أفقدت الهزائم المتتالية للإمبراطورية الأمريكية توازنها ووعيها وقدرتها على التمييز، وانكشف ذلك من هجوم فرنسا الشديد على حليفيها الأمريكي والبريطاني، وذلك في رد فعلها على قرار فسخ عقد شراء استراليا لغواصات فرنسية، واستغربت فرنسا انضمام استراليا إلي تحالف جديد؛ يتكون منها ومن أمريكا وبريطانيا، وذكرت صحيفة «الفيغارو» الفرنسية أن الإعلان عنه تم في 15 سبتمبر الجاري (2021) ويقوم على شراكة أمنية؛ ترتب عليها توقيع عقد شراء غواصات نووية أمريكية بديلا للغواصات الفرنسية التقليدية، والهدف من «الحلف الثلاثي الجديد» مواجهة الصين ودورها المتزايد في حوضي المحيط الهادي والمحيط الهندي، ويعود تاريخ توقيع العقد إلى عام 2016، ونَص على بيع 12 غواصة تقليدية؛ بتكلفة إجمالية بلغت 50 مليار دولار أسترالي؛ يساوي 31 مليار يورو.
واعتبر وزير الخارجية الفرنسي «جان إيف لودريان» أن إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية واستبدالها بأخرى أمريكية؛ تعمل بالوقود النووي، «سيؤثر على مستقبل حلف شمال الأطلسي» حسب ما نشرت وكالة الصحافة الفرنسية في 16/09/2021 ونقلت الوكالة عن الوزير الفرنسي قوله «ما جرى في قضية الغواصات سيؤثر على مستقبل حلف شمال الأطلسي (الناتو)» وقد قلل مسؤول في الحلف من خطورة الخلاف الفرنسي الأمريكي الأسترالي؛ خاصة في مجالات «التعاون العسكري» بين الدول المعنية، ودخلت العلاقات بينهم في أزمة مفتوحة ومتفاقمة إلى حد كبير، وبدأت فور الإعلان عن فسخ العقد، وكان عقدا ضخما تم إبْرِامه عام 2016 لشراء غواصات تقليدية، وتفضيل شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة وبريطانيا. وعليه ألغت السلطات الفرنسية حفل استقبال كان مقررا في واشنطن إحياءً لذكرى واحدة من المعارك البحرية الحاسمة في حرب الاستقلال الأمريكية؛ انتصر فيها الأسطول الفرنسي على الأسطول البريطاني في 5 سبتمبر 1781.
وبدا إلغاء الصفقة واستبدالها بأخرى أمريكية سببا في توتر شديد بين حلفاء غربيين أعضاء في حلف «الناتو»؛ ودخلت العلاقات الفرنسية الأمريكية في أزمة مفتوحة؛ وصلت حد وصف باريس للأمر بأنه «طعنة في الظهر» وقرار «على طريقة ترامب» وكان سبب ذلك هو إعلان الرئيس الأمريكي المفاجئ عن شراكة أمريكية استراتيجية مع بريطانيا وأستراليا، وإعلان تزويد الأخيرة بغواصات نووية أمريكية، وقد يدفع هذا فرنسا للانسحاب من حلف «الناتو» وإعادة النظر في المعاهدات والاتفاقيات والمعاهدات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وهي توفر أغطية شرعية وقانونية، وتمنح رخصا لأعضاء الحلف لإعلان الحروب، وإعمال الدمار والحصار والغزو.
لدول تراها العيون الغربية دولا مارقة تستحق العقاب، وأغلبها أهداف عدوانية لا تتوقف؛ بالتطهير العرقي، والتهجير القسري وغيره، ودائمة التركيز على مناطق وأقاليم بعينها؛ منها «القارة العربية» بطولها وعرضها، والشرق الأوسط والعالم الإسلامي وإفريقا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ويذهب ضحيتها ملايين البشر، وكميات ضخمة من المعدات والذخائر، وتتكلف مليارات الدولارات.
ومن جهته، قال وزير الخارجية الفرنسي «جان إيف لودريان» إن «القرار أحادي، ومباغت؛ يشبه كثيرا ما كان يقوم به الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ولم يَخْف الوزير الفرنسي غضبه واستياءه إزاء ما حصل، مضيفا «لا تجري الأمور على هذا النحو بين الحلفاء» وهو الذي شارك في مفاوضات إنتهت بما اُعتُبِر «صفقة العصر» وقت أن كان وزيرا للدفاع عام 2016، وندد بسياسة فرض الأمر الواقع الأمريكية، وتبعتها أستراليا، وغاب التواصل والتشاور المسبق.
بدا إلغاء الصفقة واستبدالها بأخرى أمريكية سببا في توتر شديد بين حلفاء غربيين أعضاء في حلف «الناتو»؛ ودخلت العلاقات الفرنسية الأمريكية في أزمة مفتوحة
وزاد قرار إلغاء الصفقة من توتر العلاقات الفرنسية الأمريكية، والاعتقاد الذي سرى بأن بايدن يعمل على تعزيز العلاقات بين ضفتي المحيط الأطلسي، وكانت قد توترت واضطربت إبان حكم ترامب، وعلى العكس من التقارير والأخبار المتداولة عن حدة الأزمة؛ هونت «آن سيزال»؛ خبيرة السياسة الخارجية الأمريكية بجامعة السوربون في باريس منها، فقالت «من المؤكد أن هناك أزمة دبلوماسية صغيرة على المائدة» وهذا لا يمنع من وجود خلافات وتناقضات من جانب واشنطن، الني تطالب حلفاءها الأوروبيين بتعزيز وجودهم العسكري في المحيطين الهندي والهادئ، وفي الوقت نفسه «وضعت واشنطن نفسها في مقدمة المتنافسين على بيع الغواصات الفرنسية»! واعتبرت «سيزال» إنها ضربة للطموحات الفرنسية، وتعكس أيضا «منافسة على الريادة» بين الولايات المتحدة والرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» الذي يطرح نفسه «رائدا للدفاع عن أوروبا».
ومن جانبه تعهّد الرئيس بايدن بمواصلة العمل بشكل وثيق مع فرنسا، ووصفها بـ«الحليف الأساسي» في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ولم تخفف هذه التصريحات من وطأة الاستياء الفرنسي؛ هذا وأدلى وزير الخارجية الأمريكي «أنتوني بلينكن» بدلوه، واصفا فرنسا بـ«شريك حيوي للولايات المتحدة» وأدعى «عدم وجود انقسام إقليمي بين مصالح شركائنا على ضفتي الأطلسي والهادئ» وأعطى مثلا بأن «الشراكة مع أستراليا والمملكة المتحدة تبرهن أننا نريد العمل مع شركائنا، ولا سيما في أوروبا، لضمان أن تكون منطقة المحيطين الهندي والهادئ حرة ومفتوحة»!
وتناول وزير الدفاع الأسترالي «بيتر داتن» السبب في تخلي بلاده عن الصفقة الفرنسية، وهو أن الغواصات الأمريكية مناسبة أكثر، وكانت استراليا بحاجة لغواصات نووية، ودُرِست الخيارات، وتبين أن النموذج الفرنسي أقل كفاءة من نظيره الأمريكي أو البريطاني.
وانتهى إلى القول «استندنا في قرارنا إلى مصلحة أمننا القومي»!!، ونفى الوزير الاسترالي وجود تواصل أمريكي فرنسي قبل إعلان بايدن عن التحالف الجديد، ونفت باريس بدورها إبلاغها مقدما بالخطوة قبل اتخاذها، وعبرت عن توجسها من استمرار سير بايدن على خطى سلفه، الذي منح أولوية لمواجهة الصين، وإن اختلف الأداء من ناحية الشكل، وأقيم هذا التحالف الثلاثي؛ كي يتصدى للمطامح الصينية، مرحلة ما بعد انسحاب أمريكا من أفغانستان، والمطلعون على ملف العلاقات الأمريكية الأوروبية لديهم تصور واضح عن نظرة واشنطن لحلفائها الأوروبيين، ويؤكد مدير المعهد الفرنسي للعلاقات «توما جومار» في تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية، قال فيه: «الأمر المؤكد أن واشنطن تنتظر من حلفائها الانصياع لها، ولا تتبع معهم نهجا تشاوريا»!
وهذه تناقضات وخلافات بدت كاشفة لفقدان واشنطن بوصلتها، وحيرتها من أمر نفسها؛ هل تستطيع الاستمرار في سياسة الهيمنة، التي سيطرت عليها بعد الحرب العالمية الثانية، وفرض عقوبات وحصار ضد كل من يخرج عن طاعتها، رغم الثمن الباهظ الذي تتكلفه من سوء السمعة، ومن دورها بث الكراهية، ومن نشر الفتن، واعتماد العدوانية والفاشية، واستغلال الإرهاب ذريعة لتدمير الشعوب وتخريب الدول، واعتماد سياسة العدوان والغزو ضد من يرفع رأسه ويطالب بالتحرر من العبودية المعاصرة، ويرغب في التفوق الصناعي والزراعي والتكنولوجي والعلمي.
وجاءت استعادة روسيا للياقتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية والثقافية، فزادتها اقترابا من الصين؛ رغم الكلام المصكوك الممل، وتكرار مقولة عدم القدرة على مجابهة الصين وروسيا، وما يمكن أن يلحقوه من دمار للعالم جراء ذلك، وأتصور ذلك «خداعا استراتيجيا»؛ يسبق الحروب والمعارك الكبرى، ويختلف عن ما في النفوس والصدور؛ مقارنة بما يجرى على الأرض.
وما حدث مع فرنسا تم سرا وخلف أبواب موصدة؛ ذلك واحد من عشرات البراهين على التمويه والغدر والخداع الاستراتيجي وغير الاستراتيجي، وما الحشد الجاري، إلا بداية محتملة لاختراق أحد حلقات الطوق الصيني الروسي الكوري (الشمالي) الإيراني؛ ثلاث منها لديها قدرة الرد والردع النووي؛ الصين وروسيا وكوريا الشمالية، وإيران تقف على عتبة دخول النادي النووي!
وطوال العقد المنصرم من هذا القرن والغرب يتهيأ لمعركة كبرى؛ هدفها إجهاض التقدم والانطلاق الصيني، وتتسرب من سنوات معلومات متداولة داخل دهاليز وغرف سرية، خاصة بعد عودة الروح إلى روسيا، فملأت فراغ الاتحاد السوفييتي السابق، الذي سقط مغشيا عليه، حتى أسلم الروح، وانفردت الولايات المتحدة وأشبعت العالم تنكيلا وقتلا وتدميرا وتقسيما وتفتيتا وتطهيرا عرقيا وحروبا أهلية، وأحلافا عدوانية؛ معدُة للغزو مع أول فرصة.. هل تجد إن أزمتها يحلها الانكفاء والعزلة، كما كان عليه وضعها حتى الحرب العظمى (1914 ـ 1918) أم تستمر فيما هي فيه حتى تغرق في بحور الدماء!
كاتب من مصر
بل التسليم بالشيخوخة المبكرة حسب نظرية ابن خلدون فيي نشأة الدول و تقهفرها فان أمريكا شهدت عصرها الذهبي في الألفية الأخيرة من القرن الماضي أما القرن الحادي والعشرين فسيكون قرن الصين بلا منازع