عمّرت طويلا في بلدتي نابية الواقعة في منطقة المتن الشمالي من لبنان، سيّدة فاضلة تربّت على يديها الحانيتين عائلة كريمة متواضعة، إتّسم جميع أفرادها بالسيرة الحسنة والأخلاق الحميدة. وتفرّق شمل العائلة في أصقاع الأرض وقست عليها وعليهم غربتهم، فأكملت وحشة سنينها الباقية في الشوق وقهر الوحدة، وبين عّسر ويّسر. ورثت عن بًعلها قطعة صغيرة من الأرض كان يسعفها على حراستها عامل وافد من دولة عربية مجاورة، يدعى عبدو، طيّب القلب، وكانت تمنعه عزّة نفسه عن طلب المال مقابل أتعابه لضيق حالها. حيث كان يعمل لديها خلال فترات الراحة في ساعات العصر، ويرضى بالقليل من طبخها الشهي المتواضع في غياب طبخ قرينته البعيدة، وبفنجان قهوة ‘أم صالح’ في أوقات العصر، التي كانت تغنيه عن السفر الى مصر، كما يقول المثل الشائع، ‘قهوة العصر ولا السًفر الى مصر’. وفي يوم صيف حار من أيام شهر آب (أوغسطس)، طرق باب أم صالح إبنها البكر القادم من البعيد البعيد ليكحّل عينيه برؤية والدته وينعش فؤاده ويطفىء الحنين الدفين بضمّة من الصدر الذي ارضعه الأرادة الصلبة والعزّة والكرامة والوفاء والشوق المتأجج أبدا في فكره وقلبه وكيانه، أينما رمت به الأقدار. إستعادت الأم حياتها بعودة صالح بعد إغماءة قصيرة من فرحة الغمر وإطفاء قسوة نار الشوق العميق. أمضت أم صالح طوال صبيحة ذلك اليوم في الزغردة وتحضير وليمة البهجة والفرحة التي لا تقاس بحروف الكلمات الصامتة. إنتظرت أم صالح قدوم عبدو الى بيتها لتزفّ اليه فرحتها الصاعقة بقدوم إبنها البكر ودعوته الى المائدة الفاخرة المطعّمة بالتبولة والحمّص المتبّل، ومتبّل الباذنجان والشنكليش واللحم المشوي على الأسياخ التي لم تستعملها منذ سفر ابنها الصغير، عاصم. لم تتناول أم صالح الطعام، إنما كانت تُشبع عينيها الدامعتين بهالة السرور والفرح المطلق التي كان يضفيها عليها قُربها من صالح، بعد معاناة متواصلة مع التصوّر والإستحضار الذهني والتخايل المُضني. وكانت ايضا، تصرّ على عبدو تناول الوفير من الأكل وحشوه في أمعائه التي تعوّدت ندرة الطعام وقلّة تنوّعه. بعد حين لم يحتمل عبدو البقاء، فشكر الأم وإبنها على عجل، وتوجّه الى غرفته بخطى ثقيلة باردة. دخل الى الغرفة واستلقى على بطنه من شدّة الألم الناتج عن استحالة أي إمكانية لهضم ما اضطرّته أم صالح على أدخاله الى أمعائه، تحبّبا وتكريما وتعويضا عن تقصيرها السابق معه. دخل عليه صديقه كاظم وهو في حالة صحية يرثى لها، فطلب منه ان يذهب الى أم صالح لتأتيه بطبيب. أحضرت أم صالح طبيب البلدة على الفور وانتظرت كتابة وصفة العلاج لتبتاع له الدواء. بعد سؤال الطبيب لعبدو عن الطعام الذي تناوله، طمأنه والحاضرين وطلب منه التوقّف عن الاكل ثلاثة أيام متتالية حتى تفرغ أمعاؤه وتعود الى حجمها المعهود. كما شكر الطبيب أم صالح على كرمها الحاتمي واشترط عليها عدم الاصرار على حشو دواخل عبدو من جديد بكميات وأنواع ماكولات دسمة شهيّة لم تتعوّد عليها أمعاؤه ‘المناضلة’. أعود مع هذه الحادثة الى أحداث ‘الربيع العربي’ التي توالدت بتسلسل مفضوح، من دولة عربية الى أخرى. ماذا فعلت المطالبات بالديمقراطية وحرية الرأي والتعبير مع هذا الربيع القاحل المتنقّل، بشعوب هذه الدول! ماذا فعلت مفاهيم هذه الديمقراطية الدسمة في الإستيعاب الفكري المفقود من أذهان هذه الشعوب طوال أجيال متتالية! أن ما أصرّت على حشوه أم صالح في أمعاء عبدو هو ناتج عن حسن نيّة، وتعويض عن تقصير متواصل في تكريم يستحقّه مقابل أتعابه منذ مدة طويلة. لكن، هل ما تصرّ عليه الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا العسكرية من تحقيق لنشر الديمقراطية في المجتمعات العربية هو ناتج عن حسن نيّة لتطوّر الأنسان العربي فيها وضمان استقرارمستقبلهم ومستقبل أجيالهم اللاحقة! أن السلاح الذي تقدمه هذه الدول للأطراف المتحاربة، ليس سوى سكاكين جارحة طاعنة لأمعاء كل طموحات هذه المجتمعات البدائية. وكما تعوّدت أمعاء عبدو على قلّة الطعام، كذلك الأمر مع الشعوب التي عاشت في كنف الديكتاتوريات مع الكبت والتسلّط والجًور وغياب العدالة والرحمة. المؤسف أنّ الانطمة العربية وعلاقاتها مع شعوبها لا تقوم سوى على قوة ولحمة الجيوش، كما هو عنوان أحد كتب الإعلامي المخضرم والمفكّر الكبير محمد حسنين هيكل، ‘جُيوش وعُروش’. إن الحاكم العسكري الأميركي، بول بريمر، هو البادىء والأظلم، الذي أصدر قرارا بحلّ الجيش العراقي بُعيد الإحتلال الأميركي الغاشم والمجرم، وأوقع العراق بالإنشقاقات الطائفية الحاصلة فيه منذ عقد من الزمن، وأدّى الى هذا الهدر المحيطي القاني من دماء العراقيين الأبرياء. انظروا ماذا جرى ويجري في تونس وليبيا من فلتان أمني في غياب وجود جيش سها عن تشكيله كل من القذّافي وبن علي، بقصد أو غير قصد. وبالرغم مما يجري في مصر، فما زالت للجيش هيبته وسطوته. وكذلك الأمر مع ما يجري في سورية، فانّ للجيش العربي السوري الدور الكبير في ضمان وحدة سورية، َشاء من شاء وأبى من أبى. اللعنة على هذه الديمقراطية التكفيريّة التي ستتحقّق مع الموعودين بحواري الجنّة الذين يستعيضون عنهنّ في هذه الدنيا مُسبقا بفتاوى ‘جهاد النكاح والمناكحة’. اللعنة على ديمقراطية الأعضاء التناسلية وما لذّ وطاب من هذه الدعارة الديمقراطية على أشلاء الأطفال والشيوخ والنساء الأبرياء ودمار المدن العريقة ونهب وسرقة وبيع الآثار والمتاحف وتاريخ الحضارات.