قد يغيب عن كثير أو قليل منا أن أدبنا العربي الحديث شعرا ونثرا «مستحدث» من حيث الشكل (شعر التفعيلة وقصيدة النثر) والجنس (الرواية والقصة القصيرة والمسرحية)، وفيه ما فيه من المؤثرات الأجنبية؛ منذ أن برحت الثقافة/ الثقافات العربية مداراتها المألوفة مع أدباء الشام ومصر خاصة، فأدباء المغرب العربي. على أن الموقف من «العزوف» عنه عالميا، إنما يُكْتَنَهُ في ضوء التقبل من حيث هو مفهوم جمالي يتسع لشتى المواقف المزدوجة أو المختلفة، وهذه ليست إلا محصلة أفق التوقع وأفق التجربة معًا؛ حتى عند الشاعر أو الكاتب نفسه. فهو متقبل ما أن يشرع في الكتابة عبر مشادة أو مصالحة أو تفاعل بين تجارب الفن، الحاضر منها والماضي، والحديث منها والقديم؛ والوافد منها والمتأصل.
إنها باختصار مخِل لا ريب حوار خفي أو لعبة أسئلة وأجوبة محتجبة ذات قواعد وقوانين ق ندرك فعلها وأثرها؛ ولكننا قد لا ننفذ إلى منشئها وكنهها. ونحن أحوج ما نكون إلى إعادة ترتيب علاقتنا بأدبنا، عسى أن نفهم أسباب العزوف عن ترجمته ونقله إلى اللغات العالمية.
وفي حوار أجريناه أنا والشاعر التونسي محمد الغزي عام 1984 مع الشاعر السويدي أوستون شوستراند عضو لجنة نوبل للآداب وقتها، ونشرناه مع نماذج من شعره، في مقدمة كتابنا «تحت برج الدلو«(منشورات ديميتير تونس 1984 بالاشتراك مع جامعة لوندت في السويد)؛ اكتشفنا أننا حقا أمة كبيرة، لكن بذاكرة أدبية قصيرة. وكنا في ضيافة السيدة سيغريد كاهل ابنة المستشرق نوبرغ، وصديقة سلمى الخضراء الجيوسي، وقد أخذت تشيد أمام شوستراند بالحضارة العربية الضاربة في الزمن، وتقول إنه لفرق شاسع بين حضارة تستند إلى أكثر من خمسة عشر قرنا هي حضارتكم العظيمة، وحضارة السويد التي ليس لها هذا الامتداد في التاريخ، بل إن نهضة السويد الأدبية لم تبدأ إلا في القرن الثامن عشر مع الملك غوستاف الثالث، وإليه يرجع الفضل وهو الذي نهض بدور كبير في بعث المسرح والأدب والأوبرا؛ وهو الذي عمل على تطوير اللغة السويدية، وجعل التأثيرات المتأتية من فرنسا خاصة تستجيب لظروف السويد وشروط الحياة فيها. ولم تكن هناك قبله تقاليد مسرحية، كما هو الأمر في ثقافتكم.
مسؤولية نقل الأدب العربي إلى اللغات العالمية تقع على كاهل العرب قبل غيرهم، وأن الأكاديمية مستقلة عن السياسة وعن الأحزاب مثلما هي مستقلة عن الدولة؛ حتى إن كانت تتلقى هبات من جهات شتى.
ثم إن هذا الملك المثقف وكاتب الأوبرا، هو الذي أسس الأكاديمية؛ وجعلها مستقلة عنه وعن الدولة. وقد شاطرها شوستراد الرأي، وانتهزنا نحن الفرصة لنسأله عن ضعف انتشار الأدب العربي في السويد، وما إذا كان هناك عربٌ مرشحُونَ لجائزة نوبل.
والحق أن الرجل كان صريحا، وأفادنا بأن مكتبة نوبل تكاد لا تحوي من هذا الأدب شيئا يؤبه له؛ وهو ما يحز في النفس. وقال: «ومع ذلك فإن هناك أسماء عربية مرشحة للجائزة» وهي جديرة بها لا شك. وأضاف إن مسؤولية نقل الأدب العربي إلى اللغات العالمية تقع على كاهل العرب قبل غيرهم، وأن الأكاديمية مستقلة عن السياسة وعن الأحزاب مثلما هي مستقلة عن الدولة؛ حتى إن كانت تتلقى هبات من جهات شتى. ولكن هذا يؤثر في استقلاليتها، بل إن أعضاءها لا يحصلون على أي أجر. ما الذي يحول إذن دون ذيوع هذا الأدب العربي المعاصر عالميا؟
يشير روجر ألن في مصنفه «مقدمة للأدب العربي»، ت. رمضان بسطاويسي ومجدي أحمد توفيق وفاطمة قنديل، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003» والكتاب موجه إلى طائفة من القراء الأجانب الناطقين بالأنكليزية في مطلع القرن الحادي والعشرين، وليس الناطقين بالعربية؛ وهو يتنزل في حيز الأدب العالمي المقارن؛ إلى أن النعت «عربي» يفصح كما يقول عن اللغة التي صيغت بها المادة. ولكن هذا النعت أو المصطلح يحوي دلالة مزدوجة، إذ يشير إلى الناس أي العرب، من جهة وإلى العلاقة بين العالمين: العربي الإسلامي والغرب، من جهة أخرى. وهي في معظم هذه المرحلة المتخيرة من القرن السادس للميلاد (وليس قبل الميلاد كما جاء سهوا في الترجمة) إلى الحاضر، علاقة مواجهة مستمرة غالبا؛ ينزع فيها كل طرف إلى نوع من التعتيم على «بعض الحقائق المؤسفة للطرفين كليهما». ومثال ذلك أننا إذا نظرنا إلى الصليبيين وغزو إسبانيا مجددا، فسقوط غرناطة عام 1492، نجد أن الحدثين عدا من المراحل المجيدة في تاريخ أوروبا الغربية. ولكنهما خارج هذا السياق، يكتسبان معنى مختلفا تماما، إذ هما اللذان يمهدان السبيل للفصل الثاني حيث يطرح الباحث جملة القضايا الأدبية المستجدة في سياقها البيئي واللغوي والتاريخي، وأهمها قضية الأجناس الأدبية في اللغة العربية. و منها الشعر العربي في شرق البلاد العربية وغربها، فهو تجربة إنسانية كونية مفتوحة لم يكن السبق فيها للعرب، ولن يكونوا فيها حلقة الاختتام.
وإنما هم يتبوؤون فيها منزلة لا يفضلون بها منازل غيرهم من الأمم، ولا هم في ذلك أدنى منهم. على أن ذلك لا يبخسهم في الوقت نفسه حق التفرد بكثير من الميزات التي تجعل شعرهم مخصوصا بخصائص حضارتهم، مطبوعا بطبائع بيئتهم، ولطائف لغتهم. وهذا التفرد هو الذي دفع المستشرقين إلى ترجمة الشعر العربي القديم، ونقله أحيانا في أوزانه العربية نفسها؛ على نحو ما فعل المستشرق الشاعر فريديريش ريكرت؛ وكان لترجمته وقع غريب على أذن القارئ الألماني، وهو يكتشف عالما شعريا غريبا عنه، وفي أوزان لم يعهدها؛ والوزن العربي العروضي كمي، في حين أن الوزن في لغات أوروبية مثل الألمانية نبري (كيفي). وقد ترجم ريكارت وهو شاعر أيضا ديوان «الحماسة» لأبي تمام وقصائد من الشعر الجاهلي، وخاصة لامرئ القيس.
ولولا الخشية من أن يحجزنا الاستطراد عما نحن بصدده، لسقنا أكثر من مثال على صورة الشعر العربي القديم، مترجما إلى أكثر من لغة أوروبية، عسى أن ندرك أنها صورة قديمة في المشهد العالمي والأوروبي تحديدا؛ وليست حديثة الميلاد كما قد يقع في الظن؛ ناهيك عن أثر الشعر العربي الأندلسي في الشعر الأوروبي في القرون الوسطى، سواء في أبنيته وإيقاعاته أو في أغراضه وموضوعاته، وبخاصة العذري منه (العفيف) أو«الكورتيزيا» الغربية (شعر الغزل وما يتميز به من رقة ولطف وأدب)؛ مما يحتاج إلى وقفة غير هذه. لعل المشكل في أن كثيرا أو قليلا من أدبنا المعاصر لم يتجرد عن رق المدونة الأدبية القديمة، وطرائق مقاربتها اللغوية. وهي التي وسمت الأدب بميسمها. على أن هذا من مباحث علم اجتماع الثقافة، ولسنا مؤهلين للخوض فيه. وإنما نثبت رأينا بكثير من الحذر والاحتراز.
صحيح أن كثيرا من شعرائنا تعاني نصوصهم من قلة محصول في الوزن أو في موسيقى الشعر، ولكن هذا التفسير على ما به من بعض حق، يحجب البنية الجمالية بالقدر ذاته الذي يحجب به دلالة ذيوع الظاهرة.
وربما يرجع إلى ذيوع أنماط من الكتابة لم تستوعب تماما منجزات الحداثة الغربية في الرواية والشعر خاصة. وصحيح أن كثيرا من شعرائنا تعاني نصوصهم من قلة محصول في الوزن أو في موسيقى الشعر، ولكن هذا التفسير على ما به من بعض حق، يحجب البنية الجمالية بالقدر ذاته الذي يحجب به دلالة ذيوع الظاهرة. وقد يكون الأمر أعمق ما استأنسنا بـ«جمالية التقبل» التي تبني التأويل على قاعدة حوار بين الماضي والحاضر، وتعيد الاعتبار إلى القراء في تمثل معنى العمل الأدبي عبر التاريخ تمثلا متلاحقا، والوقوف على مكوناته من خلال التفاعل أو تبادل الأثر بين فعل الكتابة وفعل التقبل. فليس النص «جنة كلمات غارقة في العزلة»؛ وإنما هو ضرب من التواصل الإبداعي تتضايف في حيزه علائق حوارية متنوعة بين النص ومتقبليه من جهة والمتقبلين أنفسهم من جهة أخرى. ولا يساورنا الشك في أن الترجمة هي التي يمكن أن ترسخ هذا التواصل الإبداعي، على الرغم من «حياديتها الظاهرية» كما تقول باسكال كازانوفا في مصنفها «الجمهورية العالمية للآداب». وهي السبيل إلى دخول كل الكتاب والشعراء العرب البعيدين عن المركز الغربي، إلى العالم الأدبي؛ خاصة أن الترجمة كما تقول باسكال صيغة اعتراف أدبي وليست مجرد لغة منقول إليها؛ وقيمتها لا تتحدد بحجم التبادلات في مستوى النشر، وإنما الترجمة هي «رهان المنافسة العالمية» مثلما هي وسيلة لتجميع الموارد الأدبية، بل الاستحواذ على «رأس مال أدبي» مصدره لغات مثل العربية والصينية وغيرهما. ونقدر أننا في سياق كهذا يمكن أن نتقصى حالة أدبنا في المشهد العالمي أي وهو مترجم؛ بدون وجل أو تهيب، بحثا في أسباب العزوف عنه، أو وفي أوجه العلاقات المعقودة بين العلامة والمدلول، وبين العلامة ومستعمليها، وبين العلامات بعضها ببعض، وما هو راجع إلى التداخل اللغوي أو مؤثرات اللغات الأجنبية واللهجات المحلية. ونذكر بقول الشاعر البرتغالي فرنندو باسوا «وطني هو اللغة البرتغالية، ولن يحزنني أن يُجتاح البرتغال أو يُحتل، طالما لم يصبني الأذى شخصيا». ونحن كما يقول أميل سيوران «لا نقيم بوطن، إنما نقيم في لغة».
٭ كاتب من تونس
ما ذنب المحصول إن كانت البذور مُهجّنة رغم خصوبة الأرض وعذوبة الماء.
” مَهبول من يَزرع الفول في أرض تهواها المُلُوحَة . . . ” الأرض المالحة لا تُنبت.
ما ذنب التلاميذ والبنفسجي مُهجن سياسيا رغم أن السَّنة من مطلعها بيضاء.