تأسست الاستراتيجية الأمريكية في العالم في فترة ما بعد الحرب الباردة على العديد من الرؤى، بعضها موغلة في التفاؤل، وبعضها الآخر مفرطة في التشاؤم، ولعل أبرز تلك الرؤى على الإطلاق «نهاية التاريخ» للمفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما، الذي رأى في انتصار الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية نهاية التاريخ، معتقداً أن هذا النموذج هو أفضل ما توصل إليه الفكر البشري، إذ كتب قائلا: «إننا على الأغلب لا نشهد نهاية الحرب الباردة أو أيّ مرحلة من مراحل تاريخ ما بعد الحرب، بل نهاية التاريخ، كما كان، أي النقطة الأخيرة من نقاط التطور الأيديولوجي للبشرية وتعميم الليبرالية الغربية، كشكل أخير من أشكال إدارة المجتمعات البشرية» وعلى هذا الأساس، لم يبق للآخرين من فرصة للنجاة إلا بركوب القاطرة الأمريكية قبل فوات الأوان، فهي الضامنة لولوج ما بعد التاريخ، حيث الحرية والسلام والعيش السعيد، غير أن هذه النظرة المتفائلة جداً، لم تبق وحيدة في ساحة التفكير الاستراتيجي الأمريكي مدة طويلة، فقد نازعتها نظرة أخرى، كانت على النقيض منها تماماً، ترى أن الصراع، وإن انتهى أيديولوجياً (الرأسمالية في مقابل الشيوعية) غير أنه ارتدى زيّاً آخر، وصفه صموئيل هنتنغتون بـ«الصراع بين الحضارات» حيث يكون للثقافة دور في تغذية الصراعات والحروب، جاعلا الغرب في مقابل بقية العالم، ومقسماً الحضارات المتنافسة إلى سبعة أو ثمانية مكونات حضارية، في هذا الصدد يقول: «والخلاصة أن عالم ما بعد الحرب الباردة هو عالم مكون من سبع أو ثماني حضارات، العوامل الثقافية المشتركة والاختلافات هي التي تشكّل المصالح والخصومات وتقاربات الدول» وقد حدد التهديد الأكبر للغرب في الحضارة الإسلامية والصينية، إذ أطلق عليهما وصف «حضارات التحدي» مرجحاً، في الوقت نفسه، «أن تكون علاقات الغرب بالإسلام والصين متوترة على نحو ثابت، وعدائية جداً في معظم الأحوال».
وعلى النقيض ممّا كان يسوّق له ساسة الغرب، أنّ نهاية الحرب الباردة ستؤدي لا محالة إلى نهاية الحروب، وبالتالي، العبور بالبشرية إلى عالم السلام؛ دشنت أمريكا، زعيمة العالم الحر، حروبها ضد الإسلام، بدعوى مكافحة الإرهاب (الإسلامي) عدو الحرية والديمقراطية، وبهذا تبنت أمريكا استراتيجية الصراع بدلا من التعايش، والحرب بدلا من السلام، فانطلقت آلة الحرب في العديد من الدول العربية والإسلامية تقتل وتدمر؛ من العراق إلى السودان إلى أفغانستان إلى الصومال إلى ليبيا. حرب واحدة، عنوانها، كما يبدو، ملاحقة الإرهابيين (الإسلاميين) لكنها، في الواقع، تخفي هدفها الحقيقي، المتمثل في إخضاع الخصوم، والسعي إلى تأكيد الهيمنة الأمريكية على العالم؛ كان من نتيجة هذه الحرب، كما هو معروف، دمار الأوطان، وتهجير الشعوب، وإشاعة الفوضى في المنطقة، واستمرار الديكتاتوريات، وتحالف الأضداد والأقليات.
فهل انتصرت أمريكا في هذه الحرب؟
الجواب بالطبع لا؛ بدليل أنها انسحبت من العراق، تاركة إياه فريسة تنهشه الطائفية والفوضى، وتتنازعه الميليشيات التابعة لإيران، عابثةً بأمنه، وناهبةً لثرواته وخيراته، ثم غادرت أفغانستان العام الماضي، بعد أن تجرعت من كؤوس الهزيمة على يد حركة طالبان، التي عادت إلى الحكم بعد صراع دام عشرين سنة.
هناك من يجادل بأن الولايات المتحدة قامت بتغيير استراتيجيتها، وما انسحابها من أفغانستان سوى خطة لاحتواء الصين، لكن، على فرض صواب هذا التحليل، فإن انسحابها قد يكون، فضلا عن ذلك، بسبب إدراكها بأن الانتصار على المسلمين، على الرّغم من ضعفهم ووهنهم، قد ثبتت استحالته، والأولوية اليوم للمعركة المستعجلة مع الصين على من يقود العالم، العدو الذي وصفه هنتنغتون بـ«التهديد الأقوى» على أنّ السؤال الذي يطرح هنا هو: هل سيكون هناك صدام بين أمريكا (الغرب) والصين، على غرار الصدام مع الإسلام؟
رؤية هنتنغتون إلى الصين
عندما صنف هنتنغتون الحضارات في كتابه: «صراع الحضارات: إعادة بناء النظام العالمي» وضع الحضارة الصينية القائمة على مبادئ كونفوشيوس في المرتبة الأولى، إذ يعتقد بأنها «تشكل التهديد الأقوى للغرب على المدى البعيد» وذلك نتيجة الاختلاف في القيم والمعتقدات بينهما، فعلى عكس الغرب، الذي «يؤمن بالفردية والحرية ومبادئ القانون والديمقراطية وحرية السوق، والفصل بين الكنيسة والدولة» فإن الصينيين يعتقدون بـ«قيم السلطة، والتراتب الهرمي، وثانوية الحقوق والمصالح الفردية، وأهمية الإجماع، وتجنُّب المواجهة، وبشكل عام، الإيمان بسيادة الدولة على المجتمع، والمجتمع على الفرد». وبما أنّ أمريكا «أمة تبشيرية» فهي تنظر إلى القيم الغربية بأنها كونية، من حق كل شعوب العالم الاعتقاد بها، ومن هنا، تأتي ضرورة تصدير هذه القيم وتعميمها، حتى إن تطلب الأمر استعمال القوة، بخلاف الصينيين، الذين يرون أن قيمهم خاصة بهم، لأنها تمثل رصيداً روحياً وثقافياً وتاريخياً عظيماً، يمتد طويلا في أغوار الماضي البعيد، غير أن نجاح مشروعها في الهيمنة في المستقبل، مرتبط بمدى مقدرتها على تصدير نموذجها في «النظام والانضباط» إلى العالم. واللافت للنظر، بداهةً، أنه عند مقارنة هذه القيم، نجدها متضادة ومتباينة، فالفردية مقابل ثانوية المصالح الفردية، ومركزية الحقوق تقابلها ثانوية الحقوق، وكراهية السلطة مقابل تقديسها، إلخ، وبناءً على هذا التضاد، ينشأ الاختلاف، ومن الاختلاف تُبنى «خطوط التصدع بين الحضارات» ومن خطوط الصدع هذه، ستظهر حتماً مسوغات الصدام، و«جبهات المعارك». بالإضافة إلى ما سبق، يأتي التهديد الصيني للغرب، من الكثافة السكانية الهائلة، وامتداد مساحة الصين على رقعة جغرافية شاسعة، ونمو اقتصادها بشكل مذهل، وتزايد قدراتها العسكرية.
وبما أنّ أمريكا «أمة تبشيرية» فهي تنظر إلى القيم الغربية بأنها كونية، من حق كل شعوب العالم الاعتقاد بها، ومن هنا، تأتي ضرورة تصدير هذه القيم وتعميمها، حتى إن تطلب الأمر استعمال القوة، بخلاف الصينيين، الذين يرون أن قيمهم خاصة بهم، لأنها تمثل رصيداً روحياً وثقافياً وتاريخياً عظيماً.
الصدام الحتمي
كل ما تقدم يجعل الصدام بين أمريكا والصين حتمياً، وقد تفطن الغرب إلى التهديد الصيني، بعدما تجاهله لسنوات طويلة، ربما لانشغاله بمعركته ضد الإسلام أو توجسه من عودة روسيا، ما جعل إيمانويل تود يتعجب من نفاق الغرب، الذي ينظر بعين الرضا إلى الديكتاتورية الصينية، في حين ينظر إلى التسلطية الروسية بعين السخط، إذ يقول: «إن التعاطف الذي تحظى به الصين في وسائل إعلام أمريكا الشمالية أو أوروبا، يتعارض مع الصرامة المطبقة في روسيا. فإذا كان هذا الإعلام لا يغفر شيئاً للديمقراطية التسلطية الروسية، فإنه ينظر، في المقابل، إلى ما يصدر عن التوتاليتارية الليبرالية الصينية على أنه مجرد خطايا بسيطة» لكن، بمجرد ما غيّر دونالد ترامب من نظرته، وصعّد من لهجته تجاه الصين، ملمحاً في حديثه عنها: «بوصفها مشكلا، وليس بوصفها معجزة» حتى تغيرت نظرة الغرب إليها.
كما اعتبرت الصين بأنها السبب في انتشار فيروس كورونا بتلك الصورة المهولة، لأنها تسترت على وجوده في البداية، ثم عملت على تزييف الحقائق والتقارير الخاصة به، ما أدى، والحال هذه، إلى انتشاره في العالم كله، مخلفاً خسائر بشرية ومادية هائلة؛ فسرت بكين الرد الغربي العنيف هذا على أنه مؤامرة تستهدف الصين واقتصادها. اليوم، في الإعلام الغربي، استبدل الحديث عن«فوبيا الإسلام» بـ«فوبيا الصين». وبناءً عليه، فإن الصين بالنسبة لأمريكا «مشكلة» كبيرة، لأنها تسعى إلى تقويض الهيمنة الأمريكية، والحدّ من سيطرتها على العالم، من خلال تمددها في مناطقٍ كانت إلى وقت قريب تحت النفوذ الأمريكي، في المقابل، تعتبر الولايات المتحدة في نظر الصين دولة عدوانية، توسعية، وأنانية، تتدخل في شؤونها الداخلية بشكل سافر، فهي «الضامن للوضع الراهن في تايوان، ولها أضخم وجود بحري في بحري الصين الشرقي والجنوبي، والحليف العسكري الرسمي أو غير الرسمي للعديد من الدول المجاورة لها»؛ فكيف يتجنب العالم الصدام بين هاتين القوتين النوويتين؟
نحو عالم متعدد القطبية
هناك من يرافع اليوم، بعد الحصيلة السلبية لهيمنة النظام الأحادي على العالم: (أزمات، حروب، دمار، فوضى..) حينما تفردت الولايات المتحدة بقيادته، للتعددية القطبية، يعمل الجبابرة (أمريكا، الصين، أوروبا، روسيا، الهند..) على تشييد هذا النظام، ومن ثمّ، التعاون في تسيير شؤون العالم، لكن، يبدو أن هذه الأمنيات بعيدة المنال، وحتى تتحقق يجب على أمريكا أن تتنازل عن مشروعها التوسعي، وتتخلى عن طموحها الإمبريالي: «ينبغي للولايات المتحدة، أن تمارس حلا بسيطاً: هو التخلي عن إمبراطوريتها» فهذا هو الخيار الوحيد والأفضل في هذا الوقت، الذي يحفظ كرامة أمريكا من جهة، ولا يهين كبرياء الصين من جهة أخرى، وإلا فإنه الصدام بين القوتين العظمتين. غير أن هذا الخيار، في الواقع، وإن كان يلبي رغبات الصين وطموحاتها، خاصة أنها لا ترغب في القيادة الآن، لأنها تعرف حدود قوتها، وتدرك مدى قوة أمريكا، وهي غير مستعجلة في الأمر، ما دام الوقت يمضي في صالحها، فهو، في المقابل، لا يحقق رغبات أمريكا؛ فأمريكا تنظر إلى نفسها بأنها أمة استثنائية مختارة لأداء مهمة نبيلة للبشر، وهي امتداد لمهمة الرجل الأبيض، الذي حمل «عبء الحضارة» للأجناس الأخرى في الماضي، كل هذا يجعلها ترفض هذه المسألة من أساسها، فهي لا ترضى إلا بالقيادة الأحادية «أنا أو لا أحد» ولعل خير دليل على هذا الاستنتاج، ما حدث مؤخراً عندما قامت نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي بزيارة جزيرة تايوان، إذ فسّر البعض هذا السلوك بأنه استفزاز واضح للتنين، واستدراج مقصود، لكي يغزو هذه الجزيرة، كما فعلت مع بوتين في أوكرانيا، غير أن تعامل القيادة الصينية مع الزيارة بحكمة وذكاء، فوّتت الفرصة على نجاح هذا السيناريو، على الأقل في الوقت الحالي، وهذا يدعم ما قاله هنري كيسنجر بأن النموذج الصيني يقوم على «البراعة، والمراوغة، والتراكم الصبور للمكاسب النسبية» لكن، على ما أعتقد، بأن استمرار مثل هذه الممارسات المستفزة، من شأنها أن تُفقد القيادة الصينية حِكمتها وصبرها، لأنّ فيها إهانة للصين، ومساساً بمصالحها، ما يجعل العالم أقرب إلى الحرب منه إلى السلام، والصدام منه إلى التفاهم.
كاتب مغربي