ما وقع في جريدة «شارلي ايبدو» شيء لا يقبل به أي إنسان كيفما كان انتماؤه أو مرجعيته، وهو عمل مدان جملة و تفصيلا، و أضعف الإيمان أن نندد به و نشجبه، و ندين الأطراف التي شاركت فيه. طبعا أكتب هذا الكلام بعيدا عن استحضار نظرية المؤامرة، و أن ما وقع في فرنسا كان أمرا مدبرا بليل. نستنكر ذاك العمل الإجرامي، لأن الكلمة تقتلها الكلمة و الرسوم تقتلها رسوم أخرى و الأفكار تقتلها أفكار أخرى، و لا يمكن أن نتصور بأن قتل بضعة أشخاص نختلف معهم نكون قد سوينا الأمر وانتقمنا لديننا و لنبينا عليه السلام.
أبدا، لم يكن ديننا يدعو إلى القتل و الانتقام كما يحاول أن يصور البعض الذين اتيحت لهم الفرصة بهذه العملية الإرهابية، فمن قام بتلك الجريمة ( كيفما كان) قدم هدية من ذهب لبعض الحاقدين، وهذا ما لاحظناه في بعض الوقفات التي أثثتها بعض الوجوه المعروفة بمعاداتها لقيم ومعتقدات المسلمين، نعم هناك من وقف تضامنا مع القتلى الذين سقطوا واستنكر العمل الإجرامي في حد ذاته، لكن في المقابل هناك من وجدها فرصة سانحة للهجوم على الدين الإسلامي باعتباره(من وجهة نظره) أنه هو السبب في هذا الإرهاب، و لسان حاله يقول، ألم أقل لكم أن جميع مشاكلنا كلها من الدين. وإذا كان رئيس جمهورية فرنسا بنفسه قال بأنه يجب التفريق بين الإسلام والإرهاب، فإن هناك أطرافا ذهبت و ستذهب بعيدا في تحليلاتها، و تنصب المحاكم للإسلام و تصفه بالظلامية و تحمله وزر ما وقع في فرنسا وما يقع في العالم.
لو قام أحد الأشخاص بقيادة سيارة بسرعة جنونية و تسبب في حادثة سير أودت بحياة أشخاص، هل سنلقي باللائمة على سائق السيارة أم سنلقي باللائمة على قانون السير؟ وهل ما قام به كالفان وغيره في حق أطفال صغار مغاربة تقع مسؤوليته على أولئك الأشخاص أم على المسيحيين و الغربيين؟ وهل ما قام به بعض القساوسة من الاعتداء جنسيا على أطفال صغار يجعلنا نهاجم رجال الدين كلهم و نصف المسيحية بما هي براء منه؟ لماذا نختار أقصر الطرق و نحمل تبعات أعمال يقوم بها بعض الأشخاص للإسلام؟ لماذا تسارع شخصيات معروفة بالإشارة إلى الإسلام كأنه هو المسؤول عن كل أفعال من انتسب إليه؟ أين هي سماحة أوروبا الأنوار وهي تضع البيض كله في سلة واحدة؟ أين هو الانفتاح والتسامح الذي تنادي به؟ نعم، من حقها أن تحاسب من قام بتلك العملية، ومن حقها أن تقتل من نفذ تلك الجريمة بدون أن ترينا جثة أو دليلا، ومن حق فرنسا أن تجهز على متطرفين نفذوا جريمة بأدق تفاصيلها، قتلوا الجميع ولم ينسوا حتى حذاء رياضيا وقع من سيارتهم، ولكنهم نسوا بطاقة تعريف تدل عليهم، لكن ليس من حقها ومن حق بعض بيادقها في بعض الدول العربية أن تنسب تلك الأفعال للدين الإسلامي، حتى يخرج علينا بعضهم و يطالبنا بإعادة النظر في ديننا، و إذا كان هناك من يجب عليه إعادة النظر في شيء هو أنتم، يجب أن تخرجوا من قوقعتكم التي ترون فيها أن كل عمل أخرق لابد و أن يكون الإسلام وراءه، فأنتم والذين نفذوا عملية شارلي ايبدو أو أي شخص قام بعمل تخريبي باسم الدين لا تختلفون عن بعضكم، بل و تتشابهون، فهم يقومون بأعمال إرهابية ظنا منهم بأن الدين يأمرهم بذلك، و أنتم ترون أن الدين هو المسؤول عما يقومون به، لأنهم و أنتم لم تفهموا الدين جيدا، تقفزون على العديد من الآيات و الأحاديث التي تدعو إلى السلم و الحب و التعايش… و تختزلون الإسلام في آيات و أحاديث جاءت في زمن معين وفي سياق معين، هم يوظفونها في الإرهاب وأنتم توظفونها وفق هواكم في مهاجمة الدين. في نظرهم كل شخص لا يؤمن بما يؤمنون به كافر يجب قتله، و أنتم في نظركم كل شخص متشبت بالدين هو ظلامي متخلف يجب اجثثاته.
من حق فرنسا أن تحزن على رساميها ونحن نشاطرها الحزن، ومن حقها أن تضرب بيد من حديد على من هدد أمنها، لكن من حقنا نحن كمسلمين ألا نتبنى شعارا لا يمثلنا، ومن حقنا أن نقول لفرنسا و أبنائها هنا في المغرب حريتكم زائفة و تكيلون بمكيالين، نحن لسنا شارلي التي تجرأت على جميع الأديان و المعتقدات، نحن لسنا شارلي الجريدة التي لم تستطع يد أي رسام أن تقترب من مواضيع تخص الصهاينة، الجميع يعرفها، أية حرية هاته التي تقترب من مقدسات ولا تقترب من تابوهات، وما سيناريو شارلي ايبدو إلا سيناريو يشبه سيناريو 11 أيلول/ سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية، التي اتخذته ذريعة لتحقيق أشياء لم تكن لتحققها بدون غطاء محاربة الإرهاب. فالموضة الرائجة الآن هي القضاء على الإرهاب، فكل من أراد تحقيق أهدافه ليس عليه سوى رفع شعار محاربة الإرهاب، ولا ننسى، حتى السيسي في مصر عندما أراد السطو على رئاسة مصر كان ذلك تحت مسمى القضاء على الإرهاب، و طلب من الشعب التفويض له بذلك، وهو ما كان. أية جريدة تلك التي تصفونها بعنوان الحرية وهي أكبر جريدة انتهازية، من ينكر أن شارلي ايبدو كانت تبيع نسخا أكثر عندما كانت تنشر رسوما مسيئة للإسلام، و كانت تحقق أرباحا ضخمة، و هذا لم يكن يتأتى لها في باقي الأعداد الأخرى، وبالتالي كانت تتربح من وراء نشرها لتلك الرسوم ليس إلا، وما قضية حرية التعبير إلا مشجب تعلق عليه سفالتها ووضاعتها وانتهازيتها وهي تعيد بين الحين والآخر نشر رسوم تعلم علم اليقين أنها ستدر عليها اليورو لإنقادها من أزمتها الخانقة، لسبب بسيط أنها جريدة فاشلة لا تبيع إلا عندما تشهر رسوما تسيء لنبي يؤمن به ويحترمه الملايين.
الإرهاب موجود، لا ينكره أحد، لكن عن أي إرهاب نتحدث؟ المسيرة التي خرجت في باريس و التي تقدمها أكبر الساسة في العالم من بينهم قتلة ، قتلوا صحافيين وقتلوا أطفالا و نساء عزلا، قتلوا حتى الطيور، من سيحاسبهم، من سيرفع في وجههم أنا العراق، أنا غزة، أنا سوريا، أنا ليبيا…؟ الإرهاب موجود في كل مكان، تتعدد وجوهه فقط، فمن يقتل باسم الدين إرهابي، ومن يقتل باسم السياسة إرهابي، ومن يعتدي على معتقدات غيره إرهابي، ومن يكتب أو يرسم أو يسخر من مواضيع معينة و لا يستطيع أن يفعل نفس الشيء مع مواضيع أخرى إرهابي.
الإرهابي يمكن أن يكون مسلما، ويمكن أن يكون مسيحيا، أو يهوديا، أو بوذيا، أو علمانيا أو ملحدا… الإرهاب لا دين له، ولا وجه له، هناك من خرج و قال أنا شارلي وفي داخله مشروع إرهابي وهو لا يدري.
يجب علينا أولا أن نحدد مفهوم الإرهاب، ومن تم الاتحاد للقضاء عليه، فلن نقضي على الإرهاب بعقلية أنا ظلامي و أنت متنور، ولن نقضي على الإرهاب بسب و تشويه معتقدات غيرنا، ولن نقضي عليه و نحن نتبنى خطابا استئصاليا ضد من يخالفنا، ولن نقضي عليه برفع شعار أنا شارلي حتى أثبت لفرنسا ولنفسي بأنني متحضر و متنور. أنا ضد الإرهاب كيفما كان، كفوا عن سب الإسلام و الهجوم عليه و سترون أنكم ستصبحون محترمين. أنا لست شارلي، إذن أنا موجود.
younesyounes@1111gmailcom
يونس كحال