تكمنُ أمريكا أو ما يُعرف بالولايات المتحدة الأمريكية في المُتخيل بوصفها البلاد المكتشفة، أو الجديدة… أرض الفرص والأحلام والحرية؛ أي أنها حالة تقع في مجال ثقافي ينهض على تصورات، وفي بعض الأحيان مُعاينة، علاوة على ما يمكن أن ينشأ من العبور إليها، أو ربما اختبارها ضمن مقولة الاكتشاف، أو الدراسة، فالمسافة وحداثة التكوين، وجدل المعضلة الأخلاقية، وتناقضاتها يبقى جزءاً من هوية أمريكا، التي لا يمكن أنْ تتصل بها سوى بالاختبار والدراسة. وعلى الرغم من محدودية تكوين فكرة، أو موقف لعوائق مكانية أو زمانية، إلا أنها تبقى خاضعة لما يمكن أن ننعته بالانطباع والأثر، لكن مع ذلك تبقى كتل كبيرة من المرجعيات، أو الأنماط التي تشكلت بفعل الزمن، بما يعنيه من توافر مقولات السياسي، والثقافي، والإعلامي، والتاريخي، والذاكرة.
ثمة في أمريكا جزء كبير من هذا التكوين الخطابي الذي تشكل بداعي سينما هوليوود التي صاغت تمثيلات هذا البلد، وفي الغالب لا يمكن أن نتيقن من حقيقتها كونها أضحكت كياناً ثقافياً ينطوي على الكثير من الجدل النسقي الذي شُيد على مراحل، فلا يمكن أن نختزل أمريكا بهويتها السينمائية، على الرغم من أنها الأكثر تأثيراً، فثمة هويات أخرى: سياسية وأدبية وقيمية وعلمية، ولا يمكن أن نرى أمريكا إلا عبر روائيين أو شعراء منهم، مارك توين وجون شتاينبك وسكوت فيتزجيرالد، ووالت ويتمان وديكنسون وإمرسون، وإدغار ألن بو.. ناهيك من فنانيها وعلمائها.. ولا يمكن تجاوز التوافق بأن هذا البلد قد برز بوصفه القوة الأكثر تأثيراً، وهذا لا ينشأ عن تميز بلا مُسوغات، إنما ينشأ عن سياقات حضارية مثلتها أمريكا المتحدة، لكن يبقى السؤال الأهم كيف أصبحت أمريكا على ما هي عليه الآن! مع الإشارة إلى وجود بعض الدول التي تمتلك شيئاً من مواصفاتها، على مستوى البنى الجغرافية والبشرية، مع التفوق التاريخي والتقني، غير أنها لم تحقق ما حققته أمريكا، وبناء عليه هل يمكن القول إن أمريكا تعلمت من تجارب الدول أو الأمم الأخرى؟
لا يمكن إلا أن نستعيد تلك القيم التي نهضت عليها أمريكا، وشكلت هويتها التي يراها البعض أقرب إلى خطابات وهمية قوامها أرض الحرية والأحلام، لكن التاريخ أثبت ذلك، ولاسيما مع بدايات تشكلها، ومحاولتها المستمرة للمحافظة على هذه الصيغة التي تُعلي من شأن المواطنة والولاء للدولة، على حساب أي قيم أخرى، أو بغض النظر عن المرجعية التي وفد منها الإنسان، وهذا جاء ضمن مراحل، وعلى شكل نضالات لم تُنجز بعد، على الرغم من الخيبات والأثمان التي اضطرت إلى دفعها لمحاربة العنصرية التي ما زالت قائمة لدى البعض، وغير ذلك من عوار قيمي.
أمريكا ليست سوى صراع دائم مع ذاتها، ولعل أهم تمظهر يعكس ذلك الحرب الأهلية، والحراك المستمر للمجتمع المحلي، سواء أكان نقابياً أو طلابياً أو حركياً. إنها في حالة بحث مستمر عن الصيغة الأفضل، على الرغم من تشوهاتها، فضلاً عن خطاياها التي لا تُغتفر على المستوى السياسي – على الأقل- غير أنها في عمقها المؤسساتي مدركة لأسرار وجودها، وكيفية المحافظة على السبق الحضاري الذي يميزها، وهنا يكمن الفرق بأن أمريكا تحرص على أن تبقى شخصية تنافسية، ونعني الإبقاء على جذوة روح التعدد على ما عداه.. لتكون أمريكا بلداً متعدداً، مفتوحاً، والأهم صون الحرية لذاتها – على الرغم من الجدل أو عدم التوافق حول هذا- لكن تبقى مقولة فرانكلين روزفلت صحيحة.. إذا ما وضعت في سياقها الصحيح، إذ يرى بأن عظمة أمريكا تكمن بأنها لا تعتمد على رجل واحد، وإنما على المبادئ التي تنهض عليها، إذ يمكن أن نحلل هذه العبارة في سياقات متعددة، كونها تمضي بنا إلى معالجة عميقة للمبدأ، وليس للهامشي، أو المستهلك خطابياً.
إن فاعلية التطور لا يمكن أن تُؤتي ثمارها ما لم يُسارع إلى الفصل بين الذات والأفكار، فعلى الرغم من أن الأفكار هي التي تشكل الماهية، لكن ينبغي لها أن لا تلغي وجود الذات، فثمة تقبل للفكرة، كونها تعني إضافة، وهذه الإضافات المُستمرة تعني دينامية مما يعني بالمحصلة نفي الجمود، والتحجر، والتموضع السلبي الذي يؤدي إلى ضمور أي كيان بغض النظر عن قوته أو نقائه.
تبدو خطايا أمريكا لا تُغتفر على المستويين الداخلي والخارجي، فثمة إرث لتلك الخطايا، أهمها المعايير المزدوجة التي تتعامل بها، والتي قد تبدأ من لحظة الاستيطان، وإبادة السكان الأصليين، ويكاد لا ينتهي بالممارسات العنصرية، علاوة على توفر قدر كبير من النفاق السياسي، فضلاً عن مغامراتها العسكرية، غير أن أمريكا تبقى ضمن فلسفتها الظاهرية قائمة على أهمية صون قيم الدولة من خلال المحافظة على التماسك الداخلي الذي ترى بأنه الركن الأساس لبقاء وجودها، فمفهوم الدولة ضمن التشكيل الاتحادي يحرص على أن يصون مبدأ الحرية الذي يكفل الوحدة، والذي يعني ضمن نطاقها الفلسفي شيئا لا يُختلف عليه، كونه محفوظاً نتيجة الطابع المؤسساتي القائم على الدستور، كما إعلان الاستقلال، وما أعقب ذلك من تعديل يتمثل بتوقيع وثيقة الحقوق في فيلادلفيا عام 1781، بمعنى، كي تبقي على الوحدة عليك أن تحافظ على الحرية، على عكس ما يحصل في دول العالم النامي. في حين يمكن أن نحيل أحد عوامل هذا التفوق إلى وجود مبدأ تقبل فكرة النقد الذاتي، والمستمر- مع بعض التحفظات – ومن ذلك الإدراك بأن النقد جزءٌ من عملية مراجعة مستمرة للذات، فالثقافة هناك لا تقيم تداخلاً بين النقد والذات والدولة، ولعل أبسط مثال على هذا نعوم تشومسكي أحد أكبر المُنتقدين للسياسة الأمريكية، ومع ذلك فلا يُشكك أحد في ولائه أو مواطنته، على الرغم من أنه جاء مهاجراً ولاجئاً، غير أن مؤسساتها العلمية استثمرت في هذا الوجود.
إن فاعلية التطور لا يمكن أن تُؤتي ثمارها ما لم يُسارع إلى الفصل بين الذات والأفكار، فعلى الرغم من أن الأفكار هي التي تشكل الماهية، لكن ينبغي لها أن لا تلغي وجود الذات، فثمة تقبل للفكرة، كونها تعني إضافة، وهذه الإضافات المُستمرة تعني دينامية مما يعني بالمحصلة نفي الجمود، والتحجر، والتموضع السلبي الذي يؤدي إلى ضمور أي كيان بغض النظر عن قوته أو نقائه.
في زيارتي للولايات المتحدة الأمريكية، وحين هبطت الطائرة في مطار «جون إف كينيدي» كنت مُشبعاً بالأفكار، والمنجز من الأحكام، والتاريخ، أضف إلى ذلك ممتلئاً بما كتبه لوركا، وغيره عن مدينة نيويورك، لوركا الذي رأى نيويورك بوصفها مدينة بلا روح.. إسمنتية، مغرقة في البرودة، وكئيبة، وعنصرية، وخطيئتها الأكبر كونها رأسمالية تحكمها الآلة، والعزلة، لكنها بدت لي أقرب إلى مدينة إدوارد سعيد بقدرتها على أن تمتص الكل، وتذيب الوجوه واللغات والألوان والاختلافات، أن تكون مدينة في وضعية الحياد، مدينة المنفيين، أو تلك المُنفلتة من فكرة الأحكام… المدينة التي تستقبل المُبعدين والمُهددين ومن ثم تكون مكاناً للانتقاد من قبل من احتضنتهم.. هي عينها المدينة التي تُحاك فيها المؤامرات والدسائس.. وكل ما يجعل العالم أكثر قتامة ورعباً.. هي مدينة تمتلك هويتها التي تبدو أقرب إلى حالة من الانفلات من معنى الجمود، فهي تهضم كل شيء، لكنها معتزة بنفسها، هكذا تبدو أمريكا نوعاً من المزيج الغريب الذي يتقبل كل شيء، ويبدد كل شيء، فكل بقعة فيها لها طابعها وقيمها وتكوينها، انطلاقاً من ماهية احترام حق الاختلاف، لكن تحت مظلة أمريكا.
لك أن تكره أمريكا أو تحبها.. من منطلق بأننا لا نملك تصوراً نقياً تجاهها، كونها تجمع هذا المزيج من القبح والجمال، مع شيء من الإنسانية، أو ربما انعدامها، لكن الشيء الوحيد الذي يمكن أن نتيقن منه، أنها التناقض الجديد لفلسفة هذا العصر، ونبقى مع ما قاله لوركا في ديوانه: «الفجر في نيويورك ـ تظلله أعمدة أربعة من الوحل – وعاصفة من الحمائم السوداء- يخضن في المياه العفنة».
كاتب أردني فلسطيني
أمريكا قليل من المبادئ و كثير من الخطايا ?
وادوارد سعيد نفس الشيء ، من اشهر ما انجبت فلسطين ، كان دائم التأكيد على انه مواطن امريكى