ماذا يعني أن يقبل العالم انتهاكات إسرائيل الرهيبة لحقوق الإنسان والقتل والمجازر التي ترتكبها. الصهاينة يمثلون الإمبرياليّة المستبدّة دون شك، والإرهاب متأصل في بنية الأيديولوجية الصهيونية، هذا ما يجب أن يفهمه العالم وجميع شعوب الأرض.الجميع يرى بوضوح كيف أنّ حلفاء أمريكا، وتحديدا كيانها الاستيطاني المجرم في المنطقة، يتمتع بحصانة غير مسبوقة، تحول دون مساءلته أو محاسبة قادته على ما يأتون من فظائع. دعم الولايات المتحدة لإسرائيل في عدوانها على غزة وفلسطين هو دعم للانحطاط الأخلاقي والسقوط الإنساني الذي لا مثيل له.
الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، تمثلان أكبر تهديد للسلام العالمي، من خلال لجوئهما دائما للعنف والاعتداء على سيادة الدول وأمن الشعوب، وأكبر مثال هو أفعالهم الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط، وفي فلسطين في حربهم المشتركة المتواصلة إلى اليوم، بشكل جعل إسرائيل كيانا معزولا، ومن أكثر الكيانات نفورا، وكل ذلك بتشجيع أمريكي. وليس مستغربا سجلّ أمريكا الخارجي الحافل بدعم أنظمة استبدادية، وتدمير بلدان، وإلقاء قنابل على مدنيين أبرياء أكثر من أي دولة أخرى عبر التاريخ، بما في ذلك القنابل الذرية، فعلت هذا اعتقادا مهووسا منها وتطبيقا لنظرية «الرجل المجنون الحربية»، حتى لا يستخف أحد بتهديداتها.
العالم الذي يدعي التحضر والتنور وحقوق الإنسان انهارت كل مقولاته، وكل ما يجاهر به من مواثيق وعدالة أو شرعية دولية
هكذا كان عقلها الاستراتيجي المريض يقدر الأشياء. ولكنها مع كيانها العنصري تقود اليوم معركة خاسرة ستنتهي إلى الفشل، مثلما انتهت جميع مغامرات أمريكا في الشرق الأوسط منذ غزوها العراق وزرعها الإرهاب والفوضى، ومحاولاتها إعادة الهيكلة والتقسيم. عربدة صهيونية متواصلة منذ عقود تختصر احتكار إسرائيل الفعلي للعنف في المنطقة. ومن ثم تأتي الحرب الهمجية على سكان غزة من قبل كيان استعماري إجرامي عقدوا معه اتفاقيات سلام وتحالفات أمنية على حساب فلسطين وشعبها الذي يباد ويهجّر قسرا تحت أنظارهم، وهم عاجزون عن فعل أي شيء. وبات من الواضح، خاصة بعد خيبة الأنظمة الرسمية العربية وبياناتها الهزيلة التي تعكس استسلام العاجز لفكره المهزوم، أنه لن يوقف إسرائيل في هذه الحرب، التي ترغب بوضوح من خلالها في إبادة سكان غزة وتهجير من يبقى منهم، إلا فشلها العسكري وتعاظم خسائرها أمام المقاومة الباسلة. ورسائل أبي عبيدة في ظهوره الأخير تكفي لإظهار فشل إسرائيل في حربها بعد 200 يوم، لم تحقق شيئا فيها على الإطلاق، المقاومة باقية ولا أسرى أطلقوا. رسائل يجب أن يستوعبها من قاد مسارات التفاوض وتنازلات أوسلو وغيرها، التي فشلت فشلا ذريعا، ولم تقدم شيئا لمصلحة الفلسطينيين، حقوقهم الإنسانية والتاريخية، تقتصرها المواقف الأمريكية على كونهم مصدر إزعاج، وفق نظرة لا سامية عميقة الجذور حوّلت العرب لمجرد مزوّدين للنفط في نظر الأمريكيين، أو إرهابيين متعطّشين للدماء تصنفهم في محور الشر. جهود القوى الاستعمارية تكاتفت مجتمعة لتبرير طموحات إسرائيل التوسعية، ووقفوا مجتمعين مع كيان احتلال واستيطان ودافعوا عنه بقوة. غطرسة ومعايير مزدوجة ترافقت مع ضعف البنى المؤسسية للنظام الرسمي العربي، بشكل جعل قرارات القمم العربية بلا قيمة أو إمكانية تنفيذ، خاصة ما يهمّ الاجتماعات العاجلة بشأن التطوّرات التي تحدث كلّ مرة في فلسطين المحتلّة. عوامل وهن وخيبة للأنظمة التي يزيد انفصالها عن الشعوب، وفّرت السياقات المناسبة للتفرقة وحدّت من فعالية النظام العربي وتطوره، ما سمح لإسرائيل أن تفعل ما تريد دون أدنى اهتمام بالمحيط العربي، الذي تدرك ضعفه وهوانه. صحيح أنّ الغرب منذ الفترة الاستعمارية وما بعدها، حال دون نشوء كيان جماعي بديل، وما زالوا يحاربون المحاولات الاتحادية. لكن هذا لا يبرر الخنوع والانهزامية المتواصلة بالنسبة للعرب والمسلمين، أمام كيان يعربد كما يشاء، ويريد تصفية شعب بكامله وفق منهج إبادة وتهجير وتطهير عرقي مكشوف أمام أنظار العالم. لقد اتضح خطر غياب الخيارات الجوهرية التي تحتاج إلى كيان جماعي متسق الوجهة، وليس كيانات متفرقة متنازعة الاتجاهات والنُظم. أين العرب من كل ما يحدث في فلسطين بالأمس واليوم؟ متى يدركون أنه لا بديل عن العودة إلى الذات الحضارية والهوية القومية الجامعة؟ الصراع داخل المنظمات اليهودية في أمريكا كان على الدوام عنوانا لمدى سيطرة إسرائيل، أو على الأقل الأحزاب الحاكمة فيها على السجال العام هناك. ومن الطبيعي أن تخشى إسرائيل قوة الحقيقة التي تكشف عنصريتها المقيتة أمام ما تقوم به من أعمال إبادة وجرائم ضد الإنسانية. لا يمكن لهذا الكيان أن يستمر في احتلاله للأراضي الفلسطينية، واضطهاد سكانها دون مساعدة الولايات المتحدة، التي تقدم له الأسلحة لقتل الشعب الفلسطيني. سياسة الحكومة الإسرائيلية التأسيسية المدعومة من الولايات المتحدة باستخدام استراتيجيات الإرهاب والطرد هدفها كان دائما توسيع الأراضي عن طريق القتل وتهجير الفلسطينيين. بالنسبة لما أصبح عليه الاتجاه السائد في الحركة الصهيونية، كان هناك هدف ثابت طويل المدى. وبصورة فجة، الهدف هو تخليص الدولة من الفلسطينيين واستبدالهم بمستوطنين يهود، تم تصويرهم على أنهم «الملاك الشرعيين للأرض» العائدين إلى ديارهم بعد آلاف السنين من المنفى. كانت السياسات الصهيونية منذ ذلك الحين انتهازية. عندما يكون ذلك ممكنا، تتبنى الحكومة الإسرائيلية، بل الحركة الصهيونية بأكملها، استراتيجيات الإرهاب والطرد. الهدف المباشر لسياسة الحكومة الإسرائيلية هو بناء «إسرائيل الكبرى» لذلك لا يستمعون لمقولات السلام أو حل الدولتين، ويستمرون في التوسع والاستيطان، ومن ثم قتل الفلسطينيين ومحاولة إبادتهم. قد يزيل ذلك شيئا عن استغراب كثيرين لماذا لا تهتم إسرائيل بدعوات حقوق الإنسان. ولا تجد دعوات وقف الحرب وقتل المدنيين وقصف التجمعات السكنية صدى لدى كيان صهيوني يتمتع بحصانة، ضد قوانين شكلية ومجالس الخيبة والازدواجية يوقفها رفع أمريكا يدها معلنة الفيتو بكل وقاحة، حتى أمام مقترح انضمام فلسطين كعضو دائم في الأمم المتحدة.
كل ما يقوم به كيان الاحتلال حتى الآن، قد ختم بموافقة أمريكية، ينتفي الضمير وتسقط الإنسانية أمام اختبار الحق الفلسطيني، وما يقوم به قتلة الأطفال والنساء والشيوخ من تدمير وقصف للمستشفيات وإجرام وتشفٍّ، يراه الجميع دون أن يحركوا ساكنا. الواقعية غابَت غيابا واضحا في عالم يدعي القانون والديمقراطية والعدالة كذبا وبهتانا، سقطت كل الأقنعة بعد هذا الاصطفاف المعلن للغرب الاستعماري بقيادة أمريكا مع كيان الاحتلال ضد الفلسطينيين. العالم الذي يدعي التحضر والتنور وحقوق الإنسان انهارت كل مقولاته، وكل ما يجاهر به من مواثيق وعدالة أو شرعية دولية. ويبدو أنّ الولايات المتحدة ستظلّ ملتزمة بسياسة خارجية رجعية وهمجية بمثل وحشية وهمجية كيانها الصهيوني، غير ملائمة للقرن الحادي والعشرين. فهي لم تتعاط بصورة جديّة مع كوارث العقود الماضية، بما يقتضي التخلي عن التعجرف الذي تسبّب في إحداث كثير من المعاناة حول العالم، وتبنّي استراتيجية من نوع ما لضبط النفس. بمعنى إعادة التفكير جذريا في النّهج الأمريكي للسياسة الخارجية وتحديد الأولويات، بعيدا عن العسكريتاريّة المسلحة، ودفعا نحو أشكال سلمية من العمل الدولي. هذا لم يحدث حتى الآن، في وقت يحتاج فيه العالم إلى سياسة دولية أكثر نضجا، بالنظر إلى الاستخفاف المستمر بحقوق الآخرين الإنسانية.
كاتب تونسي