أمة تأكل نساءها

«ليحشرك الله معها»، هكذا كتب «لوبي الدفاع عن الدين» على وسائل التواصل رداً على تعزيتي في المناضلة نوال السعداوي، وهكذا سيكون مصير كل النساء العربيات اللواتي يتجرأن فيتناولن التابوهات المحتكرة، ممارسة ونقداً وتداولاً، على الرجال. هكذا سيؤبننا هذا الشرق الأوسط الحاقد على نسائه، أن إلى النار وبئس المصير.
توضيحاً، بادئ ذي بدء نقول البديهي الذي أنهكنا تكراره، حين يتم تأبين شخص أو الترحم عليه أو تذكر مسيرته الكفاحية أو امتداح نضاله، ذلك لا يعني الموافقة على كل رأي أو موقف اتخذه. الطبيعي هو الاختلاف، أما الاتفاق فيحتاج إلى تفكير وتواصل وعمل. لذا، امتداح السعداوي لا يعني الرضا عن والاتفاق مع كل رأي ورد عنها، أو كل أسلوب هي اعتمدته، أو كل توصيف وتحليل هي قدمته، أو كل قرار هي اتخذته. في مسيرتها التي امتدت لأكثر من سبعين عاماً، لا بد أنها ارتكبت أخطاء وزلت في اتجاهات وأتت آراء لا يتفق عليها الجميع، هي بشر لا ملاك، فلماذا ينبش الكارهون في «قبرها» الآن رحمها الله، وبعدُ لم تجف دماؤها، عن أي رأي أو قول يمكن أن يدينها؟
في ردها على اتهامها بأنها وحشية وخطيرة، ردت تقول: «أنا أتكلم الحقيقة والحقيقة هي وحشية وخطيرة»، لكنها تكلمت رحمها الله في عالم يكره الحقيقة، في بقعة من الأرض تكنس الآلام والمآسي، خصوصاً تلك الخاصة بالمرأة، أسفل سجادة الستر. نحن مجتمعات تحمد تكريم المرأة في أعرافها صباحاً، وتهينها وتضربها وتغتصبها وتعبث بغريزتها وتكسر كرامتها ليلاً. المهم السمعة، طالما بقينا نكرر المرأة مكرمة، والمرأة جوهرة، وهي «الأم والأخت والزوجة»، هذه الجملة الكريهة ذات الرائحة البائتة، فنحن بخير ولا نحتاج لفتح الملفات، كل ما نحتاجه هو أن ندسها أسفل السجادة، وكأنها لم تكن.
لكن السعداوي فتحت الملفات، السعداوي ناقشت المحظور، السعداوي وضعت الآلام والمعاناة والصرخات والانتهاكات في بؤبؤ العين، فلم يحتمل هذا العالم العربي «الرقيق»، لم تتحمل كرامات الرجال ولم تتماسك مشاعر النساء، فانصب جام غضبهم، ليس على المعتدي أو المنتهك أو المغتصب، ليس على القوانين الجائرة والأعراف البائدة والقراءات الدينية القديمة، ولكن على نوال، تستاهل، لماذا ذكرتنا؟ من يطرق الباب يأته الجواب، هكذا يقول لها شرقنا الأوسط المريض. وكأني بها رحمها الله، لا تزال وقد غادرتنا روحها، تطرق الأبواب، رغم كل الإجابات الرديئة، بلا كلل ولا ملل.
ولأنها رحمها الله تلجم الأفواه بصراحتها وبحدة نقدها وبإلحاح المواضيع التي تطرحها، ولأنه لا ردود منطقية أو عقلانية تناهض طرحها، تحول المجتمع مؤخراً إلى تهمة جديدة: مساندة النظام. نوال السعداوي التي عانت الأمرين تحت الأنظمة المصرية المتلاحقة، التي سُجنت في عصر السادات، وهُجِّرت في عصر مبارك، ونزلت في عمر الثمانين لميدان التحرير مشاركة في الثورة، يدعي اليوم كارهوها مساندتها للنظام، بل إن من التعليقات التي وصلت على وسائل التواصل أنها أيدت الكشف عن عذرية المتظاهرات في ادعاءات رخيصة متواصلة لا هدف منها سوى تشويه صورة امرأة قالت لهم الحقيقة في وجوههم القبيحة.
وها هو مقال السعداوي الذي يناهض عملية الكشف البشعة تلك، بل إن السعداوي من أقوى المناهضات لفكرة العذرية الأسطورية أصلاً، ولها من الأحاديث حول غشاء البكارة ما لم يجرؤ على قوله أعتى فحول الشرق الأوسط، فكيف يتم الكذب على هذه المناضلة بهذه الأريحية المريضة؟ ولأن السعداوي ظهرت في مقابلة ترفض الحديث عن السيسي أو مصر سلباً بعد شعورها أن المذيعة تقسرها على هذا الاتجاه، ولأنها في مقابلة أخرى قالت إن النظام الحالي أفضل من سابقيه في تعامله مع قضايا المرأة، ولأنها في مقابلة ثالثة قالت إن ما حدث في يونيو لم يكن انقلاباً، اتهمت مباشرة بأنها مع النظام، رغم وضوح موقفها كما هو مبين في هذه المقابلة، وتحديداً في آخر ثوان منها، ليس فقط تجاه النظام الحالي، بل تجاه أي نظام حاكم بالعموم حيث علقت: «أنا شخصية ما بتمشيش مع القطيع».
قد نتمنى على هذه المناضلة الثمانينية في وقتها أن تكون أعلى صوتاً في نقد النظام أو أوضح تصويراً لما حدث في يوليو، لكن رأيها المعلن، وإن كان استحيائياً، لا يضعها في خانة موالاة النظام مطلقاً. هي ذكرت له بعض ما اعتقدته حسنات في رأيها، لكنها وقفت مناهضة للنظام ولكل نظام بوضوح في الواقع. ويبقى أن هذه المعركة السياسية ليست معركتها أصلاً، هي معركتها نسوية حقوقية، فإن كان لها موقف سياسي متوار، في عمرها المتقدم الذي شاركت به ورغماً عنه في ثورة يناير، فهو لا يمحو نضالاتها الطويلة التي يجب أن يتصدر الامتنان لها أي كلمة تقال عنها اليوم.
هذا هو مصير كل امرأة تتحدث بوضوح وصراحة عما أسفل سجادة الستر، أن تطعن حية وميتة، أن يتناولها الناس لحماً ويرمونها عظماً. المطلوب أن تبقى بنات جنسنا تعاني بصمت أو يتم الدعوة علينا أن نحشر معاً بعد الموت. لعله الخلاص من دمامة نفاق هذا المجتمع ومن فقر علمه وتفكيره أن نحشر بعيداً عنه، في جنة العدل والإنسانية مع نوال بعيداً عن نار النفاق والجبن والتخاذل.
رحمك الله أيتها المناضلة، نوال السعداوي، وأحسن مأواك.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صريح:

    في الستينات، كنت طبيبة شابة؛ أفحص الرجال والنساء؛ على حد سواء، يخلع الرجال ملابسهم أمامي؛ دون حرج و لا يشغلني إلا واجب عملي؛ في الطب و تشخيص المرض، و لا يشغل الآخرين إلا الرغبة في الشفاء و النهوض،.
    واليوم؛ بعد مرور خمسين عاما؛ أرى طبيبات يُخفين رؤوسهن بالحجاب، خوفًا من الفتنة، أو من عذاب القبر، أو من إبن تيمية نفسه؛ لم أعد ادري.
    سألتني إحدى الطبيبات الشابات من أسرتي :
    هل تعرية الرجل المريض؛ أمام المرأة الطبيبة؛ حلال أم حرام …؟!
    سؤال لم يخطر على بالنا؛ نحن الطبيبات قبل أكثر من خمسين عاما .. !!
    ..تساءلتُ :
    ما الذي أفرغ عقول بعض الطبيبات؛ من الطب والعلم، وملأها بالخيالات المريضة؛ عن الشهوات الجامحة… ! ؟
    و كيف الإنشغال بذكورة الرجل؛ حتى وهو في النزع الأخير … !؟
    أجابتني الطبيبة الشابة من أسرتي :
    الشيطان يا دكتورة..
    قلت لها :
    .. أين كان الشيطان قبل خمسين سنة …!؟؟

    #نوال_السعداوي

    1. يقول محمد شهاب:

      لعب رجال الدين دوراً معروف في الثورة الإيرانية. على إثرها شعر آخرون بالغيرة فجائوا بالصحوة…
      خرج الشيطان
      و إنتهينا بالقاعدة و غزو العراق!

  2. يقول على هوى التقية:

    مناضلة؟

  3. يقول عابر سبيل:

    يا أستاذة إبتهال العبرة بالنتائج, فهل كان للراحلة السعداوي تأثير يذكر على أجيال من النسوة العربيات؟ لا أعتقد ذلك, زرت لأول مرة مصر أم الدنيا في أواخر التسعينيات وذهلت للفرق الشاسع بين ذاك النموذج التي تشكل في ذهني لمستوى تحرر المرأة في مصر من خلال الصورة المغلوطة الذي كانت تسوق لها القنوات الرسمية والأفلام السينمائية وبعض الإنتاجات الثقافية, لأجد واقعا مخالفا تماما وأنا أجوب مدنها وأقف أمام مظاهر شعب محافظ جدا حتى أنه بين الحينة والأخرى كان يتردد على مسامعي ونحن نجوب أحياء شعبية بحواضر كبرى ما يقابل باللهجة المصرية “أليس بإمكانك لباس أقل إثارة يا سيدتي” في إشارة لرفيقتي في السفر, عندها أدركت أن تلك *النخب المتنورة* و*الرموز المتحررة* كانت ولا تزال منذ عهد الخمسينيات ورغم كثرة الأضواء المسلطة عليها تعيش منفصمة ومنفصلة عن شعبها وليس لها تأثير ذي شأن على واقع المرأة المصرية فبالأحرى المرأة العربية!

  4. يقول محمد محمود:

    ربنا يرحمها ويغفر لها ويسكنها فسيح جنانه.

  5. يقول ماجد الراشد:

    ستظل الدكتورة الخطيب ذلك الصرح الصامد المنافح عن التحرر والحداثة, في مخيلتي ترتبط صورة الكاتبة الكريمة بشخصية نادية المنصور التي لعبت دورها ممثلة عربية متنورة في المسلسل المعروف: (Le Bureau Des Legendes) لها نفس الثقة بالنفس ثم القدرة على تحدي تقاليد وعادات موروثة, شخصية متفردة في قناعاتها ونمط حياتها لها رباطة جأش وهدوء أعصاب منقطعي النظير, تخوض معارك على عدة جبهات دون أن يرف لها جفن.

  6. يقول سلمان بن زايد:

    تابعت مرة مناظرة بين مفكر علماني ومحاوره من منبع ايديولوجي مخالف ومما جاء في الحوار بينهما عبارات مشابهة لما ورد كتعليق على تعزية الكاتبة في وفاة نوال السعداوي ذكرته في مقالها أعلاه : “لتحشري معها” فرد المثقف العلماني بكل روية وحلم: “لا أومن بالحشر معه أو مع غيره, فأنا على مذهب ريتشارد دوكنز القائل: بوهم الإلاه, قناعاتي مبنية على العقلي والحسي وآسف أن أخيب ظنك…” ثم انتقل الحديث بعد ذلك برزانة ودون تشنج لمحاور أخرى, فلا مبرر للإنفعال في مضمار تدافع الأفكار والرؤى يا سيدتي.

  7. يقول النوكي إدوارد:

    هناك تعميمات واردة في النص تحمل في ثناياها الكثير من المغالطات وتحريف للحقائق منها: « الشرق الأوسط الحاقد على نسائه !» هذا فيه إجحاف في حق كل النخب المنفتحة و التيارات التحررية في بلدان الشرق الأوسط وتبخيس لجهودها و تضحياتها. كذلك هناك عبارات وردة فيها حمولة هائلة من الراديكالية: « طالما بقينا نكرر المرأة هي الأم والأخت والزوجة، هذه الجملة الكريهة ذات الرائحة البائتة!!! », حقيقة أضحينا كل مرة نفاجأ بأسلوب كتابة يجنح ـأكثر نحو التعصب بدل المرونة والتعقل.

  8. يقول د ماهر:

    انا لا اتوفق معاك ابدا. هذه المراة لم تكن نصيرة المراة كما تدعي. هذه المراة تحدت كل قيم الاسلام، و عارضت فريضة الحج و دعت لنشر التعري. انا استغرب من حتى ذكرها على انها قد فعلت اي شئ مهم. والله من العيب جدا ان تخرج دكتورة مثلك لتمدح مثل هذه الاشكال. اسال الله ان يجازيها بشر كتاباتها و اعمالها.

  9. يقول حنظلة:

    أكن الإحترام لكل مثقف أو إعلامي أو حقوقي أو سياسي… يمتلك الشجاعة والشهامة لمناهضة الظلم بكل أشكاله بغض النظر عن الفئة التي يدافع عنها كانت أقلية مضطهدة أو حقوق المرأة أو حرية التعبيرأو أي حق مشروع, لكن لا أستصيغ من يدعي أنه ينافح عن قضايا عادلة ثم يقف موقف متفرج أو مهادن لأنظمة حكم مستبدة فاسدة, أو أن يتعامل مع حقوق فئات من شعبه بانتقائية وانتهازية مقيتة فيدافع عن حقوق لا تجلب له حنق وغضب الحاكم ويغض الطرف عن حقوق أساسية مخافة أن يثير امتعاض وسخط ولي نعمته!؟ هؤلاء وما أكثرهم ممن ابتلينا بهم, هم من أشد عوامل نكستنا.

  10. يقول اشرف فتحي:

    اضحكني كثيرا كلمه مناضله التي وصفت بها كاتبه المقال الراحله نوال السعداوي .

1 2 3 4 7

إشترك في قائمتنا البريدية