لدونالد ترامب طريق آخر طويل نحو القمة. بعد نشر رسالته الصبيانية للرئيس التركي، اردوغان، وشهادة رئيسة مجلس النواب نانسي بلوسي أن الرئيس الأمريكي قد خرج عن السكة، لم ينضم ترامب بعد إلى قائمة الزعماء المهزوزين في التاريخ. ومن غير المضمون أنه يقف على رأس قائمة الزعماء الأمريكيين المهزوزين في كل الأزمان.
أين ترامب من السلطان العثماني إبراهيم الأول، الذي أطعم أسماكه النقود وأغرق في البحر 280 من محظياته لأنه شك في خيانتهن؟ أين هو من القيصر ايفان الرابع الذي قتل ابنه البكر ورمى وزراءه في حفرة ليكونوا فريسة لكلابه؟ وماذا بشأن القيصر البيزنطي يوسنتيانوس الثاني الذي اعتاد أن يعض رؤوس خصومه؟ ولا نريد التحدث عن القيصر كاليغولا الذي اعتاد أكل خصى خصومه وهم على قيد الحياة؟
ثمة رؤساء أمريكيون لم يكونوا جيدين أيضاً. لندن جونسون اعتاد على إجراء مقابلات وهو يجلس في الحمام. اندرو جونسون جاء إلى حفل أدائه لليمين وهو ثمل تماماً. هارفارد هوفر سمح لأولاده بتربية الحيتان في البيت الأبيض، واندرو جاكسون علم ببغاءه الشتم.
الأمر لدى ترامب أنه خلافاً لأسلافه، سلوكه الغريب، لا يقتصر على نقاط ضعفه الشخصية، وغير مخفي وراء جدران البيت الأبيض. لأنه لا يعترف بنواقصه، هو يستعرضها علناً وفي كل مجالات نشاطه. في الـ 24 ساعة الأخيرة مثلاً، نائبه مايك بينس تبجح باتفاق لـ “وقف إطلاق النار”، الذي حسب قول ترامب “سينقذ الملايين”. لو كان اتفاق كهذا قد تم تحقيقه في ظل سلفه أوباما، لاعتبر على الفور اتفاق خنوع مخجل وغرس سكين أخرى في ظهر الأكراد. الولايات المتحدة رفعت العقوبات عن تركيا، وفي المقابل اعترفت بـ “المنطقة الآمنة” التي تريد أنقرة إقامتها، وأعلنت للأكراد بأن لديهم 120 ساعة من أجل الهرب، يبدو هذا مثالياً.
في الوقت نفسه، اعترف رئيس طاقم البيت الأبيض فعلياً بالتهمة التي تقف في قلب إجراءات العزل ضد الرئيس، أي أن ترامب أوقف المساعدات العسكرية لأوكرانيا كي تقدم له معلومات تدين خصمه جو بايدن. كما علم، وكرشوة بأن ترامب سيضخ عشرات إذا لم يكن مئات مئات ملايين الدولارات من ميزانية الدولة إلى جيوبه الخاصة بدون خجل وفي وضح النهار، كثمن لاستضافة قمة “جي 7” في ضيعته الخاص في فلوريدا.
الرسالة التي أرسلها ترامب لأردوغان، الأسبوع الماضي، ليست أكثر جنوناً من قوله بأن أوباما قام بتزوير شهادة ولادته، وأن المكسيك أرسلت القتلة والمغتصبين إلى الولايات المتحدة، وأن جون مكين كان جباناً، وأن ملايين الناخبين صوتوا ضده بشكل غير قانوني، وأن الجمهور في احتفال أدائه لليمين كان الأكبر في التاريخ. ترامب ليس أكثر قوة الآن مما كان في السابق عندما شهدت نساء كثيرات بأنه تحرش بهن جنسياً، أو عندما تبجح بأنه اعتاد على مسك أعضاء النساء التناسلية. هو الآن غير معزول أكثر مما كان عندما حول الرئاسة إلى صندوق يزيد من أرباحه، وضعه لم يتدهور منذ أعطى للكرملين الضوء الأخضر للتدخل لصالحه في الحملة الانتخابية، وقام بإقالة رئيس “اف.بي.آي” الذي رفض إعلان الولاء له، ووزير العدل الذي رفض وقف التحقيق في هذا الأمر.
مع الاحترام للأكراد المساكين، خيانة ترامب لهم في سوريا لم تكن أكثر خيانة من الانسحاب من اتفاق المناخ العالمي، ومن هجومه على حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، واتصالاته الهستيرية مع زعيم كوريا الشمالية، وإظهار رغبته في شراء غرينلاند، واللقاء المخطط مع الطالبان في كامب ديفيد، واستخذائه الذي لا حدود له أمام رئيس روسيا بوتين أو محاولته ابتزاز رئيس أوكرانيا ليعطيه معلومات تدين بايدن.
ولعدم وجود أدلة تظهر ترامب في نظر إسرائيل وهو يظهر اعتدالاً أو مواقف تشذ عن التجهم الذي يميز خطواته، فإن بوادر حسن النية تجاهها تستحق إعادة الفحص. قد نتجادل حول إذا ما كانت إسرائيل ربحت أم خسرت من قرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران –مع أن الكفة في الفترة الأخيرة تشير إلى السلب– لكن لا يوجد أي سبب للتفكير بأن دوافع الرئيس كانت ثابتة أو عقلانية. هو يحتقر الاتفاقات متعددة الأطراف مهما كانت دون أي صلة إذا ما كانت تفيد الولايات المتحدة أو تضرها. وقد كان عليه مواجهة احتمال محو تسليط الأضواء على السياسة الخارجية التي طبقها سلفه أوباما.
ولكن ترامب، مثل ترامب، عمل حسب طريقة “على باب الله”: لقد انسحب من الاتفاق دون خطة معينة لمعالجة تداعيات أفعاله. نتنياهو قال له إن الأمر سيكون كما يرام. شلدون ادلسون كان سعيداً. الافنغلستيين رفعوه على الأكتاف. في “فوكس نيوز” قالوا إنه أجمل رجل، وهذا كان يكفيه. بماذا أفاد ذلك الولايات المتحدة أو إسرائيل أصلاً.. إعلان ترامب عن اعتراف أمريكا بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان؟ لا أحد من زعماء العالم ذهب في أعقابه، الاستثمارات لم تتدفق على المنطقة، وباستثناء القرية المتخيلة رمات ترامب، لم يترك الاعتراف أي انطباع على مسار التاريخ، عدا تأكيد آخر على استخفاف ترامب بالرأي العام الدولي واستخفافه بالمعايير المقبولة على أمم العالم.
هكذا أيضاً كان اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، الذي سمع في إسرائيل مثل دقات المسيح. عدد من الدول في أمريكا الوسطى ذهبت في أعقابه، أو أشارت إلى ذلك. ولكن معظم العالم بقي على حاله باستثناء الفلسطينيين الذين اعتبروا ذلك طلاقاً لا رجعة عنه، وقطعوا معظم الاتصالات مع الإدارة الأمريكية (باستثناء المجال الأمني والاستخباري). صحيح أن هذه الخطوة استقبلت في إسرائيل بسعادة، لكن في العالم اعتبروها انقضاضاً آخر من قبل الرئيس الأمريكي، وجزءاً من القرارات المجنونة – إعلانه المفاجئ عن سحب القوات الأمريكية من سوريا واختياره التخلي عن الأكراد وتركهم لتركيا، هي آخر القرارات، ولن تكون الأخيرة.
بسبب ذلك، معظم العالم كان مستعداً ومعداً أكثر من إسرائيل لاستيعاب خيانة ترامب للأكراد وترك سوريا لأيدي روسيا وإيران. عواصم أوروبا اعتبرت هذا خطوة متوقعة. والإسرائيليون يعانون الآن من تناقض معرفي: إن ضم ملاحقة ترامب لآيات الله في طهران والتخلي عن الأكراد لمصيرهم يهدد بكسر جهد عقلي طويل، اظهر ترامب في إطاره كمخلص رغم الدمار الذي زرعه في ساحات أخرى في العالم.
ورغم أن الجميع يخشون من احتمالية أن تكون هناك حملة انتخابية ثالثة هذه السنة في إسرائيل، فإنها ستكون ممتعة أكثر من سابقاتها، على الأقل في كل ما يتعلق بترامب: نتنياهو سيحتاج إلى قدرته كساحر لعرض ثماره العفنة للتحالف مع ترامب مثل قطعة حلوى لم تختف حلاوتها. من جهة أخرى، يستطيع دون أن يرف له رمش أن يعرض نفسه كشخص وحيد قادر على مواجهة رئيس أمريكي مارق. لقد هزم أوباما وسيكبح جماح ترامب. وسيسأل باستخفاف واضح: من يستطيع أن يفعل ذلك؟ غانتس أو لبيد؟ وهل يفهمون أصلاً في السياسة الخارجية؟
بقلم: حيمي شليف
هآرتس 18/10/2019