تحت عنوانٍ مقطوفٍ من شجرة ورد إحدى قصائدها الحافلة بغير المألوف، صدرت الأعمال الشعرية الكاملة لشاعرة الأسى، دعد حداد (1937 ــ 1991)، السورية المميزة بروحٍ طليقة تحلق شفافةً بأجنحة فراشةٍ، لكنها جارحةٌ في ذات الوقت، وتقطرُ حزناً ونُبلاً، خارج تابوت الحياة اليومية، التي كانت ترفض أن تعيشها إلا شعراً:
“أنا من تحمل الزهور إلى قبرها
أنا ابنة الشيطان
أنا ابنة هذه الليلة المجنونة
ابنة وعيي
وصديقي.. أنا
أنا أكثر الناس عِتْقاً
أنا خمري من شراييني
أنا من تحمل الزهور إلى قبرها،
وتبكي.. من شدة الشعر”.
ضمت الأعمالُ الشعرية الكاملةُ لدعد حداد مجموعتيها الشعريتين: “تصحيح خطأ الموت”، 1981؛ و”كسرة خبز تكفيني”، 1987؛ اللتين نشرتهما بنفسها، ومجموعتها الثالثة التي صدرت بعد رحيلها عام 1991، تحت عنوان: “الشجرة التي تميل نحو الأرض”، والتي حفلت بتسعٍ وأربعين قصيدة شفافة، حريرية مثل شاعرتها، تهتز كما تويجات شقائق النعمان تحت الريح:
“الهرة السوداء تموء../ وكانت الصبية تبكي حبيبها../العائد إلى الحرب../وشقائق النعمان ــ ما زال عابقاً../في السهول../لا شيء أقوى من رائحة الموت../ في الربيع. بعد الوحدة الطويلة../ في شتاءٍ ثلجي”.
باستسلام لظل الموت، الذي شاءت أصابعُه أن تعري هذه القصائد من العناوين وتحيلها أرقاماً، ولكن ليس دون أن تخرج هذه القصائد حيةً من شعاع نصل منجله، بنثر بذار الحياة، حيث: “مروج شقائق النعمان،/ هواء دافئ../وسهول لا نهاية لها من الاخضرار الملون.. /وقدمان عاريتان..”. وحيث: “كم هو جميلٌ هذا الاتساع في الحياة بلا نهاية”.
وحظيت هذه الأعمال الكاملة بمقدمةٍ للشاعر السوري بندر عبد الحميد، الذي خبر شعر دعد حداد، صداقةً ورعايةً موشحةً بالإعجاب، وإضاءاتٍ لم تقتصر على مقدمته الغنية، إذ أضاف لها الدراسة الأولى التي كتبها عن شعر دعد حداد في مجلة الموقف الأدبي، تموز (يوليو) 1973، تحت عنوانٍ موحٍ بطبيعة شعرها الذي يشبهها، عندما كانت في الثلاثين، هو: “عندما تكتب المرأة عن الفرح والحياة والضجر”.
إضافة إلى حظوة هذه الأعمال الكاملة بمقدمة الشاعر نزيه أبو عفش لمجموعتها الشعرية الثانية تحت عنوان “امرأة لا تشبه إلا نفسها”، الموحي بما كان نزيه مؤمناً به وهو أن شعر دعد حداد “لا يشبه شعر إميلي ديكنسون، ولا يشبه شعر أحد، كما أنه أفضل وأكثر عمقاً من شعر إميلي ديكنسون”. مع حظوة الأعمال بنص قصير يوجز بغناه طبيعة دعد حداد، وقعته الكاتبة السورية سوزان علي.
وأكثر من ذلك حظيت هذه الأعمال الشعرية الكاملة، (التي يمكن أن تزيد بالعثور على بعض ما ضاع)، بإضافة مجموعة شعر رابعة، كانت الشاعرة قد أرسلتها إلى بندر عبد الحميد كما يذكر، ونشرها في هذه الأعمال تحت العنوان الذي اختارته “ثمة ضوء”. وكانت الشاعرة قد كتبتها، كما أرخت، خلال تموز (يوليو) وحتى آب (أغسطس) 1987، أي قبل المجموعة التي ترثي فيها نفسها، والتي كتبت معظم قصائدها عام 1988 وبداية عام 1990.
ويبدو من قصائد هذه المجموعة، التي جاءت أيضاً بأرقام من دون عناوين، أنها المقدمة الأولى لمجموعة مواجهة الموت باحتفالية نثر بذار الحياة، باستسلام للموت “سيد الكون”، ومحاولة الحياة في الشعر والحكايا التي تبتدئ موتَ الأميرة بشوكة الساحرة، وتنهي موتها بقبلة الأمير، ولكن أيضاً بأسى تأخر الأمير. ورسالة هذه الشاعرة الأميرة للبشر هي أنْ:
“انزعوا الأقنعة أيها البشر
وامشوا حفاةً أيضاً…!
وعرايا
ثمة ضوء في آخر الليل الطويل… ثمة نهارات”.
في مجموعات شعرها الأربع، لم يختلف كثيراً أسلوب دعد حداد في تكوين قصيدتها، التي تنهج أسلوب قصيدة النثر، بخصوصية متفردة، مع تلمسنا لأسس نثرها في قصيدة التفعيلة من خلال ثلاث قصائد هي: (اقتلني واربح دولاراً، الطائر والزهرة، أسيرُ ريحٍ)، وقصيدة مختلطة بين التفعيلة والنثر حتى في عنوانها هي “العيشُمُر”، تترجم كلامها في أنها “تكتب الشعر المقفى لكنها لا تعرف كيف يتحول إلى قصيدة نثر.
وتتميز دعد حداد بين شعراء قصيدة النثر ما بعد جيل محمد الماغوط في أنها الأكثر وضوحاً في كتابة القصيدة المنسوجة بخيوط الكتابة السوريالية الآلية المرشوقة كما الأحلام، وبخصوصية الكتابة التي يغلب عليها طابع الجمال المتفجر كما كابوس، تماماً مثل عيش التناغم الطليق في زقزقة عصفور وسماع صوت طلقة.
كما تتميز هذه الشاعرة في أنها الأكثر رؤية وتنبؤاً بين شعراء جيلها، وتكاد أن تحتكر لقب زرقاء اليمامة بحق، فتكون زرقاء دمشق، بما تشق قصائدها من حجب الحاضر الخانق، لتجعلنا نطل على مستقبل الدمار المهول الذي شهدناه فعلاً على يد نظام القتل البربري بعد أعوامٍ من انطفاء عيون الشاعرة الرائية. هذا جلي في معظم قصائد مجموعتيها الأولتين المكتوبتين عام 1976، وعام 1986، مثل قصيدتها “استعدوا، أدوات التحنيط جاهزة: “إنذارٌ: أخلوا هذه الدار! /إيقاعٌ وطبولٌ،/ موسيقى وحشية،/ قبل البدء بلحظة، لحظة.. سلخ/… بيتٌ وشجر،/ ابتدأ الفلاحون سعيهم الجاد، لصرخة مشتركة،/ وهم يعبرون النهر،/ تحت أقدامهم.. انهدم الجسرُ،/وارتفعو كتلة واحدة،/ وصراخاً واحداً”،/ وأوقفوا شهيداً واحداً”.
كذلك الحال في قصيدتها “قصة الحارس الليلي” التي ترسم عالم ما بعد الدمار بصورة مرعبة: “وفجأة تشرئب أحزاني كلها،/يتفجر السقف، أتطاير،/ مع قطع الخشب../ وهكذا.. يتدفأ الناس شتاء.. /حول مصيدة الفئران الساخنة”. ومثل بقية قصائد المجموعة التي تومضُ فيها مشاهد الحاضر المزري وتنشق عن تفاصيل الدمار والقتل والسلخ للمدنيين والمعتقلين، الذين تجرأوا على استنشاق ريح الحرية في الربيع السوري. وطبعاً بمفردات وجمل دعد حداد الخاصة الحافلة بالطيور والفراشات والربيع والأطفال والأمهات والرصاص.
حول هذه الأعمال الشعرية الكاملة، وشعر دعد حداد بشكل عام، كُتبت مراجعات ودراسات عديدة منها ما كتبه الشاعر محمد مظلوم تحت عنوان “شاعرة الصعلكة والأنوثة الشرسة”، والدكتور مازن أكثم سليمان تحت عنوان “مرآة أُنثويّة مُتشظِّية في عُقود الخَراب السُّوريّ”، والعديد من القراءات والتعريفات بالشاعرة.
وجدير بالذكر أن شعر دعد حداد كان ملهماً، ليس للكثير من الشعراء فحسب، بل أيضاً لكتاب وسينمائيين مثل المخرجة السورية هالة العبد الله، التي كتبت وأخرجت فيلماً عن تجربة جيلها الذي حمل أحلام تغيير الكون، وتكسرت هذه الأحلام على شواطئ المنافي القسرية، من خلال تجربة حياتها وحياة المحيطين بها، واستلهمت لمنح فيلمها مسحةَ الشاعرية قصيدة دعد حداد، الثانية من مجموعة “كسرة خبز تكفيني”، متوجةً فيلمها بعنوان القصيدة: “أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها”. كذلك كانت الروائية السورية سمر يزبك قد أهدت كتابها “جبل الزنابق” إلى “الجميلة النائمة دعد حداد، الشاعرة السورية التي كتبت حياتها على الورق بما يشبه الحلم، قبل أن تنتهي إلى الإهمال ومرض السكري والموت”.
ختاماً، وبما يدلل عليه شعرها، فإن الشاعرة دعد حداد، (التي كانت ترى أعين الموت مترصدةً تويجات الإنسان المتفتحة على كل مسار لإسقاطها)، رأت الموت “سيدَ الكون”، وحدقت بعينيه قانعةً مستكينةً لمشيئته، ولكنها رأت أيضاً، ونثرت بصمت دون أن يرى الموت ذلك، بذار ما لا يفنى، في الكتابة التي تحث قلبها على النبض بها: “اكتبي، اكتبي، فجري هذه الشرايين”.
ويبدو أنها كسبت رهانها على الحياة في قلب الموت، هانئة قريرة العين، في سرير “الزوال الذي لا يزول”.
دعد حداد: “الأعمال الشعرية الكاملة”
دار التكوين، دمشق 2018
294 صفحة.