«لنجعل أمريكا عظمى مجدّداً»: ذلك كان الشعار الذي اختاره دونالد ترامب في عام 2015 عنواناً رسمياً لحملته في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وما أبلغ النتيجة التي وصلنا إليها اليوم! غدت الولايات المتحدة مضحكة العالم ليس بالمعنى المجازي فحسب بل بالمعنى الحقيقي أيضاً، كما حصل عندما قهقه ممثلو الدول الأعضاء في الجمعية العمومية للأمم المتحدة قبل أربعة أشهر وهم يهزؤون من تباهي ترامب بأن إدارته «أنجزت أكثر من أي إدارة أخرى تقريباً في تاريخ بلادنا». وقد ضاهى إنجاز ترامب الفكاهي إنجاز معمّر القذّافي من على المنصّة ذاتها قبل عامين من نهايته الشبيهة بنهاية الجرذان، وهي الصفة التي أطلقها على الذين ثاروا ضدّ استبداده في بداية «الربيع العربي».
تصوّروا لو أن معمّر القذّافي لا زال حياً متربّعاً على سدّة الحكم في ليبيا وقد علم كيف يستخدم تويتر! لموتّ العقيد العالم من الضحك بلا شك وهو يموّت الليبيين من العذاب (بالمعنيين المجازي والحقيقي هنا أيضاً). ولاحترنا نحن بين الضحك من تهريج «ملك ملوك أفريقيا» والبكاء على عذاب إخوتنا في ليبيا. (لعلّ أشهر وأفضل تصوير مجازي لمثل ذلك المزيج من المأساة والمهزلة فيلم تشارلي تشابلن الشهير «الدكتاتور» الذي سخر فيه من هتلر).
إن مصير أمريكا وبريطانيا أشبه بمصير أي إمبراطورية واجهت أفولاً قابله صعود منافسيها، فحاولت أن تجعل عجلة التاريخ ترجع القهقرى ولم تفلح محاولتها اليائسة تلك سوى في إسراع تقهقرها هي ومفاقمة أفولها
ويحتار المرء كذلك بين الضحك والبكاء أمام مشهد دونالد ترامب ذي عقل العصفور (المعذرة من العصافير!) ينشر فرمناته وخواطره بالتغريد من على سدّة الرئاسة الأمريكية. صحيحٌ أن النظام الدستوري الأمريكي يمنع ترامب من تنفيذ نزواته على غرار العقيد غير المأسوف عليه، غير أن ترامب يرأس أعظم قوة على وجه الأرض، وليس دولة صغيرة مثل ليبيا، ولديه ما يكفي من السلطات كي يُلحق أضراراً وخيمة بالعالم أجمع كما تشهد على ذلك قرارته الخاصة بشؤون البيئة، على سبيل المثال لا الحصر.
«لنجعل بريطانيا عظمى مجدّداً»، ذلك كان شعار دعاة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تيمّناً بالشعار الذي جعل منه حليفهم ترامب عنوان حملته الرئاسية. وقد شهد عام 2016 المشؤوم، بين ما شهد من مصائب، فوز «بريكسيت» (الخروج البريطاني) في الاستفتاء الذي نظّمته حكومة لندن وبعده بأربعة أشهر ونصف فوز ترامب بالرئاسة الأمريكية. ولا تقلّ النتيجة بلاغة والعالم يتفرّج اليوم على المشهد المُضحك المُبكي الذي يقدّمه الحكم البريطاني، بجناحيه الحكومي والبرلماني، وهو يتخبّط في تعقيدات محاولة خروج من الاتحاد الأوروبي تُجمع الدراسات الجدّية على أنه، أي الخروج، سوف يلحق ضرراً كبيراً باقتصاد البلاد.
والحقيقة أن «بريكسيت»، سواء حصل أو لم يحصل في نهاية المطاف، إنما جعل بريطانيا تبدو أصغر مما كانت عليه في أي وقت مضى منذ قرون عديدة بدل أن يجعلها «عظمى مجدّداً». وقد انجلت الجزيرة البريطانية الكبرى بوجهها الحقيقي، وجه «بريطانيا الصغرى» التي بات بيّناً للعالم أجمع أنها دولة، إن عملت بمفردها، تأتي اليوم في الصفّ العالمي الثاني بعد دول الصفّ الأول، ألا وهي أمريكا والاتحاد الأوروبي والصين وروسيا والهند واليابان. ومن سخريات التاريخ أن دولتين من المنتميات إلى هذا الصفّ الأول ـ أمريكا والهند ـ أخضعتهما بريطانيا لنيرها الاستعماري طيلة قرون!
أما العبرة العميقة من هذا المشهد العالمي فعبرة قديمة قِدَم الإمبراطوريات التي نشأت قبل عدة ألفيّات خلال ما يسمّى بالتاريخ القديم. فإن مصير أمريكا وبريطانيا أشبه بمصير أي إمبراطورية واجهت أفولاً قابله صعود منافسيها، فحاولت أن تجعل عجلة التاريخ ترجع القهقرى ولم تفلح محاولتها اليائسة تلك سوى في إسراع تقهقرها هي ومفاقمة أفولها.
كاتب وأكاديمي من لبنان
هذا ما قاله عالمنا الجليل ابن خلدون في مقدمته الشهيرة في نشوء الدول وانحلالها وأمريكا وبريطانيا لا تشذان عن القاعدة وهاتان الدولتان عاثتا في العالم فسادا وخاصة في العالم العربي وإذا أفلتا فلا أسف عليهما
عظمة الأمم تتجلى في مدى نجاعة تعليمها وفي كفاءة من يشرفون على التعليم.
فالبلاد العربية ترى الفاشل يمر على الوزارة مرات عدة فكيف لبلد في بوم من هذا النوع أن ينهض وتكون له مكانة بين الأمم.