هناك مجموعة من المقالات اللافتة والمغايرة في كتاب «تقديرا للرجل الرهيف» للكاتبة أناييس نن، الذي ترجمته محاسن عبد القادر، واعتنت بإصداره دار المدى.
تعد مقالتها (المرأة الجديدة) من المقالات الشفافة التي تجيب عن سؤال بدهي، يتلعثم معظم الكتاب عندما يحاولون الإلمام به والحديث في إجابته بإتقان لاستحالة الوصف بدقة وصعوبة استخلاص ما هو راقدٌ داخل النفس العميقة والغامضة في أحايين كثيرة.
سألت أناييس ذاتها قبل أن يطفق أحدهم ويسألها هذا السؤال: لم يكتب المرء؟ تمكنت من الإجابة بسهولة بما أنها ليست وليدة الصدفة الأدبية وتعي فعل الكتابة ومسؤوليتها منذ بواكير حياتها الأولى، أو منذ درايتها بفضاء القراءة الشاسع والكثيف. قالت بهدف الإجابة عن السؤال الشائع، الملتصق بالكتّاب جميعهم في الوقت الراهن الساذج تحديدا: «أؤمن بأن المرء يكتب لأن عليه أن يخلق عالما يمكنه العيش فيه. فأنا لمْ أتمكن من العيش في عوالم قدمها الآخرون لي: عالم والدي، عالم الحرب، عالم السياسة.. فكان عليّ خلق عالمي الخاص ليكون لي مناخا، وطنا وهواء أستطيع التنفس فيه، والتحكم به وأستعيد نفسي عندما تحطمها الحياة». وتابعت قائلة إنها تتبنى إجابة الكاتب الفرنسي مارسيل بروست حينما قال: «نكتب لنجعل كل ما في الحياة أبديا ولنقنع أنفسنا بأنه كذلك». هذان الرأيان الأقرب إلى المنطق والصواب بالنسبة إليّ عند فتح مثل هذه الموضوعات المحيطة بعالم الكتابة وهالتها المختلفة من كاتب إلى آخر، أما العبارات الرومانتيكية الواردة بين أسطر المقالة: لنرقى بإحساسنا بالحياة ونكتب لنجتذب الآخرين، نأسرهم ونواسيهم أو نكتب مثلما تغني الطيور ويرقص البدائيون في أشعارهم.. إجابات وآراء لا معنى لها الآن، أكاد أجزم أن الكاتب الحقيقي قد تجاوز القارئ وظنونه والبيئة الافتراضية وأنتج ما يريد وما يتطلع إليه صوته الخفي بعيدا عن إرضاء الآخرين وامتلاكهم، أو محاكاة الطبيعة واكتساب عفوية ما كان بدائيا غير مبالغ به! ما معنى أن تغرد الطيور في عصر التلوث، الاختناق وسرعة الأشياء؟ ما معنى التلقائية في زمن الاستسهال المعلوماتي والزخم التأليفي؟
إذن عندما يشرع المرء في نسيج المكتوب لا بد من اشتغال جاد تجريبي، إدراك تأملي وتخطيط ابتكاري إلى جانب موهبته الأصيلة ومهارته الفريدة، كي يكون قادرا على تفادي حياته إلى ما هو أبعد، ويجعل ما هو أبعد أبديا وخالدا دون متاهة مترعة بالغناء المزعج والرقص العشوائي غير الملائم للآونة الأخيرة المتجددة. يمكنني الإجابة عن السؤال (لم يكتب المرء؟) بأنه يكتب لاسترداد ما مضى، يكتب لينجو ويتخلص من لحظة يطلب فيها أن يأتيه الغرق بلا رحمة، ينجو من الغرق فقط: الغرق في المحبة، العداوة، الحياة والموت والأهم من ذلك ينجو من نفسه ومساوئها الباطنية الخطرة، وأن يعرف كيف ينجو من ألم الكتابة بعينه، فلا متعة أو لذة لمن كتب اعترافاته المقدسة في عصر مخاتل شحيح! اكتب لتنجو أيها القارئ المخلص، لينجو جوهرك، ليرافقك الخلاص النابض بلا جفاف، كما يهيج البحر بلا فرصة للاستراحة، أن تنجو إلى الأبد بوصفك كاتبا صادقا، اتخذت التدوين المنظم والدقيق ضرورة وتشجيعا للنجاة.
انتقلت الكاتبة في المقالة المذكورة آنفا إلى عملية الخلق من اللاشيء وهي وظيفة الأدب والفنون إلى حد معين، إذ سردت أناييس قصصا عديدة، اخترت واحدة هي جزء من حكاية امرأة فرنسية فقيرة بشكل مدقع، عاشت في مدينة مونمارتر، حيث اجتمعت فئة من أعظم الرسامين الذين يمكن أن يجتمعوا في هذا المكان، أصبحت موديلا لهم فكانت تراقبهم وهم يرسمون، تعلمت الرسم وصارت رسامة بارزة ومهمة، عن سوزان فالادون نخبركم – أنا وأناييس- لئلا تعكفوا ليلا ونهارا على أوراقكم الحياتية التقليدية المقيدة، لا يتحقق الخلاص إلا بتحقق الذات صاحبة الإرادة القوية والطموحة من أجل الزهو والإبداع فعليا. ثمة قصة سوزان أو بائعة الكتب فرانسيس ستيلفون، حينما استأجرت مكتبة بما تبقى من أموالها القليلة، وما كان من الآخرين سوى أنهم سخروا وأهانوا رغبتها الرقيقة، لكنها بعد فترة وجيزة صنعت متجرا لامعا، تحول لاحقا إلى أشهر متجر في نيويورك، حظي بزيارة الشاعرة إديث سيتويل والشاعر جان كوكتو وغيرهم الكثير ممن افتتنوا بإنسانيتها المفرطة، تعاملاتها الحميمة وثقتها العالية بتركيبتها المقاومة، هذه أدلةٌ ساطعة عما يسمى استغلال كل شيء بغية التكوين المعيشي الخلاق. لا يهم ما إن كان العالم مرتاحا إزاء هذه التغيرات والتطورات البشرية أم لا، ما يهم هو أن شخصا تحرك من منطقة الجمود، الركود الذهني والاتباع البالي إلى منطقة السعي والعمل الاكتشافي، لا شك في أن الأنا الفاعلة المغامرة هي الأنا التي تنقذ مساحاتها من الدمار النهائي قبل أن تنقذ الأفراد من التكرار القاتل لا شعوريا، هكذا (أنا) جديدة بغض النظر عن جنسها هي المطلوبة اليوم، رغم أني أرفض عنوان المقالة الرئيس (المرأة الجديدة) وأفضل استبداله بـ(الأنا الجديدة) أو بـ(النمو الفردي) لاسيما أن المقالة لمْ تقتصر على الأمثلة الأنثوية، بل تناولت حكايات ناجحة وملهمة عن الجنس الثاني، بينما توقفت عند حكايات نسائية لكونها أسرع تأثيرا وجمالية من غيرها، بما في ذلك: الفنانة فاردا التي علمتها الفن التلصيقي الكولاج، المغزول من قطع قماشية ملونة وصغيرة، وأضافت أنها علمتها كيف إذا تركت كرسيا وقتا طويلا على الشاطئ فسوف ينقلب لونه إلى أبهى لون في خيالها، لون لا تستطيع العثور عليه ببساطة.
إن الأعمال المنبثقة من روح الأنا لا تنفصل بتاتا عن أصلها ومصدرها بينما من كانت ظاهرة أو محض صدفة ولهو فمنفصلة عن منبعها ومنظومتها الروحية، وقد تكون النفسية على وجه الدقة والأخيرة القابلة للنسيان والحجب مستقبلا هي ما لا أفضله أدبيا وفنيا وأراها آنية! ليس المضمون النصائحي الذي انتزعته من ذهني وألقيته هنا يلفت الانتباه حقا إلى التحريضات المجدية، التنمية البشرية والتمكين الإنساني المحرك، إنما يصرف انتباه القراء – باختلاف مستوياتهم الفكرية، العمرية، والطبقية – إلى أدب الكاتبة أناييس نن الجريء الصاعق والرفيع، هنا تكمن أهمية الكتابة بوصفها فضيحة مرغوبة، قطعة جذابة صادمة وطاقة تمنح الإرادة الإبداعية مباشرة بلا مقابل ومكاسب فورية.
تعطي للآخر مثالا مجانا عن الإيمان وضرورة الفن، استنادا إلى كينونتها وأعمالها التي يستقبلها الجمهور بالصمت لمدة عشرين عاما بدءا من شرائها آلة طباعة والنشر بنفسها وصولا إلى منتصف عمرها ومكابداتها، لمْ تبال سوى بحياتها فما جدوى أن تكون خارج جسدها وموهبتها وهناك من يستمع ويرد؟ المرأتان اليائستان والمبتهجتان ما زالتا في داخلها المتيقن من وجودها البهي، لكن الكفاح أو الصراع وحده من أبقى أيامها نابضة بالحياة، غير أنه صراعٌ طبيعي حر لا يدمر كلا المرأتين أو الشخصيتين في الصفوة، تناولته أناييس في مقالة عنوانها (عن الحقيقة والواقع) موجودة في الكتاب المشار إليه سلفا، استعارت اسم (الصراع المزدوج) من أوتو رانك وشدته بخيوط متينة بالمفردة، إنه صراعٌ بين كينونة الفرد النشيطة والتواقة إلى الحب والاختلاط، ونزعة الفنان متقلبة المزاج والمنعزلة، في رأيي لا مناص من التركيز على الجهة المهيمنة واستبعاد المشوشات وبالأحرى إقصاء الازدواجيات والمشوهات للعبقرية قبل الانخراط في الإنجازات. كأنها أكدت تاريخ الفنانين بمن فيهم الأدباء الذين أعربوا عن شعورهم بالذنب تجاه تداعياتهم المتفرعة، وحاجاتهم لتسويغ أفعالهم وتركيزهم على أعمالهم وبتعبيرها حاجتهم لتسويغ شغفهم وتقدمهم الدائم. «أمضيت سنوات عدة أقوم بما يعرف بعمل متمركز على الذات، استبطاني، ذاتي، عمل أناني. كنت أواصل كتابة اليوميات التي أبقتني على اتصال بأغوار نفسي، المرآة التي تعكس نموي أو التوقف عن هذا النمو، والتي تجعلني متيقظة لنمو المحيطين بي..» مقطع تقوله أناييس بجدية، حاملة على كتفها المتعب تعريف الكتابة باعتبارها الشتات والعلاج في آن واحد، وذلك يثبت وجهة نظري عن عزاء الابتداع وصراعه المنطرح في صدرنا الشجي منذ البداية.
أؤيد فكرة أن البعض يقرأ وينتج لتأكيد يأسه أو حزنه في ما يقرأ ويواظب آخرون على التفاصيل لينقذوا أنفسهم منه، ثمة فرق مخيف بين كلتا هاتين الحالتين؛ نظرا لذلك تجنبت أناييس كتاب سيمون دي بوفوار عن الشيخوخة، إن العمر أصلا مسألة نفسية خادعة، لا يؤذي من ينظر إليه على أنه خدعة لا ركيزة أساسية مثل البحر لا يؤذي من يرقد تحته لا فوقه، ولأناييس وأنا ميولاتنا الحسية المرهفة نحو استعمال الماء كتشبيه بليغ، كونه المكان الأمثل لحفظ اللآلئ أو كالبئر المرتبطة بتيار داخلي تحت الأرض ولا حاجة لها للخارج المتغير.
لا يكتب الموضوعات في كتاب «تقديرا للرجل الرهيف» إلا الشاعر الأصيل وأعني المفرط في الإحساس، المشاعر والحدس، أحبت أناييس نن الكاتب الفرنسي مارسيل بروست إلى حد التعلق والهوس؛ نظرا لما يتمتع به من ذكاء، عاطفة وذاكرة عريقة، كان لا يكتب إلا عندما يشعر بالشيء برمته، فتميز الاثنان بقوة الأعمال، انسيابها وتوظيف العناصر المبتكرة الملامسة للقلب والمثيرة لانفعال، وأولها تدفق الصور، الإيقاع والمعضلات الإنسانية ومآزقها المنسية. أولئك الذين دفعوا كتاب الاعتراف، اليوميات العذبة والتعبيرات المارسلية الفذة والمتقنة إلى منطقة الغياب، لمْ يكتسبوا فهما ونظرة ثاقبة طوال معيشتهم المتخبطة غير الحية ولا يستحقون جزما مني لإثبات حقيقتهم العاجزة الظمأى، الملوثة بالنفاق والمحفوفة بالأحجار، لا مكان لهم في هرمية الأدب والفن المتباين ما داموا يستهزئون بالأنماط الصريحة والأجناس الاعترافية المرصعة بالشاعرية أو الملفعة بالتقطيرات الشعرية.
يبدو أن أناييس (ملهمة الأسلوب) لا تكتب كالأغلبية الضاجة، والأصح أنها تبصق قلبها في المقالات الشخصية والنصوص اليومية، يصبح قلبها واضحا عند فحص كتبها المتنوعة، وعلى رأسها كتاب «تقديرا للرجل الرهيف» يعرف من يماثل ملامح هذه الكاتبة كيف يبصق الإنسان قلبه بأكمله والمعرفة كفيلة بالمغامرة والتجربة الدامية. أصرت على التعامل مع يومياتها ومقالاتها الحكيمة بوصفها عملا أدبيا مركزا لا مثيل له، ونالت ما كانت ترجوه بامتياز وشجاعة بعد شروخ ممتدة في رؤيتها البدائية، تسرب قصديات متمردة ودلالات غير معهودة، مشيرة إلى نضج بعيد متكامل، لا يأبه للحدود والمحرمات الزائفة. علمتنا كتاباتها أن نوعية الحياة يمكن أن تكون تراكما للحظات الجمال الصغيرة البسيطة والمنزوية.
أفكر بكم كانت أناييس صريحة ومنفتحة إلى الدرجة التي توهمنا فيها بالسذاجة والمقدرة على تقليدها تماما، أفكر بكيفية أن تتقدم في ذاتها، تتقدم في الأشياء أيضا، تتقدم كالتقدم الذي صوره لنا الشاعر الفرنسي روجيه مونييه، يواصل ولا يعرف نحو ماذا، إنه يواصل فقط.. تركت الجميع وطاردت لغتها الزجاجية مرة أخرى، مدركة أن ألمها هو مصدر شفائها وعزائها لاحقا، نسجت أفكارها وحصنتها بوسيلتها الموثوقة (الورق) وهي تعلم حينما تبدأ بالنشر سيكونون كلهم قد تخلوا عنها!
كاتبة عراقية