لم تكن مصر في يوم من الأيام، منفى عوقب به بيرم التونسي، بل كانت الأرض كلها منفاه، ما عدا مصر، التي كانت هي الوطن. ولا يستطيع أحد أن ينتزع بيرم التونسي من مصر، أو أن ينزع عنه مصريته، وتبدو أي محاولة في هذا الاتجاه، غير منطقية بالمرة. ليس لأن شاعرنا العظيم، يمثل الجيل الثالث، من عائلة تونسية هاجرت إلى مصر، حيث أتى الجد من تونس، وتزوج من مصرية، واستقر في مدينة الإسكندرية، ووُلد أبو بيرم التونسي كذلك في الإسكندرية، وعاش حياته كلها هناك، وهناك أيضاً كان مولد بيرم التونسي ونشأته، وحياة الطفولة والصبا ومطلع الشباب، ثم اقتسم بقية العمر مع القاهرة، وبعض المدن في دول أخرى. وليس لأن بيرم التونسي، وكما نعرف من خلال كلماته وأشعاره، لم يكن يعتبر نفسه إلا مصرياً، ورغم كل ما لاقاه من مآسي الحياة، وضربات القدر العنيفة، يشعر المرء أن أقسى طعنة، تلقاها بيرم التونسي، كانت النفي خارج مصر، وترحيله قسراً إلى تونس، التي غادرها في ما بعد واتجه إلى فرنسا، لتطول إقامته هناك، قبل عودته الأخيرة إلى وطنه.
كان أمراً مؤلماً أن يقال له إنه غير مصري، ولم يستطع أن يتجاوز ذلك بسهولة، أو أن يقبله، وأغلب الظن أن ما كان يؤلمه في حياته، سيؤلمه بعد مماته أيضاً، إذا قيل عنه اليوم إنه غير مصري. «الأولة آه.. والتانية آه.. والتالتة آه.. الأولة مصر قالوا تونسي ونفوني.. والتانية تونس وفيها الأهل جحدوني.. والتالتة باريس وفي باريس جهلوني». لا هذا ولا ذاك هو ما يقول بمصرية بيرم التونسي، فإنه لم يكن مصرياً بحكم المولد والنشأة والجنسية، ولم يكن مصرياً لأنه يتحدث عن نفسه كمصري، كان مصرياً لأنه جزء من مصر. لم يكن بيرم التونسي أحد شعراء مصر العباقرة، ومبدعيها العظماء وحسب، بل كان متفرداً ويمتاز عنهم، بميزة لم تتحقق لسواه، وهي أنه كان جزءاً حياً من مصر، فيه نجد مصر، ومنه نعرف مصر. بيرم التونسي هو لهجتنا المصرية، هو الذي علّمنا العامية المصرية، وهو خزّانها الأكبر ومنجمها المهول، الذي استخرج منه كل شعراء العامية، الذين أتوا من بعده واعتمدوا عليه، ومع هذا لم ينضب ذلك المعين، ولم ينفذ أحدهم إلى خباياه، ومخفياته الثمينة النادرة. بيرم التونسي من علامات الحقيقة ونقاط النور، التي يهتدي بها الضائعون وسط الظلام والأنقاض والحطام، فيقولون هنا بلدنا، وهذا شاعرنا، وهذه لهجتنا.
التشبث بمصر
كان قدر بيرم التونسي أن يكون مصرياً، وقد أحب قدره هذا رغم كل شيء، بل إن القدر تحول إلى اختيار، يتشبث به ويحارب من أجله، ولا يتنازل عنه بسهولة. «عطشان يا صبايا عطشان يا مصريين.. عطشان والنيل في بلادكم متعكر مليان طين.. ولا نهر الرين يرويني ولا ماية نهر السين». حررته الظروف في فترة ما، من قيود هذا القدر رغماً عنه، وأتاحت له العيش في موطن الأجداد تونس، ثم العيش في أوروبا، كما قضى بعضاً من الوقت في الشام، لكنه اختار وطنه والعودة إلى أرض بلاده، وسعى طويلاً من أجل ذلك، حتى نجح في النهاية. وعاد إلينا بيرم التونسي، ليعيش بيننا ويؤنسنا بكلماته، ويكون شاهداً على أحوال الوطن، وتقلباته الدراماتيكية، ومن أجمل ما كتبه بيرم التونسي عن عودته إلى مصر:
في بورسعيد السفينة رسيت تفرغ وتملا.. والبياعين حوطونا بكارت بوستال وعملة
لكن بوليس المدينة متزوغش من جنبه نملة.. يا بورسعيد والله حسرة.. ولسه يا إسكندرية
هتف لي هاتف وقال لي انزل ومن غير عزومة.. انزل دي ساعة تجلي فيها الشياطين في نومة
انزل دا ربك تملي.. فوقك وفوق الحكومة
خطيت في ستر المهيمن.. للشط يا حكمدارية
وأقول لكم بالصراحة اللي في زماننا قليلة.. عشرين سنة في السياحة وأشوف مناظر جميلة
ما شفت يا قلبي راحة في دي السنين الطويلة
إلا أما شفت البراقع واللبدة والجلابية
وأخذ بيرم التونسي يصارع الحياة وتصارعه على أرض مصر، حتى الكلمة الأخيرة، وإلى أن أفلتت اليد القلم، وصعدت الروح إلى السماء، ورقد الجسد في أحضان تراب الوطن. وبقى الاسم خالداً يزهو ويلمع عبر السنين، ويصير جزءاً من وجدان الأجيال المتعاقبة. وما أسعد من يكتشف بيرم التونسي، بعد طول جهل به أو عدم معرفة، فهذا بمثابة إعادة اكتشاف للوطن، وتعرُف عميق وفريد، على حقبة من تاريخ مصر في بدايات القرن العشرين، ذلك أن بيرم التونسي، عاش في الفترة من سنة 1893 إلى سنة 1961، أي أنه كان في عز الشباب واكتمال الوعي والموهبة، عندما قامت ثورة 1919، وهو من قال في سعد باشا زغلول: «اطلع نهار الجمعة فوق المنبر.. وقول يعيش سعد الرئيس الأكبر». ويقال إن سعد باشا زغلول، كان أهم الذين توسطوا له عند الملك فؤاد، من أجل العفو عنه والسماح له بالعودة إلى مصر، وتم ذلك شرط أن يكتب اعتذاراً للملك، واعتذر بيرم التونسي. ومن يتأمل حكاية الصدام مع القصر الملكي، يجد أن شاعرنا كان حاداً بدرجة كبيرة، وتحول الأمر لديه من النقد المشروع، والخلاف السياسي المقبول والمحمود، إلى السب والمساس بالشرف والكرامة. أما المثير للعجب والذهول حقاً، هو رد الفعل على ما أتاه بيرم التونسي، وحجم العقوبة التي وقعت عليه، لا نُهوّن بالطبع من عذابات شاعرنا الحبيب، ولا نقلل من حجم معاناته، «غُلبت أقطع تذاكر وشبعت يا رب غربة.. بين الشطوط والبواخر ومن بلادنا لأوروبا» لكنه استغراب يصنعه اختلاف الزمان وتقلبات الدهر، فكل ما حدث له بعد تطاوله على الملك سنة 1920، هو أن قام البوليس باقتياده جبراً، ووضعه على متن باخرة متجهة إلى تونس، وانتهى الأمر. والنفي كان عقوبة موجودة، ومتعارفا عليها في ذلك الزمن، وقعت وتَعرَّض لها الكثير من الزعماء السياسيين، فقد كانت مصر جميلة، إلى الحد الذي يجعل الحرمان منها عقوبة، وكان الاغتراب عن مصر يتم قسراً، فلم يكن هناك ما يضطر المصري إلى الفرار، بحثاً عن رزق أو أمان أو حرية، ولا يعني ذلك أن المصري كان قاراً بجوار النيل، لا يغادر ولا ينتقل ولا يرتحل، لا يرى الدنيا ولا تراه الدنيا، إلا أن الأمر لم يكن داخلاً في إطار الرغبة في الهروب والهجرة. كان المصري يذهب إلى أوروبا، ليحصل العلم ويعود بقبس من نور، يضيء به بلاده ويشعل عقول أبناء وطنه، والميسور كان يسافر ويدرس على نفقته الخاصة، بينما يجد من لا يستطيع، مكاناً وفرصة في البعثات المصرية، ويعد طه حسين من أعظم ثمار هذه البعثات، إذ سافر إلى فرنسا، ودرس في جامعة السوربون كما هو معروف، أما زكي مبارك، فقد درس في السوربون أيضاً، لكن على نفقته الخاصة.
كان النفي عقوبة كبرى إذن، لا يتم إنزالها هكذا ببساطة، على أي فرد أخطأ أو ارتكب جريمة، فهي عقوبة سياسية على وجه الخصوص، لم تكن تقع إلا على الأسماء الكبيرة، والزعماء أصحاب الجماهيرية الواسعة. ولعل النفي إلى تونس تحديداً، كان أمراً مقصوداً ومتعمداً، إمعاناً في القسوة والجرح والإيلام، وإيصال رسالة إلى بيرم التونسي مفادها: أنت لست منا ولا تنتمي إلينا. ولنا أن نتخيل مصير شاعرنا في زمن آخر، لو كان تفوه بحرف واحد مما قاله عن الملك فؤاد، أو حتى ألمح إليه تلميحاً دون أن يتفوه بحرف. لكن بعيداً عن هذه الاندهاشات والمقارنات الزمنية، كانت غربة بيرم التونسي، قاسية عليه بشدة وموجعة إلى أقصى حد، إذ ترك في مصر زوجة وأبناء، وذهب ليواجه المجهول بمفرده، وكان عليه أن يعول نفسه ويقيم حياته، وأن يرسل أموالاً إلى أسرته في مصر. وإن كان بيرم التونسي قد نال عقوبة زعيم سياسي، إلا أنه لم يكن زعيماً سياسياً في منفاه وغربته، ولم يكن ثرياً، وكان عليه أن يقوم بأي عمل من أجل تحصيل القوت والرزق. لذا عندما نقرأ عن غربة بيرم التونسي، تحديداً في فرنسا التي عاش فيها لسنوات طويلة، فإننا نقرأ شيئاً فريداً لا مثيل له، فلا نقرأ عن فرنسا طه حسين، حيث الجد والمثابرة، والسعي العظيم وراء العلم، وقصة الحب الآمنة المستقرة. ولا نقرأ عن فرنسا زكي مبارك، حيث النهم للفنون والآداب، والتفوق الدراسي الباهر، والعناية بالفاتنات من كل شكل ولون. مع بيرم التونسي نقرأ عن فرنسا أخرى، عن المصانع والموانئ في ليون ومرسيليا، عن العمل الشاق المضني، المهلك للأبدان والأرواح، المورث للأمراض والعلل، نقرأ عن الحياة القاسية التي أنزلته المكان الخطأ، وهو الشاعر العظيم، «قالوا اللي يشرب من نيلك.. لابد يرجع ويجيلك.. وأنا اللي عطشان في سبيلك.. الدنيا ايه اللي جرالها.. باريس خلاص صبحت خربة.. اللقمة فيها بمضاربة.. وأنا اترميت وسط مغاربة.. الغربة والكرب قاتلها.. لا سطل خروب يسعفني.. ولا ابن نكتة يكيفني.. يا مصر هجرك يكفاني.. يا عاملة قمع وناسياني.. دا يوم ما أرجع لك تاني.. هتبقى رجعة براسمالها».
نقرأ عن الوحدة التي كانت تفترسه وتلتهم روحه، ونجد إشارات ذلك في كلماته، المعبرة عن اشتياقه إلى الوطن، وافتقاده للأهل والأصدقاء، ولكل الناس في بلده. «الأولة شربتني من فراقها كاس بمرارة.. والتانية فرجتني على الجمال ينداس يا خسارة». وفي قصيدة بديعة كتبها عن شعوره في الغربة، عندما اشترى جهاز الراديو واستمع إلى الإذاعة المصرية، يقول: «أرض الحبايب بعيدة.. يا لهفتي عالحبايب.. قالوا المحطة الجديدة.. حرر عليها العقارب.. تحظى بمصر السعيدة.. عندك في أرض المغارب.. جبت الجهاز أمريكاني.. بالدين ومبلغ يساوي.. حطيت على القلب ايدي.. لما سمعت المنادي.. ولهان وناكر وجودي.. في وادي.. والنيل في وادي».
ابن ثورة 1919
كان الفقد ثيمة رئيسية في حياة بيرم التونسي، عانى منه كثيراً، واكتوى بنيرانه طوال حياته تقريباً، وبدأت رحلة الألم بفقد الأب ثم فقد الأم، فعندما كان في السابعة عشرة من عمره، كان بلا أب أو أم، يواجه الحياة وحيداً، ثم فقد الميراث والتجارة الخاصة بوالده، وفقد الوطن لسنوات طويلة، وفقد سيد درويش، رفيق لعب الصبا ولهوه في الإسكندرية، وشريك النجاح العظيم في القاهرة، التي امتلكا مسارحها، وتربعا على عرش الفن فيها. وكانت القاهرة في كل ليلة تصغي إلى ألحان الموسيقار العبقري، وتردد كلمات صديقه الشاعر، الذي لا يقل عنه عبقرية. وكانت المصيبة مضاعفة، عندما فقد بيرم التونسي سيد درويش، إذ فقد الصديق والعشرة والذكريات، وفقد الموسيقى، التي تعبر بدقة عن كل كلمة من كلماته، وتمنحها وجوداً موسيقياً رائعاً لا مثيل له. وكم بدت أوبريتاته بعد ذلك، كما لو أنها ينقصها الكثير، على مستوى الموسيقى تحديداً، مهما كان التلحين جيداً واجتهد صاحبه في وضع النغم، ومنها ما كان تلحينه ضعيفاً للغاية، خصوصاً في المرحلة الأخيرة من حياته، إلى درجة أنها تصد السامع عن الإصغاء، وتجعله يفضل قراءة نص بيرم التونسي مكتوباً، عن سماع الأوبريت ملحناً. ولا شك في أن بيرم التونسي وحده، هو من كان يعلم ويدرك حجم خسارته الخاصة، عندما فقد سيد درويش، وخسارة مصر الموسيقية عموماً، ومن سوى سيد درويش، كان يستطيع أن يلحن «أنا المصري كريم العنصرين» التي قالها بيرم التونسي في أوبريت شهرزاد. سيد درويش الذي قال عنه بيرم التونسي في رثائه: «السيد اللي فات لنا.. كنوز تعيش مليون سنة». وقال عنه أيضاً: «كنا همل بين الأمم.. لوما الهرم والكام صنم.. خلتنا ننطق بالنغم.. ونقول لهم مين زينا.. ونقول لهم ببغددة.. في الفن مصر السيدة.. ما يكنش أحسن من كده.. أنغام وروح متلحنة.. آهات كتير.. وأنت عشقت وقلتها.. آه م الفؤاد طلعتها.. حسيتها من قلبي أنا.. الجاحد اللي يجحدك.. معذور إذا كان يحسدك.. ليه بس لما يقلدك.. يقول أنا رب الغنا.. شوف محفلك لما انفتح.. بمغنتك أصبح فرح.. وكان يدور فيه القدح.. لو كنت يا سيد هنا».
لم يترك بيرم التونسي شيئاً في مصر، إلا وكتب عنه، وكان المصري همه الأول «يا مصري وأنت اللي هاممني دون الكل» كما يقول في مطلع قصيدة لاذعة، وجه فيها النقد للمصري وأحواله، وكذلك انتقد الشامي والعراقي والمغربي، كشاعر عظيم يحمل هموم أمته، لكن تركيزه الأكبر كان على مصر بطبيعة الحال، وكم كتب عن آلام الوطن، «يا غاندي يكفى الصوم تعالى بلادنا.. شوف اللي فيها من زمان صايمين.. أنت لقيت الملح أما الكنانة.. الملح ميري واللي ينهب مين» «هو الذي لم يدع في الأرض شاردة.. كلا ولا رطبة فيها وجامدة.. إلا وكانت على التحصيل شاهدة.. يا بائع الفجل بالمليم واحدة.. كم للعيال وكم للمجلس البلدي» وعن أمراضه وأدوائه المزمنة، «الواسطة لسه شغالة يا رجالة.. والحالة هياها الحالة في كل مكان.. داء في الكنانة متمكن أو متوطن.. وجرح ضارب ومعفن زي السرطان» والطارئة المؤقتة، «حطوا الغفير على الدكان يحرسه.. فباعه جملة لا بيع قطاعي.. يا ابن اللئيمة يا شاويش بلدنا.. جعلتنا ضحكة الدنيا بإجماع». وحلل الشخصية المصرية، التي تخوض منذ قرون صراعاً مع الظلم والطغيان، يهدمها ويحطم قواها، ويبث في روحها اليأس واللامبالاة، والشعور بالعدمية واللاجدوى، وكلما قامت ونهضت، وأخذت هي تهدم الظلم وتحطم الطغيان، تلقت ضربة أكبر وتنفست الإحباط في الهواء. «يا مصري ليه ترخي دراعك والكون ساعك.. ونيل جميل حلو بتاعك يشفي اللهاليب.. خلق إلهك مقدونيا على سردينيا.. والكل زايطين في الدنيا.. ليه أنت كئيب؟». كان بيرم التونسي يريد لهذه الشخصية أن تحيا، أن تقوم وتنهض، أن تتغلب على العجز واليأس، كان مؤمناً بضرورة ذلك وإمكانية تحقيقه، على الرغم من كل شيء، وكيف لا يكون وهو من أبناء ثورة 1919.
كاتبة مصرية