الاغتراب شعور قديم يلازم الإنسان منذ تعلم أن يعيش في جماعة، فوعي الفرد وحساسيته قد يدفعانه إلى عدم التوافق مع مجتمعه، فيغترب عنه، إما بالانعزال والانكفاء على الذات، أو برفض المجتمع وقيمه السائدة والتمرد عليه، ومن تجليات الاغتراب كذلك مظاهر الحزن والقلق الذي يعرّفه أريك فروم بإنه «نمط من التجربة يعيش فيها الإنسان كشيء غريب، ويمكن القول إنه أصبح غريبا عن نفسه، إنه لا يعود يعيش نفسه كمركز للعالم وكمحرك لأفعاله». ويهتم فروم بشكل خاص بقضية «اغتراب الإنسان عن ذاته» فهي تمثل جوهر قضية الاغتراب عنده، فإن أكثر ما يخيفه أن يفقد الإنسان ذاته، وجوهر فكرة الاغتراب يدور حول البعد والإقصاء، فتجاوزت معناها في البعد عن الوطن إلى معان أخرى احتفظت بفكرة النزوح عن الوطن، وإن ربطته بسياقات أخرى غير مادية، فلم يعد البعد المكاني شرطا لحدوث الاغتراب، وقد يشعر الفرد بالاغتراب وهو مقيم في وطنه وبين أهله.
الإرهاصات
وقد عانى الشاعر الراحل أمجد ناصر الاغتراب منذ بداياته، وهو ما انعكس على إبداعاته كلها شعرا وسردا. فهو الابن الأكبر لعائلة بدوية، واسمه الحقيقي يحيى محمد النعيمي، ولد في المفرق في شمال شرق الأردن عام 1955، كان اسمها الفدين، ثم أصبح المفرق لوقوعها على مفترق الطرق الدولية، وحدث أن انتقلت الأسرة إلى الزرقاء شمالي عمان، وهي مدينة ملأى بالأسر الفلسطينية المهجرة، فعاين معاناتهم عن قرب وهو ما أثر في توجهاته الفكرية في ما بعد. عمل في التلفزيون الأردني ثم انتقل إلى بيروت ليعمل في مجلة «الهدف» التي أسسها غسان كنفاني، وفي بيروت انضم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، واختار لنفسه اسما حركيا هو أمجد ناصر، ثم غادرها مع خروج المقاومة منها، عقب الاجتياح الإسرائيلي لها في 1982، فانتقل إلى عدن، ثم إلى لندن في 1989، وهناك تعمقت مشاعر اغترابه فتجلت في ديوانه «وصول الغرباء».
وهكذا امتلأت مسيرته بعناصر الاغتراب، المكاني والذاتي، فالبدوي بطبعه مرتحل، وقد باشر أمجد ناصر بداوة لم يعشها، وإن كانت بصماتها مطبوعة في جيناته الوراثية، فغادر مكانه وأهله وأيضا اسمه، واقترنت قصائده، وكتاباته النثرية كذلك، بالحنين، وامتلأت بمفردات الغربة والسفر، وظل التحول والتجريب في قصيدته تأصيلا لثيمات اغترابية واضحة في إبداعه، وقلقا أصيلا في ذاته الباحثة عن رؤيتها.
مقهى آخر
ترى نسرين محمود الشرادقة في كتابها «الاغتراب في شعر أمجد ناصر» أن قصيدته عبر كل مراحل إبداعه، حفلت بثيمات اغترابية فكرية وميتافيزيقية، وجاء الاغتراب تعبيرا عن شعوره بالانفصال عن محيطه الاجتماعي، كما جاء تعبيرا عن رؤية الشاعر لهذا المحيط، وجاء شكل القصيدة في شعره انعكاسا لما تحمله ذاته من ثيمة الاغتراب، فقد بدأ كشاعر بقصيدة التفعيلة التي عاينت الشأن اليومي، وابتعدت عن لغة الاستعارة والمجاز، ثم انتقل إلى قصيدة النثر، وقد أرجعت نسرين الشرادقة هذا التجريب المستمر في شكل القصيدة لديه إلى «القلق الراسخ في ذات الشاعر المتقلبة بين الرؤى والأفكار، كذلك كانت لغة الشاعر قالبا طيعا استوعب تحولات القصيدة الموضوعية والفنية»، وكان استخدام تقنية القناع تعبيرا واضحا عن هروب الشاعر واغترابه عن حاضره المثقل بالهزائم والانكسارات الذاتية والجماعية، وبذلك تكون البنية الفنية لقصيدة أمجد ناصر، انعكاسا واضحا لثيمة الاغتراب الذاتية، التي طغت على شعره عامة. والقارئ لديوان «مديح لمقهى آخر» يلحظ ذلك، فمن ناحية يحمل المقهى كمكان دلالات تنبئ بالاغتراب، فالمقهى للإقامة العابرة كفاصلة بين ارتحالين لنشدان الراحة، ومن ناحية أخرى يجد القارئ أن الشاعر أحاط قصائد التفعيلة التي يضمها الديوان، بقصيدة نثر في مفتتح الديوان «أبواب للسماء ولكنها ضيِّقة»، وكذلك أنهاه بقصيدتَي نثر: «كونكريت» و»نشيد وثلاثة أسئلة»، ما يعكس قلقا فنيا، يضاف إلى قلق الذات كأحد أهم مظاهر الاغتراب عند أمجد ناصر، فجاءت قصيدته انعكاسا لما تعانيه ذاته من تحولات، فكان التحول دائما لحظة مركبة، وكان دائما انتقالا بصريا ولغويا وكذلك فكريا وعاطفيا. وهذا ما اتفق فيه عباس بيضون مع نسرين الشرادقة، فقال في تقديمه «للأعمال الشعرية لأمجد ناصر» إن الشاعر اختار «أن يتجنب الأنا الدراماتيكية الهائجة المتوترة، والغارقة في مونولوجها الخاص، المشخصة على نحو مرضي للعالم».
«خبط الأجنحة»
يقول الشاعر المنقسم بين أمجد ويحيى، في حوار معه «أعرف أنني يحيى ولكني أعيش معظم الوقت كأمجد. أنسب إلى يحيى البراءة والقلب الأخضر والى أمجد الأخطاء والذنوب. فيحيى لم يعشْ حياة أمجد، ولكن يمكن لأمجد أن يتمنى لو كان يحيى، أو لو عاد يحيى»، ويكتب في ديوانه «حياةٌ كسردٍ متقطّع» قائلا: «في لندن التي أقيم فيها الآن بقناع شخص وهميّ فارّا من نبوءة أمي التي يرن فيها اسمي الأول كذكرى مفزعة: يا يحيى لن تعرف نفسك الراحة»، فكأن لا راحة للنفس من اغترابها إلا باستعادة يحيى، وهو ما لم تقدر عليه القصيدة، فلجأ الشاعر إلى الرواية، فكانت «حيث لا تسقط الأمطار» ثم «هنا الوردة» وفيهما يعود «أدهم جابر» إلى بلده الحامية بعد اغتراب قسري طال لعقدين من الزمان، وإلى اسمه القديم «يونس الخطاط» يصفه بقوله «الشخص الذي كنته في ما مضى»، فازدواج الاسم لم يكن قناعا، وإنما انقسام وتشظٍ، لذا تبدأ «حيث لا تسقط الأمطار» بالتعبير عن الحيرة فتقرأ في سطورها الأولى: «من أين تبدأ حكايتك الطويلة، أو حكاياتك المطلّة بعضها على بعض كبيت عربي قديم؟ أنت لا تعرف بالضبط». ويناديه قائلا: «أيها الرجل الهارب من عواقب اسمه، أو ما فعلته يداه»، هكذا يصبح أدهم الحاضر في المنافي بينما يونس الماضي، وبعد العودة تنقلب الأدوار فيصبح أدهم ماضي ما قبل العودة، ويونس هو الحاضر، وهي الإشكالية التي يعبر عنها الراوي بقوله «بمرور الأيام والترحال والبحار العازلة نسيت، تقريبا، يونس الخطاط.. هكذا من وراء أسوار الزمن البعيد، انبثق أمامك في المكان الذي لم تتوقع أن يصل إليه رسول أو خبر سار من بلادك. لم يكن يونس الخطاط بشخصه. هذا غير ممكن. هو لم يغادر الحامية إلا إلى الحدود وتوقف هناك، الذي عبر بلدا قاده إلى بلدان أخرى حمل اسما آخر وصارت له مصائر مختلفة»، وفي موضع آخر يقول «إنني الاثنان معاً، رأسي المكلل بالشيب وقامتي هما أدهم، أما الخافق الحرون بين أضلاعي فلعله لا يزال يونس».
هكذا يتأكد انقسام الذات، وما تبعه من تصادم شطريها، «قلت له على أي رصيف كنت تتسكع عندما وُجد والدك ميتا في محترفه، وعقب سيجارة في الطرف الأيسر من فمه؟ في أي حانة أو مقهى كنت تتجرع كأسا أو ترشف فنجان قهوة، وأمك يأكلها السرطان في مستشفى الحامية العمومي؟». وهو صدام يؤكد ديمومة الاغتراب كلعنة قدرية، لذا كان لا بد أن يموت يونس، فتبدأ «هنا الوردة» هكذا: «لا يعرف يونس الخطاط أنه سيموت بعد أيام، أو يتجمد في الهيئة التي هو عليها، في العمر نفسه والجسد ذاته».
كاتب مصري