ينطوي المشهد الأمريكي اليوم على كابوس وعرس. هو كابوس ملايين المواطنين الذين يعانون حدثاً سياسياً دموياً غير مسبوق في حياتهم: أن يقتحم متظاهرون مسلحون، بدعوةٍ من رئيس البلاد مبنى الكونغرس بما هو مقر السلطة التشريعية، ويمعنون فيه تخريباً، وبالمشرّعين المذهولين تنكيلاً وتقريعاً، ويشتبكون مع رجال الشرطة فيقع بين الطرفين عشرات القتلى والجرحى.
قيل في وصف الحدث الجلل إنه يعادل في خطورته الهجوم الياباني الغادر على قاعدة بيرل هاربر الأمريكية أثناء الحرب العالمية الثانية. حتى الرئيس السابق، بطل الحرب الوحشية على العراق، جورج بوش الابن، وصفه بأنه «حالة تمرد تليق بجمهوريات الموز».
صحيح أن ترامب سقط بضربة قاسية، لكن الترامبية لم تسقط، لقد باتت تياراً شعبياً قوياً تستند إلى رافعة لافتة: 75 مليون صوت
دونالد ترامب الذي كان قد حضّ أنصاره على التوجّه إلى مبنى الكونغرس لمطالبة نائبه مايك بنس، الذي ترأس جلسته التشريعية، بالتدخل لعكس مسار الهزيمة، استثار تنديداً شديداً في الداخل من الرؤساء والقادة الديمقراطيين والجمهوريين، وفي الخارج من رؤساء الدول والحكومات الصديقة والمعادية، ومن الصحف الكبرى وشتى وسائل الإعلام في الشرق والغرب. لعل ذروة محنة ترامب الشخصية تجلّت في موقف القطب الاقتصادي العالمي وحليفه الواسع النفوذ، مالك شبكة «فوكس نيوز» التلفزيونية و»وول ستريت جورنال» روبرت مردوخ، الذي دعاه في مقال افتتاحي إلى تحمّل مسؤولياته والاستقالة. غير أن المشهد الأمريكي عرسٌ لخصوم ترامب، الذين رأوه أخيراً يرحل مهزوماً، ولو مؤقتاً، ذلك انه أعلن عدم مشاركته في حفل تسلّم جو بايدن مقاليد الرئاسة لوجوده في منتجعه بولاية فلوريدا، لكنه وعد أنصاره بالعودة إليهم رئيساً في انتخابات 2024. قادة الحزب الديمقراطي لم يكتفوا بهزيمته، كبيرتهم رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي دعت إلى عزله، وكشفت أنها «تحدثت إلى رئيس أركان الجيوش الأمريكية الجنرال مارك ميلي، لمناقشة التدابير الوقائية المتوافرة لتجنّب قيام رئيس مختل، مضطرب، وخطر بهجمات عسكرية عدائية، أو باستخدام رموز الإطلاق، ليأمر بضربة نووية». كما تعهدت بأن يتحرك الكونغرس في حال لم يتنحَ ترامب «طوعاً وفي وقت وشيك».
يصعب على الكونغرس خلال أيام معدودة تفصله عن حفل تنصيب الرئيس المنتخب إنهاء عملية عزل ترامب. مع ذلك، ثمة جماعة وازنة بين أعضائه تدعو إلى محاكمته وإدانته، حتى لو تمّ الأمر بعد تسلّم بايدن مقاليد السلطة، للحؤول دون ترشحه للرئاسة سنة 2024. دلالةُ هذا الموقف أن إخراج ترامب من البيت الأبيض لا يعني بالضرورة إخراجه من الحياة السياسية. صحيح أنه سقط بضربة قاسية، لكن الترامبية لم تسقط، لقد باتت تياراً شعبياً قوياً تستند إلى رافعة لافتة: 75 مليون صوت نالها الرئيس العجيب الغريب في الانتخابات الأخيرة. ما جرى ويجري ينطق بحقيقتين ساطعتين:
*الأولى، أن أمريكا تمشرقت وتمزقت. تمزقت بمعنى أنها انقسمت على نفسها وتمزقت فئات وجماعات متنافرة، متناحرة، تتوزعها عصبيات عرقية وطبقية ومناطقية، تلجأ إلى السلاح والعنف، على نحوٍ يحاكي ما جرى ويجري في بعض بلاد العرب وغرب آسيا. إلى ذلك، ثمة مشاكل أخرى مربكة: يشكّل السكان ممن هم من أصول أمريكية إسبانية، حسب مركز «بيو ريسرتش سنتر» 17% من الشعب الأمريكي، وتعدّ الإسبانية اللغة الأم لأكثر من 41 مليون شخص، ولغة ثانية في 43 ولاية من ولايات أمريكا الخمسين. فوق ذلك، يدفع التفاوت في الموارد والعمران والتقدم بين الولايات، إلى نموّ تيارات انفصالية فاعلة. ولاية آلاسكا الغنية بالنفط والتي سكانها من أصول روسية طالبت بالانفصال، وكادت تناله لولا قراران للمحكمة العليا في واشنطن في 2009 و2015. كذلك ولاية كاليفورنيا التي تشكّل الأقليات 51% من مجموع سكانها دفعت ممارسات أقليتها البيضاء السكان إلى المطالبة بالانفصال، شأن ولايات نيويورك وفلوريدا والمكسيك وتكساس وأريزونا.
*الثانية، ثمة تململ واسع وعميق في ولايات الوسط الأمريكي، ولاسيما في أوساط الأجيال الشابة والطبقات ذات الدخل المحدود، من سيطرة الولايات الكبرى والنخب السياسية التقليدية المسيطرة على مؤسسات السلطة والاقتصاد. هذه الأجيال والجماعات الشابة ليست مناهضة لمنظومة ترامب فقط، بل للنخب والقيادات التقليدية للحزبين الديمقراطي والجمهوري ايضاً. وعليه، فإن إدارة الرئيس بايدن لن تكون مضطرة إلى مواجهة تيار الترامبية اليميني الأبيض فحسب، بل الجماعات الشابة المناهضة للقيادات التقليدية في كِلا الحزبيين النافذين أيضاً.
ماذا بعد؟
صحيح أن الرئيس بايدن وإدارته سيكونان منشغلين، بالدرجة الأولى، بقضايا الداخل وتحدياته الماثلة، إلاّ أنهما مضطران أيضاً إلى مواجهة عالم مضطرب، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، هو أحد جوانب تركة ترامب الثقيلة. أول التحديات الصين، بما هي القطب الدولي القوي اقتصادياً والقادر على أن ينتزع من أمريكا قيادتها الوحدانية للعالم. ثاني التحديات روسيا بما هي منافسة أمريكا الأولى على التعاون مع أوروبا وربما التحالف معها، كما هي الخطر السيبراني الأول الذي يهدد الأمن القومي الأمريكي. ما يهمنا في عالم العرب سياسة بايدن ومواقفه من ثلاث قوى اقليمية كبرى: «إسرائيل» وإيران وتركيا. ليس بايدن معادياً لإيران كما ترامب، بالعكس هو أبدى استعداداً لإعادة بلاده إلى الاتفاق النووي معها، الذي كان ترامب سحبها منه سنة 2018. غير أن له تحفظات حيال تعاظم نجاح إيران في صناعة الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، والأرجح أنه سيحاول ربط عودة بلاده إلى الاتفاق النووي بمفاوضة إيران حول هذه الصواريخ كونها تشكّل خطراً داهماً على «إسرائيل».
الى ذلك، ثمة سؤال حول موقف «إسرائيل» من إيران وتهديدها بأنها لن تسمح لها بإنتاج سلاح نووي. صحيح أن إيران تلتزم عدم تصنيع أسلحة نووية، غير أن دعمها السخي لتنظيمات المقاومة في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق، يحمل «إسرائيل» على محاولة احتواء محور المقاومة بضرب أذرعها في هذه البلدان الأربعة، ما يضعها في صراع حتمي مع إيران. فماذا تراه يكون موقف بايدن وإدارته في هذه الحال؟ تركيا ليست معادية لـِ»إسرائيل» وإن بدت أحياناً متحفظة حيال تصرفاتها المؤذية للفلسطينيين. غير أن اعتماد تركيا سياسة توسعية ناشطة في البحث عن مكامن النفط والغاز في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، يضعها في حال تنافس وربما صدام مع مصر و»إسرائيل» وقبرص واليونان، التي تتداخل مناطقها الاقتصادية البحرية الخالصة مع تركيا. ثم إن استمرار تركيا في احتلال مناطق حيوية جداً في شمال غرب سوريا وشرقها يضعها في حال توتر، وربما اشتباك مع إيران وسوريا نظراً للتحالف القائم بينهما.
كثيرةٌ هي التحديات التي تواجه بايدن في الداخل والخارج، ما يحول دون اتضاح سياسته ومواقفه حيالها قبل اكتمال تشكيلة إدارته ومباشرتها العمل الجاد في الربيع المقبل.
كاتب لبناني