سبق للقارئ العربي أن تعرّف على شعراء أمريكيين ممن غيروا خارطة الشعر العالمي، من أمثال: والت ويتمان، إدغار آلان بو، أميلي ديكنسون، إزراباوند، ألن غينسبرغ، آن ساكستون، تشارلز بوكوفسكي، لانغستون هيوز، سيلفيا بلاث وتشارلز سيميك. كما يحسن بنا أن نعترف بأثر بعضهم في الشعر العربي الحديث والمعاصر وفضله الطيّب على شعرائنا المُجدّدين، بمن صلاح عبد الصبور، وسعدي يوسف، وسركون بولص، ونورالدين الزويتني، وخالد مطاوع، تمثيلاً لا حصراً. وإن كُنّا إلى اليوم، نشكو غياب ترجمات أو مختارات كافية ومتجدّدة عن الشعر الأمريكي تُنقل إلى العربية باستمرار.
وفي هذا السياق، يمكن القول إنّ الأنطولوجيا التي أنجزها الصديق الشاعر الحبيب الواعي عن شعراء جيل البيت (Beat Generation)، تعود بنا إلى حقبة أساسية في متخيل الشعر الأمريكي لا يمكن فصلها، بأيّ حال، عن سياقها السياسي والسوسيوثقافي والأخلاقي، ولأنها عكست منحنيات الوعي الشعري عند شعراء هذا الجيل على اختلاف حساسياتهم ورؤاهم وتعبيراتهم الجمالية.
الجيل الشعري الذي رأى بغضب
لم يعرف تاريخ الشعر الحديث، ورُبّما الشعر في جميع الأزمنة، جَيْــلاً نوعيّاً ومختلفاً ومثيراً للجدل مثل جيل البيت الأمريكي، فهو لا يضاهيه مع أهميتها مثل هذه الأجيال الشعرية التي تمخّضت عنها الحداثة الغربية: جيل التعبيريين الألمان، جيل المستقبليين الروس، جيل الرمزيين الفرنسي، جيل 27 الإسباني. وفي شعرنا العربي، أمكن لن أن نشير إلى جيل الستينات العراقي بالنظر إلى منجزه الفارق داخل مشروع الحداثة الشعرية.
وعرّاب جيل البيت الأمريكي ورأس حربته، هو ألن غينسبرغ (1926- 1997)، وقد شكّل مع جاك كيرواك، وليام بوروز، مايكل ماكلور، غريغوري كورسو وفيليب ويلن أولى لبنات «البيت». ويعكس غينسبرغ في شعره فورة قلقه المستمرّ ووعيه الحاد والصدامي من العالم والحضارة، وفيه تتجاور بطريقتها الخاصة جماليات متنوعة روحية ويسارية وإيروتيكية. وقد عُدّ ديوانه «عواء» دليلاً ساطعاً ليس على وعي الجيل الشعري الغاضب وحسب، بل على حركة أدبية وثقافية تجاوزت الحدود إلى كثيرٍ من بقاع العالم. وبمبدأ «قوة الزهرة» أخذ في معارضة حرب الفيتنام، ولم يتوانَ في دفاعه عن الحريات المدنية والأقليات المضطهدة في جميع أنحاء العالم، وفي رفضه لأمريكا بسبب سياستها الإمبريالية، وهو يصرخ في وجهها متبرّئاً منها: «أمريكا لقد منحتك كل شيء وها أنا الآن لا شيء/ أمريكا، دولارين وسبعة وعشرين سنتيمات،/ سبعة عشر يناير وستّة وخمسين وتسعمائة وألف/ أنا لا أستطيع أن أحافظ على رأيي الخاص./ أمريكا متى سننهي الحرب على الإنسانية؟/ انكحي نفسك بقنبلتك الذرية!/ أنا لا أشعر أنني بحالة جيدة/ لا تزعجيني./ لن أكتب قصيدتي حتى يستقيم الرأي./ أمريكا متى ستصبحين بريئة؟/ متى ستخلعين ملابسك؟/ متى ستنظرين إلى نفسك من خلال اللحد؟».
أمريكا.. أمريكا
هذه النبرة الصارخة والساخطة تكاد تتكرر عند أكثر شعراء الجيل ومن أتى بعدهم، فهذا أدريان ميتشيل يكشف بشكل ساخر أكاذيب أمريكا حول الفيتنام. وهذا وليام بوروز يستغل «عيد الشكر» ليشكر، برمزيّة أليغورية طافحة بالمرارة والإدقاع، أمريكا على ما تُوفّره من خدمات العيد الديني بقدرما يهزأ من حلمها ويفضح أكاذيبها وجشعها المغلف بمسوح أخلاقي: «شكراً للديك الحبشي البري/ والحمام المهاجر الذي كتب عليه أن يصرف مع الغائط من خلال الأحشاء السليمة لأمريكا/ شكرا للقارة التي تشجع النهب والتسميم (…) شكراً للحلم الأميركي من أجل الفحش والتزييف حتى تلمع الأكاذيب العارية/ شكراً للـ ‘كي كي كي’ ولرجال القانون الذين يقتلون الزنوج ويتلمسون شقوق جروحهم». وتهزأ جــوان كـــايــغــــر في «الـنّوْم مــع الـــبـــي بــــي ســـي» من أمريكا التي فتئت تعلن الحرب ضد عالم يسعى إلى الحرية، وأن حكومتها لا تعود إلى شعبها لمشورته في الأمر، فيما هي تجمّلها وجهها في الإعلام: «على الأقلّ/ هم وهبوا نـبرة جميلة/ عـنـدما يـتحـدثـون عن القنابل/ على الأقل/ هم وهبوا انحرافاً طفيفاً في الصوت/ عندما يستعملون كلمة «بـوش»/ عـــنـدمــا نغادر هذا الـمـكــان/ كم يلزمنا أن نأخذ معنا من الأشياء؟». ويصل الأمر بجاك ميشلين إلى نعتها بالشيطان الذي يدير دواليب العالم بقبعته الكبيرة، ولا يمل من طقوسه في الخداع والقتل.
ويوظف لورنس فيرلينغيتي أليغوريّاً قناع «كلب» يجول الشوارع ومعه نكتشف زيف قيم الحضارة الأمريكية: «كلبٌ حقيقيٌّ حيّ/ ينبح من أجل الديمقراطية/ يشارك في المشاريع الحرة الحقيقية/ بشيء يقوله عن الوجود/ بشيء يقوله/ عن الواقع/ وكيفية رؤيته/ وكيفية الاستماع إليه/ برأسه يتأرجح من جهة إلى أخرى/ في زوايا الشوارع».
وعندما ضُرب برجا المركز التجاري العالمي في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، رفض أميري بركة في قصيدته «شخصٌ مـــــا فـجّــر أمـــريــكــا» أن يصدق الرواية الرسمية ويهرول وراءها تحت تأثير الصدمة، وظلّ طيلة قصيدته يستفهم عن العاقل «الأمبريالي» الذي يظهر أنّه خرج عن كل عقال: «من الذي يعيش على وول ستريت/ المزرعة الأولى/ من الذي ذهب بعقلك/ من الذي يغتصب أمّك/ من الذي قتل أباك/ من الذي يملك القطران،/ من الذي يملك الريش/ من الذي يملك عود الثقاب،/ من الذي أضرم النيران/ من الذي قتل ووظّف/ من الذي يقول أنا الله وما يزال شيطاناً». وبنبرة اتهام أوضح، تابع: «من الذي كان يعرف أن مركز التجارة العالمي سيفجر/ من الذي قال لأربعة آلاف عامل إسرائيلي/ في برجي مركز التجارة العالمي/ أن يبقوا في المنازل في ذلك اليوم/ لماذا بــقـي شــارون بعيداً؟». فأمريكا- في نظره- تكسب المال من الحرب والخوف والأكاذيب، وتريد أن يظل العالم كما هو تحت قبضتها الإمبريالية.
وعندما اهتزّ الضمير الإنساني على فضيحة سجن أبو غريب بالعراق بعد غزوه من أمريكا، كتبت نيلي شيركوفسكي قصيدة مدماة تحت تأثير الشعور بالصدمة والرعب: «أبدعتُ هذه القصيدة في أمريكا في ذاك اليوم حيث عرضوا/ جُنْديّـةً تُعامل رَجُلاً عراقيّاً وهو عارٍ كما لو كان كَلْباً/ فقط لأنها تمتلك أسلحة الدمار الشامل/ أبكي العيون الأمريكية/ أصرخ من أجل الشعر العراقي/ من أجل الفخر العراقي، من أجل رغبة الشعب العراقي/ في حياته، في تاريخه العميق/ «عيون بسيطة» ترى كلّ شيء/ أين ذهبت بلادنا أمريكا؟».
كما يُبطّن مايكل روتنبرغ شعره نَقْداً لاذعاً للنظام الأمريكي الذي يحرص على هوى الرأسمالية المتوحشة وقيم الاستهلاك الجماهيري، وعلى استدامة الجهل والتبعية في العلاقات الدولية: «حبّ مجامل؟/ كوندوليزا رايس وديك تشيني/ يلعبان الغُمّيضة في غرفة نوم لينكولن».
إذا كان شعراء الجيل مع من انتمى إليهم لاحقاً، قد جمعت بينهم قواسم مشتركة يتقاطع فيها السياسي بالسيرذاتي، والروحاني بالجنساني، إلا أن لكلِّ من هؤلاء أسلوبه الخاص ليس في الكتابة وحسب، بل وفي الحياة التي أملت هذا النوع من الكتابة أو ذاك: سياسي، سوريالي، غنائي، ساخر ولوذعي، أنثروبولوجي، إيروتيكي، روحاني
جاز وأفيون وقمر
لقد كشف هؤلاء الشعراء، في نقد بلدهم أمريكا «الأمبريالية»، عن حسٍّ عالٍ بأخلاقيات الكتابة في انحيازها إلى الإنسان والبيئة والجمال والحب، كما عند ديان دي بريما في رسائله الثورية من أجل الإنسان وحريته: «لن نستريح/ حتى يمشي الإنسان حرّاً وشُجاعاً على هذه الأرض/ كلُّ واحدٍ وفق طريقته الأصلية/ وقبيلته، مُسالِماً في الهواء الطلق». أو عند مايكل ماكلور في انتصاره للبيئة، وهو ينتقد النظم السياسية (الشيوعية، الرأسمالية، الاشتراكية) التي لم تقم بأي شيء للحفاظ على سيرورة الحياة، ويشير إلى الدمار الذي أحدثته السياسة إلى حدّ أن صار جزءاً من الجمال: «دعونا نتوقف! دعونا نتوقف عن/ هذا القتل اللامنتهي بآلة السياسة!/ دعونا نقوم بما في وسعنا لنوقف/ كثيراً من المعاناة التي لا طائل منها».
فهو يتميز في شعره بانشغال واعٍ بالبيئة الطبيعة، ولاسيما فيما يتعلق بالوعي الحيواني الذي غالباً ما يبقى مكبوتا لدى النوع البشري، فيأتي هذا الشعر مُبلوَراً بطريقة عضوية تعكس تقديره لصفاء الطبيعة. وأما آن والدمان فيتنبّأ بمصير وخيم للعالم الذي غدا متشابهاً بسبب قضائه على التنوع البيئي، وأنّه في طريقه إلى أن يصبح مُتوحّشاً».
وفي المقابل، بسبب ظروف الحياة القاسية أو تحت حياة الحشيش وموسيقى الجاز والبلوز، عاش كثيرٌ من شعراء الجيل حياة بوهيمية لا تعير للأخلاق وقيم المجتمع وزناً، بل جهروا برفضها والاستهزاء منها، وفي مقدمتهم جاك كيرواك الذي ابتلي بالمخدرات وأفرط في تناول الكحول إلى أن مات به بعد نزيف داخلي. لكنّه خلق أسلوباً خاصّاً به في الكتابة استوحاه من أجواء الروحانية الكاثوليكية وموسيقى الجاز والبوذية، وهو يتسم بالنثر العفوي الذي تتدافع فيه أفكار النفس بكيفية دافقة، إذ استغنى فيه عن النقطة واستعمل بدلًا عنه العارضة أو الشرطة. وعلى هذا النحو، تبدو العبارات التي تحدث بين الشرطات مثل لعقات موسيقيي الجاز المرتجلة على الساكسفون أو الترامبيت: «حزين اليوم، سعيد غداً: حزين اليوم، ثمل غداً:/ لماذا أغضبُ/ كثيراً؟/ الكلُّ في هذا العالم له عيوبه مثلي./ لماذا أزدري نفسي باستمرار؟ هو إحساس أتى فقط ليذهب./ كل شيء يأتي ويذهب. ما الجدوى!/ حروب الشر لن تبقى إلى الأبد !/ الأشكال الجميلة تذهب أَيْضا .»
وفي فترات مختلفة من حياته، استخدام بوروز موادّ تحتوي على الأفيونية، كما أنه أصبح مُدمناً على الهيروين، وظل يصارع تحت تأثير الإدمان لسنوات. واعتمد جاك ميشلين على موسيقى البلوز من هارلم وإيقاعات الجاز. عاش فقيرا على هامش المجتمع، وكتب عن المومسات ومدمني المخدرات والعمال ذوي الياقات الزرقاء والمحرومين. وعانى ريشارد بروتيغن من انفصام الشخصية والكآبة المزمنة، ووجد منتحراً في منزله.
وأما غريغوري كورسو الذي عاش حياة الأطفال المتخلى عنهم وتعرض لكثير من التعذيب النفسي والاستغلال البشع، فإنّ يبدو أكثرهم استهتاراً وتَراخياً في تعاطيه مع الحياة وقيم الحب والزواج، وتكمن قدرته في ازدواجية خطابه الذي يجمع بين النكتة والتعليق النقدي الجدّي: «ركضتُ صاعداً إلى غرفتي الصغيرة المفروشة/ ستّ درجات على السلم/ فتحت النافذة/ وبدأت أرمي/ بتلك الأشياء الأكثر أهمية في هذه الحياة». وينزع فيليب لامانتيا بتوجُّهه الجنساني إلى كتابة سوريالية غارقة في المدهش والغريب: «أنا في حانة أُدخّن القنّب الهندي مع مُشرَّد يشبه المسيح/ الهيروين بابٌ دائماً ما تفتحه النساء البيض/ أول فعل من أفعال الخيانة هو أنّني جئت إلى هذا الوجود/ أنا في حرب مع الزودياك/ معاناتي تأتي مثل نار في طريقها إلى الخروج/ آه، تأمّل العالم الجميل!/ إنّها لحقيقةٌ أنْ تُدخّن روحي!».
وتأثر بوب كوفمان الذي عاش في نيويورك حياة الفقر والإدمان والسجن، بالسوريالية وموسيقى الجاز التي كان يستوحي منها شعره ويُلقيه في المقاهي والشوارع: «ليكن إيمانك بالأصوات المنتظمة لموسيقى الجاز،/ وهي تمزق الليل إلى أشلاء متشابكة، وتعيده مرة أخرى إلى هيأته الأصلية،/ بالأنماط المنطقية الجميلة،/ وليس بالمراقبين المرضى،/ الذين خلقوا القنبلة فقط».
أساليب حياة وكتابة
إذا كان شعراء الجيل مع من انتمى إليهم لاحقاً، قد جمعت بينهم قواسم مشتركة يتقاطع فيها السياسي بالسيرذاتي، والروحاني بالجنساني، إلا أن لكلِّ من هؤلاء أسلوبه الخاص ليس في الكتابة وحسب، بل وفي الحياة التي أملت هذا النوع من الكتابة أو ذاك: سياسي، سوريالي، غنائي، ساخر ولوذعي، أنثروبولوجي، إيروتيكي، روحاني، إلخ. ومثل هذا التنوع في الأساليب يجعل من جيل البيت أكبر من كونه جيلاً، إنّه يضمُّ قارة شعرية ممتدّة في الزمن.
فمثلاً، يختلف فيليب ويلن عن الكثير من كتابات جيل البيت، باستعماله لأسلوب ساخر مفكّه بلهجته السياسية اللاذعة، إما في تعامله مع الأمور الدنيوية البسيطة بوقار، أو إنكاره لوجود الذات. ويرتكز لورنس فرلينغيتي على تقاليد الغنائية، ولكن ينفتح على تقنيات السرد، فيشيع في شعره عبارات قريبة من اليومي. ويبحث غاري سنايدر عن تمظهرات الطبيعي في الإنساني، فيلجأ إلى التقاليد الشفهية للأدب وإلى التعزيم والأغاني الشعبية. وتتميّز كتابات ريشارد بروتيغن بقدرة فائقة على التخيل وروح الدعابة، وقد أضفت الاستعارات المبتكرة على نثره إحساساً شاعريّاً فريداً. وبسبب نزوعه إلى البوذية، فهو يعالج ازدواجية الماضي والمستقبل وغياب الاستمرارية في الحاضر. وتمزج ديان دي بريما في شعرها بين تقنيات الوعي المنساب والانتباه القصدي بشكل يمزج السياسي بالممارسة الروحية. فيما يلتزم أدريان ميتشيل بكتابة شعرية تسمح بانضواء جميع الفئات الاجتماعية تحت لواءها، وهو من قال إنّ «معظم الناس يتجاهلون معظم ما كُتب من الشعر، لأنّ معظم ما كُتب من الشعر يتجاهل معظم الناس». ويرفع مايكل روتنبرغ من وتيرة السرد شبه المنطقي والميكانيكي الذي يحيّد البعدين الغنائي والعاطفي، ويتيح التهويل من تفاصيل صغيرة ومبتذلة حيناً، ومفكّكة ومبتورة حيناً آخر، في أتون اللعبة الإبداعية للخيال. وكما عبّر عن ذلك فيليب لامانتيا في أحد نصوصه، فإنّنا أمام: «جيل مختلف/ من شعراء ملوك يبنون/ العالم في أجزاء/ من اللعب الطبيعي الحلو/ ومن أشياء مصنوعة من معدن خفيف/ مادّة تنمو بتوادد/ عن طريق التأمل،/ والروح قد حُوِّلت إلى مادّة،/ (…)/ من مرجع لا ماضي له/ مضاد للعقلانية،/ شعريّ إلى درجة لا تصدق/ سلبيّ بعنف/ ومُتحيِّز بعاطفة/ كل شاعر هو نسيج وحده/ والشعر هو الحقيقة الجوهرية.» (ص193)
أمريكا أمريكا: أنطولوجيا شعرية لجيل البيت، مؤسسة أروقة، القاهرة، الطبعة الأولى 2020.
٭ شاعر مغربي