أمل رمسيس: الصناديق الأوروبية تريدنا ضحايا وخاصة النساء 

زهرة مرعي
حجم الخط
1

بيروت-“القدس العربي”:لفيلم “تأتون من بعيد” حكاية ودرب مشقة واجهت الإنتاج وتعثّر طويلاً. وفي النهاية صار على الشاشة وحصد الجوائز والإعجاب. لم يكن فيلماً يعيد للذاكرة زمن الفاشية التي ضربت اسبانيا، ومشاركة متطوعين عرب بهدف هزيمتها، بل ليقول أيضاً أن الفاشية نفسها تمددت لتلتهم فلسطين.

هي الصدفة التي حرّكت حوافز المخرجة المصرية أمل رمسيس للبحث عن تاريخ أقفل عليه، فوجدت عائلة المناضل الفلسطيني الراحل نجاتي صدقي، وأبناءه المشتتين بين روسيا، اليونان والبرازيل. مع دولت، وهند وسعيد فُتحت الذكريات الإنسانية والوطنية. وكان للمخرجة تحقيق النجاح في وضع الحكايات في سياقها بين الماضي والحاضر.

مع المخرجة أمل رمسيس هذا الحوار:

*بأي حافز خضت هذا المشوار الطويل مع فيلم “تأتون من بعيد”؟

**في سنة2003 كنت أقرأ مقالاً في مجلة إسبانية يتحدث عن مشاركة العرب في حربهم الأهلية. فلم يسبق لمقال ذكر مشاركة العرب، فيما كان الكثير من الكتابات يتحدث عن مشاركة المغاربة. وهؤلاء أتى بهم فرنكو من المستعمرات الإسبانية. وصورة هؤلاء المغاربة لدى الإسبان وحشية، ويرونهم الدرع الأساسي في انتصار الفاشية. تكلم الكاتب في تلك المجلة عن حوالي 700 متطوع عربي أتوا من لبنان، وفلسطين، ومصر وسوريا وكذلك المغرب العربي لدعم الثوّار، بدافع أفكارهم الأممية. وفي معظمهم دخلوا إسبانيا عبر فرنسا بجوازات مزورة، ولم تكن حولهم معلومات كثيرة. ولأنني كنت أعيش في إسبانيا وأعرف ما يتردد عن دور العرب في انتصار فرانكو، شكلت تلك المعلومات لحظة استثنائية لي، خاصة وأنها تزامنت مع بدء الغزو الأمريكي للعراق. وحينها قررت مجموعة من الشباب الإسباني السفر للتضامن مع الشعب العراقي. لم يكن هدفهم الحرب، بل وجدوا ضرورة للوقوف مع الشعب العراقي علّهم يوقفون الغزو. من جهتي وجدت ضرورة التعبير عن المشاركة العربية الأممية، التي ربطت هزيمة الفاشية في أي مكان من العالم، بهزيمة الإستعمار في بلادنا.

*إذاً ماذا عن الخطوات العملية لإنطلاق العمل؟

**تواصلت مع كاتب المقال وكان بعمر الـ85 سنة. زودني بكل الوثائق التي في حوزته. وتابعت بحثي المعمق للتمكن من وضع الصورة في سياقها. طرحت السؤال لماذا خاطر عشرات الشبان العرب بحياتهم وشاركوا في تلك الحرب مع شعب ولغة لا يفهمونها؟ وجهت اهتمامي نحو الأسماء، وبدأت البحث عن قصة شخصية ولم أكن في صدد فيلم تسجيلي كلاسيكي. لم آمل اللقاء مع أحد المشاركين في تلك الحرب. إنما الصدفة نفسها وضعتني سنة 2007 مع كتاب إسباني عن الرحّالة العرب، وفيه فصل خاص بنجاتي صدقي، فشكّل أول شهادة مكتوبة لأحدهم شارك في تلك الحرب. وعربياً صدر في الستينيات كتاب عن المشاركة العربية في الحرب الأهلية الإسبانية بتوقيع خالد بكداش، اكتشفت لاحقاً إنها مذكرات نجاتي صدقي نشرها باسم بكداش الذي لم يشارك في تلك الحرب، والسبب أمني. كتاب الرحّالة العرب أرشدتني إلى هند صدقي التي تعيش في اليونان، وهي بدورها زودتني بكتاب لوالدها صادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية هو شهادة سياسية فقط. حسمت أمري وسافرت إلى هند وكان التواصل غنياً. عرفت حكاية دولت في روسيا، والشتات الفلسطيني الذي بدأ في رأيي في سنة 1939. فقبل النكبة كانت أحزاب فلسطينية تناضل، وبعضها بمشروع أممي. وعندها قررت البدء بالفيلم.

* تعثر التمويل لماذا؟ أليس موضوعاً جذاباً؟

**الموضوعات التاريخية ليست جذّابة لصناديق الدعم الأوروبية. وبغض النظر عن الثورة الإسبانية ففيلم يقول بفلسطينيين لهم أرض كانوا يناضلون فيها ليس مقبولاً. أوروبا تريدنا في السينما مسلمين إرهابيين، أو ضحايا خاصة نحن النساء. مطلوب تقديم أفلام تقول أننا ضحايا الذكورية في بلادنا. فقط وجدت مؤسسة إسبانية دعمتني في الأبحاث التي استغرقت ثلاثة أشهر سنة 2008. ومع ذلك ثابرت في رسم الصورة الكاملة عن عائلة صدقي نجاتي في الشتات. وفي سنة 2015 تلقيت اتصالاً من هند تقول أن دولت بدأت تفقد ذاكرتها ولم أكن قابلتها بعد. وهكذا سافرت مع زوجي والكاميرا وكانت لقاءات ممتعة مع دولت في موسكو، هي شخصية غير عادية. فهمت تاريخ عائلتها ووطنها. تعتبر نفسها فلسطينية بدون نطق أي كلمة عربية. وعيها الإنساني والسياسي مدهش. بعد اللقاء قررت مع زوجي أن يرى الفيلم النور. ساعدتني صناديق دعم عربية في المونتاج، وفي الرحلة الأخيرة التي جمعت الإخوة الثلاث في موسكو وليس بيروت، لأن دولت اصيبت بجلطة في رأسها حدت من حركتها.

*هل حاذرت الصناديق الأوروبية التمويل لأن الفيلم يتحدث عن الفاشية في أوروبا؟

**ليس هذا وحسب بل كذلك يقول الفيلم أن الصهيونية في فلسطين تشكل امتدادا للفاشية الأوروبية. رواية ليس مسموحاً أن تروى في أوروبا، والرقابة حولها عنيفة في كافة الأنشطة الثقافية. رواية التاريخ في “تأتون من بعيد” مختلفة عن الرواية المسموح بتصديرها عن فلسطين.

*أين الصعوبة في تصدي الكاميرا لفيلم مماثل؟

**تمثلت في عدم معرفتي للغة الروسية، ودولت تتحدثها. الصعوبة الثانية علاقتي المستجدة مع الحرب الأهلية الإسبانية. جميعنا معني بالقضية الفلسطينية، لكني شخصياً لم أعان من الشتات ولم أعشه. بل تحدثت عن مشاعر لم أعشها، ما شكل تحدياً لي.

*من تفاجأ أكثر من الإخوة الثلاث عندما طرقت بابه؟

**لم يتوقع أحدهم أن يُسأل عن تاريخ العائلة، فالحياة السياسية لنجاتي صدقي انتهت سنة 1939 مع طرده من الحزب الشيوعي. الثلاثة كانوا سعداء بأن يعود الكلام عن تاريخ أبيهم بعد صمت رهيب حوله. كانت العائلة سعيدة باكتشاف تاريخها بطريقة أخرى. اجتمعوا وتبادلوا قصصاً لم تكن معروفة من قبل الجميع رغم صعوبة التواصل اللغوي.

*أين أنت كمخرجة من الفيلم؟

**يتمثل في وضعي للقصة في سياقها السياسي. ومن الربط الذي أدعي أنه أوصلها للناس، خاصة تأثير الخيار السياسي على حياة البشر، وتالياً دور البشر في تغيير المسار السياسي والأحداث. ووضع القصة في السياق الأوسع لتاريخ المنطقة حينها، وفي الحاضر بالطبع.

*هل أنت من أوحى لدولت بوصية نشر رماد جسدها في القدس بعد الرحيل؟

**بالتأكيد لا. هذه الوصية ترددها لحفيدتها منذ سنوات طويلة، وعرفت بها صدفة في آخر لقاء مع دولت، ومن قبل الحفيدة. صلة دولت بفلسطين أقوى من أي فيلم، ومن أي إنسان عابر يصنع فيلماً كما أنا.

*التصوير على مراحل طويلة هل كان لصالح الفيلم أم العكس؟

**أكيد لصالحه. فالثورة المصرية تركت أثرها على وعيي، وبالتالي رؤيتي للحرب الأهلية الإسبانية. تلك السنوات كان لها أثر إيجابي، فرؤيتي ووجداني اكتسبا وعياً مضافاً.

*لفت بعض النقاد غياب كلمة إسرائيل عن الفيلم هل تعمدت ذلك؟

**أدهشني السؤال في مهرجان الإسماعيلية السينمائي. لم تخطر تلك الكلمة في بالي مطلقاً. أتحدث عن فلسطين. الفكرة الواضحة لي تماماً المشروع الصهيوني في فلسطين يشكل امتداداً للمشروع الفاشي في أوروبا. فكرة أوصلها الفيلم دون نص مباشر. عائلة صدقي هُجِرت من يافا في فلسطين وليس من إسرائيل.

*ماذا عن تفاصيل تواصلك مع ريم البنا قبل رحيلها؟

**رغبت في تضمين الفيلم نشيد الأممية الذي كان يُغنى في المناطق الثورية في الثلاثينيات. بحثت عن نُسخة عربية وسمعته بصوت ريم البنّا ولم أعرف أنه صوتها. تواصلت معها وطلبت إذناً ليكون ضمن الفيلم. كانت في غاية الكرم، أذنت لي بذلك كهدية للفيلم. في حين أني دفعت ثمناً باهظاً للأرشيف.

*ما هي الجوائز التي نالها الفيلم؟

**إلى يومنا هذا كسب الفيلم خمس جوائز. الجائزة الفضية في مهرجان قرطاج في تونس. أفضل فيلم في مهرجان سينما الأرض في إيطاليا. أفضل فيلم تسجيلي في مهرجان تطوان في المغرب. جائزة النقاد الدوليين وجائزة النقاد الأفارقة في مهرجان الإسماعيلية السينمائي.

*سنوات العمل على فيلم “تأتون من بعيد” تخللها إنتاج آخر جيد لك. فماذا عنه؟

**وتعثر الإنتاج هو السبب. في سنة 2008 أسست مهرجان القاهرة لسينما المرأة. وفي سنة 2010 أنجزت فيلم “ممنوع”. لم تكن الثورة قد بدأت وكان الوضع السياسي سيئا، وكلمة ممنوع مهيمنة. وهذا الفيلم كان أولوية بخلاف الآخر عن الحرب الأهلية الإسبانية. ومن ثمّ شاركت في الثورة سنة 2011 وعبرت عن رؤيتي في فيلم “أثر الفراشة” سنة 2013 بهدف توثيق اللحظة. ومن ثمّ عدت لمشروع الحرب الأهلية الإسبانية. وبالنسبة لي فيلم “تأتون من بيعد” يحكي اللحظة التي نعيشها إنما من مرآة الماضي. فالتاريخ يكرر نفسه حتى وإن لم يكن بخط مستقيم. علينا معرفة هؤلاء الناس الذين شكلوا ذاكرتنا، وكانت لهم خيارات مختلفة. للأسف الحروب تكرر نفسها، والشعوب تعاني كما عانت منذ 100 سنة.

*”قافلة سينما المرأة” حطت قبل زمن قصير في لبنان. ما هو انطباعك؟

**ليست المرة التي يستضيف فيها لبنان قافلة سينمائيات بل الثانية. الأولى كانت في مركز معروف سعد الثقافي في صيدا سنة 2010 وكذلك كان افتتاح العروض في الزيارة الثانية في المركز نفسه. وفي المرتين استقبال الجمهور للأفلام رائع. وتضمنت الزيارة الأولى عروضاً في الجامعة اليسوعية. هذا العام افتتحت العروض بفيلم آن ماري جاسر “واجب”. اللافت ترحيب الجمهور اللبناني بفكرة مهرجان سينمائي لمخرجات نساء. كذلك جرت عروض في دار النمر في بيروت والاستقبال كان مميزاً.

*كيف تقرأين “قافلة سينما المرأة” بعد 13 سنة من التأسيس؟

**تمكن المهرجان من تشكيل بادرة لهذا النوع من الأفلام في العالم العربي، ومن بعده بدأت تنمو مبادرات أخرى. حتى اللحظة نحن المهرجان الوحيد الذي يقدم أفلاماً من إخراج نساء، فيما تركز المهرجانات الأخرى في العالم العربي على موضوعات خاصة بالنساء. من وجهة نظرنا من حق النساء مناقشة أي عنوان خاص بهن أو بالمجتمع بشكل عام. نأمل في مهرجانات أخرى لسينما المرأة، وأن يتضاعف عدد المخرجات، وأن يحاربن لأجل أفلامهن. وآمل في تضامن أكبر بين المخرجات كي ترى أفلامهن النور وتصل للجمهور.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عربي سابق:

    مقال جميل جدا والسيدة المخرجة أمل رمسيس تستحق الثناء وندعو لها التوفيق في عملها الجاد والمهم. نريد المزيد من الامل في مختلف مجالات الحياة

إشترك في قائمتنا البريدية