أمة العرب: من أين.. وإلى أين؟

حجم الخط
0

تمرُّ أمتنا العربية هذه الأيام بمعترك خطير سيكشف عن انعطافة غير متوقعة في مصيرها مستقبلا. فلقد تكالبت الإمبريالية العالمية عليها مستهدفة تفتيت ما بقي لها من مقومات وحدتها التي شكَّلها تاريخها العريق ولحمتها القومية العتيدة. وما اتساع نطاق الحرب من فلسطين إلى لبنان وسوريا إلا دليل على الأطماع الإمبريالية المنفَّذَة برأس حربتها في المنطقة “الكيان الصهيوني” الذي بات جليا أنَّ أهدافه الاستراتيجية لن تقف عند ما غَصبه في حملاته السابقة، وأن أطماعه في الأرض العربية لا حدود لها. هذه الأطماع التي تَدفع ثمنها الآن حشود الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ في فلسطين ولبنان وستدفع البلدان العربية كلها أثمانا أخرى باهظة.
لقد توحدت أهداف الإمبريالية العالمية وأهداف ربيبتها الصهيونية بشكل سافر في هذه الحرب الهمجية، فسارعت الأولى إلى تسخير كامل قواها العسكرية حتى غطت بها المنطقة العربية برا وبحرا وجوا؛ أساطيل هائجة في مياهنا ومياه جيراننا، وقواعد مستنفَرة بكامل ترساناتها المهولة في أراضينا العربية وأراضي جيراننا من المسلمين وغير المسلمين. وهذا ما هيّأ الظروف المناسبة كي تقوم الربيبة بأعمال الإبادة الجماعية. ليس ذلك حسب، بل تواجد كبار مسؤوليهم مدنيين وعسكريين جنبا إلى جنب مع قادة الكيان العنصري ومجرمي الحرب.
يتصور كثيرون أنَّ أغراضا اقتصادية وسياسية هي التي تقف وراء هذه الأطماع المسعورة في المنطقة العربية عامة وبلاد الشام خاصة، بيد أنّ ثمة غرضا أكثر خطورة هو الغرض الوجودي الذي اختصره نعوم شومسكي بقوله: “غزة هي المنفذ الوحيد إلى عالم الغرب” من كتابه” فلسطين، ص187″. وليس المقصود بالمنفذ معناه الجغرافي أو السياسي، إنما المقصود به المعنى الوجودي، فمشاريع الإمبريالية وأداتها الكيان الصهيوني تسعى إلى خلق شرق أوسط جديد. والمحصلة النهائية هي محو الوجود العربي بالكامل من هذه المنطقة ومن ثم الانطلاق للسيطرة على الشرق بأكمله. هذا الهدف ظل راسخا في مخيلة الإمبريالية منذ زمن. وقد شكَّل عقدة لدى الغزاة الغربيين، كشفوا عنها في الحرب العالمية الأولى حينما توغلت جيوشهم في أراضي الشرق من أجل إسقاط إمبراطورتيه الوحيدة. فتنفست أحقاد دفينة أضمروها عدة قرون؛ وإلا ما معنى أن يقول إدموند اللنبي حين دخل القدس بعساكره عام 1915: “الآن انتهت الحروب الصليبية”؟ وما معنى أن يأمر القائد كرزون عام 1918 بأن يُجلب له حصان شبيه بالحصان الذي امتطاه محمد الفاتح عند دخوله المدينة ذاتها عام 1453 أي بعد مرور ما يقرب من خمسة قرون؟ هذا دليل قاطع على أن التفكير بالانتقام وأخذ الثأر لم يُمحِ من صدورهم ولا مخيلاتهم.
إذا كان الأمر هكذا على مستوى القادة الكبار، فإنه بلا شك وليد حاضنة عامة ووعي جمعي مستمر، لكن الغزاة في الحرب العالمية الأولى لم يتمكنوا من استعباد البلدان التي احتلوها لأسباب خارجة عن إرادتهم؛ منها أنّ الشعوب التي احتلوا بلدانها رفضت الاحتلال وقامت بانتفاضاتها ضدهم كما فعل العراقيون في النجف عام 1918 بانتفاضتهم الباسلة التي قتلوا فيها الحاكم البريطاني في المدينة، فعمدت قوات الاحتلال إلى فرض الحصار عليهم، ومنعت الغذاء والماء عنهم لفترة طويلة وأشاعت فيهم القتل والتشريد والاعتقال، أو ما حصل في مدينة مرعش التركية وما قام فيما بعد من ثورات عارمة ضد الوجود الأجنبي في سوريا ومصر والعراق.
ومن الأسباب أيضا أن الواقع الدولي خلال الحرب العالمية الأولى ظهرت فيه مستجدات مناهضة للسياسات الإمبريالية كقيام الثورة البلشفية في روسيا ومن ثم انبثاق الاتحاد السوفييتي، كما أن قدرات المحتلين العسكرية لم تكن تمتلك التكنولوجيا بالمستوى الذي تمتلكه الآن ومن غير المضمون أن تواصل قواتها المنهكة الانتصار وقد تُمنى بالهزائم وتفقد ما حققته في تلك الحرب. ولا شك في أن ثمة معارك خاضتها، دفعت بها إلى اتخاذ هذا الموقف مثل انكسارها في معركة الكوت وهزيمتها التاريخية حين استسلمت القوات البريطانية بقيادة تاونزند بعد حصار دام 147 يوما وكذلك ما منيت به القوات الفرنسية والبريطانية من هزيمة نكراء في معركة جناق قلعة أمام الأتراك.
أمَّا الآن فإن الإمبريالية تعيش ذات اللحظة التاريخية ولكن بظروف مناسبة تلائمها، وكأنها الآن تعيد الزمن إلى الوراء قرنا كاملا، وتمتلك الفرصة ثانية بتقسيم الشرق على هواها. إنها في زمن القطب الواحد والتكنولوجيا العسكرية والردع المذهل، هذا في مقابل الإحباط المطلق لدى الشعوب المستهدَفة.
من هنا نفهم لمَ هذا التكالب الإمبريالي على بلادنا العربية منذ احتلال فلسطين في عام 1948 وإلى اليوم. إنها صفحة من صفحات المشروع الدائم والرغبة المتجذرة في الهيمنة على البلاد العربية ومن ثم الشرق بأكمله. إنها الصفحة العملية التطبيقية من ذلك المشروع الإمبريالي الذي لم تتح الظروف التاريخية السابقة للإمبريالية الغربية تحقيقه بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة. وما يُسهِّل على قوى الاستعباد مهمتها الشريرة هذه – أعني إعادة هيكلة المنطقة لصالحها وصالح الكيان الصهيوني – هو سير بعض العرب في تيارها سادرين أو مساهمين وخاصة أولئك الذين يتغنون بأنهم أصدقاء أمريكا مخدوعين أو مضطرين أو متورطين؛ فلنذكرهم بما ابتدأنا به وهو أن بلادنا العربية ووجودنا عليها مهددان برياح خبيثة عاتية لن تُبقي ولن تَذر حتى بالنسبة إلى أولئك الذين يُظهِرون صداقتهم لمسببيها.
ولكن هل يمكن الاطمئنان إلى حضارة (نتجت عنها إبادة عرق بكامله)؟ أين هي رسالة الرجل (الأبيض) من القضاء على الهنود الحمر في أمريكا وهو أمر لم يحصل في تاريخ البشرية؟ ما هو المؤكد أنّ حالة النكوص والإحباط والخيبة التي تعترينا لن تنفع الطامعين في استعبادنا والمتسابقين بمحمومية إلى ذلك بكامل إمكانياتهم من أجل محو هويتنا وشطب دورنا وإزالتنا من الوجود. وكم كان محمود درويش رائعا في قصيدته (خطبة الهندي الأحمر، ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض) فقد طرح هذه القضية مقرونة بقضيته الوجودية قضية الشعب الفلسطيني، مرتقيا بها إلى همِّ إنساني يتخطى المعاناة الشخصية أو الإقليمية، مؤشرا بأصبع الاتهام نحو (حضارة الرجل الأبيض). فبعد أن يصف سيد الخيل الجشع الأشر وهو على حصانه الأرعن، لا يبقي حجرا على حجر ولا بشرا ولا شجر؛ لأن المهم بالنسبة إليه هو البترول والذهب، يستدرك الشاعر بأنّ ثمة شيئا أهمّ، لا يستطيع السيد أن يدرك قيمته أو يشعر بأهميته، وهو المعبَّر عنه في هذه السطور:
“مِنْ حقّ كولومبوس الْحُرّ أن يَجدَ الهنْد في أيّ بَحْرٍ،
ومَنْ حقّه أن يُسمّي أَشْباحَنا فُلفُلاً أوْ هُنودا،
وفي وُسْعهِ أَنْ يكسّر بوْصلةَ الْبحْر كي تَسْتقيم
وَأخطاءَ ريح الشّمال، ولكنّه لا يصدّق أنّ الْبَشَرْ
سَواسِيّةٌ كالْهَوَاء وكَالْمَاء خَارِجَ مَمْلَكَةِ الْخَارِطَة
وأنّهم يولدون كما تولدُ الناسُ في برْشلونَة، لكنّهم يعْبُدون إلهَ
الطّبِيعَة في كُلِّ شيْءٍ ولا يَعْبدونَ الذّهبْ”.
*كاتبة من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية