أماني زهران: بين جذور الهوية المصرية وتحديات الفن البصري الحديث

حجم الخط
0

لم يمنع الإلمام بالمقاييس الأكاديمية العالمية للفن البصري، التشكيلية المصرية أماني زهران من تحويل محور اهتمامها إلى الواقع المصري، في أغلب منجزاتها التشكيلية، رغم التحديات التي ما زالت تطرحها الصورة الفوتوغرافية إلى يومنا هذا. وهو تحد آخر وامتحان لمقياس أبجديات الإتقان ومادية الأعمال، يضع الموهبة التشكيلية في الميزان. عرف هذا التحدي فنانون مرموقون منذ منتصف القرن التاسع عشر تاريخ ظهور الصورة الفوتوغرافية (1839) منهم الفرنسي جيستاف كوربي، قابر الرومنسية الذي تعرض لأبشع النعوت عندما تجرأ على التسطيح وتنزيل محاور العمل البصري، إلى سرد واقع البسطاء في زمن تخلد فيه الفرشاة الحياة الأرستقراطية والوجوه النافذة دون غيرها.
بفضل تجذرها في بيئتها (الدلتا) وتصالحها مع محيطها المجتمعي الواسع، والطبيعي الضيق على حد السواء، التحمت أعمال زهران مع تطلعات واقعها الشعبي، فترسخ توجهها التشكيلي الحيوي مكانيا وزمانيا كمشروع قوام شخصية فنية ذات هوية عربية مصرية أصيلة. كما امتد حافز التشييد والتجديد إلى تسجيل مرور اللحظات المنسية، وترتيب صور المشاهد المهمشة في المدينة والقرية والحارة والشارع والبيت، ورصد مشاغل تصنيف الفلكلور المحلي والإقليمي، كرد محتمل – سواء إراديا أو لا إراديا – على مثالية التوجهات الشرقية الطوباوية المعتمدة، وهفوات التصنيف المنسوخة من الغرب، وفظاعة الخيارات النخبوية المهزوزة في جانب، وجشع التعامل الأكاديمي المفروض في جانب آخر، أمام عمى التقليد المفلس والتقييد المتأخر، وتفاهة نسخ المشاهد الواقعية لمجرد غايات لا فنية رخيصة، وهي عوامل تُضعف الإمكانيات، وتبذّر مقدرات الثقافة المحلية، وتُشتت مخزون الذاكرة الشعبية داخل قوالب التحدي الأيديولوجي العقيمة ووسط خطابات الإفلاس الفكري ومسارات الفقر الجمالي. فأنعشت الفنانة ببنائها الجمالي الصارخ والمنسجم زمن اللحظة الفنية الخالدة، وترسخ معنى الكائن وتعمق تأثير انعكاس الدائرة المكانية المتفردة، وكان الزمن الفني أثمن من الذاتي، فبرزت بوادر تفاصيل النسيج التشكيلي الجمالي ووصول الأعمال لمقاربة النحت التصويري، بفضل الجودة والتكامل والتداخل العناصر وتألق عنصر الرسم ما أدى لتجاوز الأصل، لاسيما مع حضور العلامات السردية في الشخصية الشرقية بخصوصية الملامح وزاوية النظر والمزاج والهندام والملابس والأكسسوار والإطار العام بخيارات مميزة ألّفت بين التصوير والتعبير.
هكذا كان اتجاه التشكيلية أماني زهران إثر تمكنها من أبجديات التشكيل، بعد إتمام الدراسة الأكاديمية العليا في جامعة حلوان، ثم الالتحاق بأكاديمية الفنون حتى 1995. وبعد إلمامها بمختلف النظريات الجمالية والمدارس الفنية البصرية، تحولت إلى إنتاج فنيات مرئية منسجمة مع تطلعات عصرها، لا تعبر عن مقياس العظمة والرخاء في كل صرخة فحسب، بل تنقل اليوميات المصرية المنسية وترصد المعاناة المخفية وراء ستار التفاصيل المحيرة، وتطبع «الهوية الفرعونية» بألوانها على القماش والكرتون والخشب واللينو، والمحامل الاصطناعية الأخرى، ليجد القارئ والمتابع نفسه أمام مرآة المواجهة مع نفسه في خضم نتاجات حيوية زاهية، أغلبها من الحجم الكبير تنقل الكائن المحلي خصوصا والشرقي عموما من العتمة إلى النور، ومن الجحود إلى التبجح في توجه مكمل لمسيرة العبقريين سلامة زهران وعز الدين نجيب.
تندفع العناصر التشكيلية والعلامات الجمالية محملة بعناوين اللحظة القريبة والمعيشة، كيفما كانت، وتنفلت بيانات التفاصيل من القوالب (المرسم) إلى التجارب (الطبيعة) تستحضر بيئة التجريب الطلائعية الشرقية الأولى، لتصل إلى درجات تشريح متقدمة في مسارها تتصل بالخصوص مع التوجهات المعاصرة في بعض اللوحات، من ذلك المعطى البلوري (فتاة تنقر الزجاج بأصابعها) والمموه (وجه مغلف برداء شفاف) والجسدي (تشريح تفاصيل حضور المرأة والرجل في وضعيات الجلوس والاسترخاء والخضوع والشروع) والمفرط (دقة تفاصيل الصحيفة، مادية الوجه والأعضاء، تناسق الألوان، التحكم في مصادر الضوء) بلمسات تكاد تكون فوتوغرافية لا تفصل فيها الحقيقة عن الواقع سوى نقطة ظل رمادية أو رداء أبيض شفاف.
في حين تقترب الصورة كلما تبتعد، وتبتعد كلما تقترب، لتنقل لنا تفاصيل المشهد محاولة الإلمام بالإطار الشاسع، الذي يضم كتلا متجانسة، دون إهمال الجوهر والهوية المصكوكة في الشخصية والملامح والمعطيات التي تتوحد، دون شك في دائرة شرقية ملحوظة، لاسيما في لوحة «شفافية» التي تعتبر مرجعية في تحديد الشخصية الأنثوية الشرقية المحافظة في ريشة أماني زهران، ولوحة «ساعة عصاري» كصورة لنموذج الشخصية الذكورية المنفلتة والمفروضة على محيطها البشري والجغرافي.

شفافية ـ 2023

سيدة الرداء الشفاف: «شفافية» (2023)

إنجاز سيدة الرداء الشفاف المعنون «شفافية» كمحرار يعكس مستوى الهواجس النسوية في وضعية تتموقع بين الصمت والخضوع وهو عمل حديث من الحجم الكبير (80 x80) يعود لسنة 2023، شارك في المعرض الشخصي في دار الأوبرا المصرية. تمت صباغته اعتمادا على حضور موديل بشري ما يزيد في تقريب المعادلة الواقعية، غير أن التفاصيل المعتمدة حملت لنا عنصرين:
-عنصر أول تقني جمالي تطرق بالخصوص إلى درجات متقدمة في الطي من خلال تجاعيد الثوب والخداع البصري، بإحكام درجة الشفافية ونسبة توزيع الضوء الصناعي، وصولا إلى مرحلة انبلاج المحيا الوضاح والمضيء وسط الظلام المتدرج.
– عنصر ثان فكري ثقافي تبنى تلميحات جزئية لتجاوز عتبة المقدس الطاغي في فنون ما قبل، وما بعد النهضة، لكنه نقل بمرارة وضعية المرأة في المجتمع المصري، بالحرص على توظيف مظاهر الصمت والخضوع الذي يفكك البعد الكارزمي للشخصية، ويذيب التأثير، خاصة العيون المبهمة والملامح الملائكية المحايدة التي تدل على غياب التشخيص وتأكيد الحضور الشكلي، في حين تعود بنا الوضعية المنحنية، وتوجيه النظر إلى الأسفل للمعجم التشكيلي القديم (الفن القوطي والديني) بما في ذلك هندام العبادة والصلاة، ما يشير إلى ضعف الإرادة واضمحلال القرار، إضافة إلى الحضور الثقيل للمسحة السوداوية، ولعل ذلك مرتبط بالإشارة إلى حضور كتلة الجسد، دون تجليات الفكر وحضور الجمال الجسدي مقابل غياب الأعمال الخلاقة في أغلب الحالات، وهي وصفة شرقية لا تزين الواقع بتاتا بل تعمل على فضحه وتقليمه.

صاحب الرداء الأبيض: «ساعة عصاري» (2017)

على عكس الخلفية المظلمة في عمل «شفافية» التي بدت فيها مساحة التأمل ضيقة وأفق العبارة محدودا، فإن «ساعة عصاري» انفتحت على محيط جنائني خلاب تتوسطه شخصية مهيمنة جالسة على كرسي، تبدو بصدد قراءة صحيفة تحتل بحضورها المهيمن مركز اللوحة. وهي معطيات لا يمكنها إلا أن تجذب القارئ والزائر لتفاصيل العمل المثيرة، لاسيما وأن الاشتغال على الدقة حاضر بقوة سواء كان ذلك في وسط اللوحة (ملامح الوجه، الصحيفة، الأريكة) أو في المساحات الجانبية (النبات، السيقان، الأفق البعيد) ناهيك عن التدرجات اللونية الملحوظة في المطفة من البارد إلى الحار (الأخضر/ الفستقي، الأزرق/ البرتقالي) ومن العتمة إلى النور (الرمادي/ الأبيض). هذا التصادم اللوني أحدث نقلة وحيوية في مكونات العمل، خاصة باستعمال تقنيات صباغية معروفة عالميا، تتناسب مع خامات الأكريليك والزيت، كالتراكب والتراكم الذي يظهر في تدرج الوجه من الفضي إلى البني وتنقيط الشجيرات ناهيك عن التجاور والترادف وعدد من العناصر اللونية الديناميكية، لاسيما على غلاف الصحيفة، مع التنويه بدرجة الإلمام بقاعدة «الجاف قبل الدهني» بحكم التعامل مع عديد الخامات. من هنا تطلب العمل قراءة عنصرين:
• تقني جمالي:
يتعلق بالأساس بالمستوى المعتبر للتشريح، الذي يسميه بعض الاختصاصيين بالتفنية التلفزيونية، أو التقنية السينمائية لتوافر عدد من التفاصيل الدقيقة يتعذر مشاهدتها في أعمال الرسم التقليدي. هكذا يعود بنا هذا الصراع الجديد إلى الصراع القديم، بين الرسم والفوتوغرافيا، أو الصورة التشكيلية اليدوية والصورة الفوتوغرافية، لاسيما أن المرامي الأساسية للواقعية لا ترمي إلى تقليد الصورة وإنما إلى تجاوزها، مع إنكار واضح للمثالية والعمل على خلق الحيوية والديناميكية للأزمة لتحويل المشاهد العادية إلى مشاهد خارقة والشخصيات العادية إلى مثيرة عبر التمويه والتذييل وإحداث المفاجأة. ولعل حضور عديد العناصر الفنية المجددة تجعله يتموقع ضمن تصنيفات ما بعد الحداثة ما يؤهله ليكون منحوتة صورية متميزة.
• فكري ثقافي:
يدور بالأساس حول خاصيات الشخصية الذكورية في المجتمع المصري خصوصا، والعربي عموما. وعلى خلاف الشخصية الأنثوية المحتشمة ظهرت الشخصية الذكورية منطلقة ومنفلتة، في وضعية استرخاء، متفرغة للقراءة حتى تعرف ما يدور في محيطها، متمسكة بالكرسي في باطنها، رغم أن ظاهرها شخصية شعبية بسيطة، غير أن كثافة التمويه والتدقيق والتفصيل، جمعت مكونات العديد من الفئات الاجتماعية في شخصية واحدة مزجت بين الذكاء والابتذال، السلطة والخضوع، الاتباع والابتداع، الأصالة والمعاصرة، الموروث والوافد والمحلية والعالمية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية