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، أكثر تواضعاً في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حين طرح بدوره خطة من عشر نقاط، لكنّها تتعلّق باختصاصه الإغاثي، وتطالب «بتسهيل جهود وكالات الإغاثة لضمان التدفق المستمر والآمن لقوافل المساعدات، وفتح نقاط عبور إضافية لدخول الشاحنات التجارية والمساعدات، بما في ذلك معبر كرم أبو سالم، والسماح للأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الأخرى والقطاعين العام والخاص، بالحصول على الوقود بكميات كافية لتقديم المساعدات والخدمات الأساسية»، كذلك «تمكين المنظمات الإنسانية من إيصال المساعدات في أنحاء غزة كافة، من دون عائق أو تدخل، والسماح بتوسيع عدد الملاجئ الآمنة للنازحين في المدارس والمرافق العامة الأخرى في أنحاء غزة والتأكد من بقائها في أماكن آمنة طوال فترة الأعمال العدائية، وتحسين آلية الإخطار الإنساني للمساعدة على تجنيب المدنيين والبنية التحتية المدنية التعرض للأعمال العدائية، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية».
وردت في تلك الخطة نقاط عملية أيضاً مثل «السماح بإنشاء مراكز توزيع إغاثة للمدنيين، حسب الاحتياجات، والسماح للمدنيين بالانتقال إلى مناطق أكثر أماناً والعودة الطوعية إلى منازلهم، بالإضافة إلى تمويل الاستجابة الإنسانية التي تتطلب في الوقت الراهن 1.2 مليار دولار- في منتصف نوفمبرـ وتنفيذ وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية للسماح باستئناف الخدمات والأنشطة التجارية الأساسية، والذي يعد حيوياً أيضاً لتسهيل إيصال المساعدات، والسماح بالإفراج عن الرهائن، والسماح للمدنيين بالتقاط أنفاسهم». وما تمّ تنفيذه من خطة غريفيث العملية الإنقاذية تلك، لا يتعدّى كثيراً ما كان يمكن أن يتحقّق من دونها؛ فكيف بنا ونحن نتحدّث عن خطة للسلام الشامل، كما فعل بوريل، الذي ينشط كثيراً مع المفوّضية الأوروبية كلّها قبل أربعة أشهر من الانتخابات الأوروبية؟!
هنالك عقبتان أساسيّتان أمام مثل تلك الخطة التي تتصدّى لمسائل استراتيجية وذات عمق دام عقوداً:
أولى تلك العقبتين في الجانب الفلسطيني، حيث حركة حماس التي تصر إسرائيل على القضاء عليها وتدمير بنيتها، وهي – من طرفها- لم تستطع حتّى الآن أن تعطي انطباعاً أكثر جنوحاً للسلم، منذ ما حدث في» طوفان الأقصى»، ورغم ما أصدرته أخيراً من أوراق تتحدّث عن» دولة فلسطينية» تتعارض مع ما كانت تقوله – بشكل مباشر أو غير مباشر- حتى صباح «الطوفان» نفسه. وربّما كانت وطأة الهجوم الإسرائيلي ماديّاً وسياسياً وإنسانياً هي السبب في تلك المحاولة المستمرّة من دون أفق حتى الآن. يقول بوريل يُغري الحكومة الإسرائيلية، إن حماس قد أصبحت» ضعيفة بما فيه الكفاية»؛ لكنّ ذلك لا يبدو مقنعاً لنتنياهو وأصحابه حتّى الآن. هؤلاء ما زالوا مستمرّين في عمليّتهم، التي تترافق مع جهود فائقة الشراسة بدورها في الضفة الغربية، التي تجهد كما يبدو للقيام بعملية أخرى موازية لتلك التي في غزّة، تحاول أيضاً التأسيس لتفريغ الضفة من سكّانها. وإسرائيل هنا لا تلاحق حماس والجهاد وحدهما، بل تضعف السلطة الفلسطينية بأكثر ممّا هي ضعيفة، وتعطي بذلك ذريعة لتلك السلطة لتغطية عجزها وفسادها وتهافتها، بل انحطاطها بالمعنى الأكثر شمولاً. هنا تبدو إشارة خطة الطريق موضوع هذا المقال متحفّظة بعض الشيء، حين تتكلّم عن دعم شرعية السلطة «الديمقراطية»، بعد تراجع أسهمها الكبير حتى الآن… هنا السؤال الصعب الثاني بعد سؤال حماس: هل يمكن ترميم تلك السلطة وإيقافها على قدميها ولو بالجصّ والدعامات الخشبية، لتقوم بما ينبغي لها القيام به؟!
العقبة الثانية، تتركّز في الصعوبة الأكبر أمام أيْ مسار سياسي في الجهة الإسرائيلية، حيث تتربّع أسوأ حكومة في تاريخ إسرائيل، تخرج عن أي تصنيفات سياسية واجتماعية وفكرية معروفة. تلك الحكومة هي، تحالف تحتلّ القوى الاستيطانية التي تطلب طرد الفلسطينيين» من النهر إلى البحر» مكاناً مهمّاً فيه، لا يمكن لنتنياهو المهدّد شخصياً، ليس بخسارة أية انتخابات مقبلة، بل أيضاً بخسارة حريّته ودخول السجن بسبب قضاياه القانونية الكثيرة، أن يُغيّر فيه.
حين يعرف الإنسان شراسة هجوم تلك القوى التي يقف على رأسها نتنياهو، من خلال محاولتها التي كادت تكتمل بإنهاء استقلال السلطة القضائية وتحجيم قدرة المحكمة العليا وإقرار القوانين اللازمة لذلك، لتنال بذلك ليس من «أعدائها» الفلسطينيين أو العرب، بل من مصدر قوة إسرائيل الأكبر، بتفوّق بنيتها الديمقراطية نسبياً، التي ابتدأ قانون «يهودية الدولة» بالنيل منها أوّلاً بما يفتحه من أبواب على الفصل العنصري ضد عرب إسرائيل، ثمّ جاء قانون الحدّ من سلطات المحكمة العليا ليمنعها من إضعاف نتنياهو المطارد والمثقل بالقضايا.
وإذا كان لحرب غزّة من إيجابيات، فربّما تكون في إتاحة فرصة للمحكمة العليا لإلغاء فقرة تحدّ من سلطاتها «العليا»، مقابل» سلبيّات» كثيرة – تحرص عليها حماس غالباً – كلّها تغذّي التطرّف والتوحش في الجانب الإسرائيلي.
مع أهمّية ما سبق وضرورة التعامل معه، تبقى مسألة وقف إطلاق النار وتخفيف التوتّر مهمّة استثنائية لا بدّ من التركيز عليها وإعطائها الأهمية القصوى وبذل الجهود لتحقيقها، بما في ذلك تسهيل حلّ مسائل الرهائن والأسرى والمعتقلين- المدنيين خصوصاَ- يبقى أيضاً أن «حلّ الدولتين» يكاد يموت وينتهي عمليّاً، ولا يبدو في الأفق بديل له من نوع الدولة ثنائية القومية، من البحر إلى النهر للجميع!
كاتب سوري