وكأن الزمن الجميل الخاص بشعر خمسينيات وستينيات القرن الماضي لم يغادرْنا، في مجموعة الشاعر السوري شكيب أبو سعده الرابعة «أنا ما رأيت»، ليس على مستوى استعادة زمن البراءة وتصوير تماثل المرأة والطبيعة، ونبل ريفية الحب، بأشكال قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر الحديثتين، باللغة والأغراض. وإنما باستعادة هذا الزمن، والزمن الحاضر كذلك، في التعبير عنهما بلغة القصيدة الرومانسية الأقرب إلى أسلوب نزار قباني، وأغراضها في الحب، وفي التعامل مع المرأة كجمال خالص يعكس ما يضاهي مفاتن كائنات الطبيعة من عينين وشفتين ونهدين وجسد، وما يؤثر بالفارس، ويدفعه لكتابة الشعر وتقدير الطبيعة، والافتتان بحدود ما «أبدع الخالق».
هنا خصوصية أبو سعده وتميّزه، بكتابة قصيدته في صيغة شعر التفعيلة، وارتداء لغة الطبيعة وربيعها بشكل خاص، وتذوّق جمال ما تنتج من نعمٍ تحمل الحبّ على أجنحة الشعر، مثل نعمة النبيذ الذي يتجسد كائناً مؤثراً، في قصيدة «يقول العنب»:
«أَتَيْتُ إلَيهِ لأَسْمَعَ شعْراً،
سَقاني،
فَهامَتْ بيَ المُفْرَداتُ،
بلا ضَجةٍ، أو عَتَبْ
وَقَالَ الّذي، لَمْ تَقُلُهُ القَصائدُ،
كانتْ به، عُجْمَةٌ في اللسان،
وَتَهْويمَةٌ في فضاء الطربْ
وَفيه احتَراقُ اليَراعات،
فيه انكشَافُ السَراب،
وَفيه،
انكسارُ البَريق بماء الذهب».
وفي تعبيرها عن سهام الحب، وشغف الوصال، وألم البعد، وجفاء الخصام، وتفاصيل الشعر الرومانسي في الحب، بلغة وأغراض الزمن الماضي، تطرح مجموعة أبو سعده السؤال حول الشعر، سواء لدى الجمهور العربي العريض الذي ما زال يطرب لهذا النوع من الشعر، ويراه حديثاً طالما هو مكتوب بصيغة شعر التفعيلة، وثورياً كذلك إن تحدث عن فساد الحاكم وانضم إلى معارضيه، ولو بشكله التقليدي غير الثوري على صعيد فن الشعر. وسواء لدى جمهور الشعر الحديث غير العريض، الذي يرى الشعر اختراقاً لمستنقع السائد، إلى الجديد الرائد على صعيد الشكل الذي يعكس جوهر ثورية المضمون، ويختبر معدنه، كما يرى الشعر ويعيشه اندماجاً يخرج على التشبيه إلى التداخل والتفاعل، ليس بين عناصر الطبيعة بما فيها الإنسان فحسب، بل بين اللغة والطبيعة، وبين الثقافات على الأرض، وبين الفنون وما أنتجت، في ولوجه حجب المستقبل.
بين هاذين الشارعين المختلفين حول مفهوم الشعر، لا يخفى قلق الشاعر من قصيدته، كما لا يخفى استعصاء القصيدة على شاعرها ورغبتها في سلوك درب آخر، بما عبرت عنه قصيدة «وحدي والقصيدة»، لكن الشاعر يحسم أمره وأمرها في القصيدة التي تليها تحت عنوان «هذي القصيدة»، والتي تعبّر عن بقاء الشاعر على ما اختار من حقل شعره، الذي يؤكده كذلك تقديمه لمجموعته بالتعارض مع المتنبي: «وكتبتُ… لا كي ينظرَ الأعمى إلى أدبي /ولكنْ، كي يرى أحدٌ سوايَ هشاشتي. ومدى جنوني!».
ويعكس عنوان المجموعة، «أنا ما رأيت»، جوهر اختيار الشاعر لنوعية قصيدة البساطة، والتعبير الجميل الذي يكتفي بأحادية المعنى ولا يخوض غمار تشابكات وتداخلات التركيب الشعري الذي يدهش الأعمى، ويقود المبصر إلى الشك فيما يبصر من تجليات ذاته. يوحي العنوان قبل قراءة القصيدة بالغوص في تداخلات الذات، لكن القصيدة تكتفي بقصر الرؤية على الجمال الظاهر، وإبداع الخلق في إيصاله للكمال، وفق ما حدّد الشاعر واختار، من إنتاج قصيدة جميلة بصورها الأحادية الاتجاه وإيقاعها الموسيقي المناسب لتصويره واستعاراته مفردات الطبيعة لجسد المرأة، مع تأكيد البعد عن التركيب بإضافة السمع في العنوان: «أنا ما رأيت، سمعت»: «أنا ما رأيتُ، سَمِعتُ/ يَقولونَ /:منْ أَيِّ أَيْكٍ، يَجيء اليَمامُ؟/ يَحُطُّ قليلاً على صَدْرها، أو يَنامُ/. وحيناً يَقولونَ /:لَيسَ اليمامُ،/ يَقولونَ /:إن الحَجَلْ/ أتى منْ بَعيدٍ،/ وألقى على الصدر فرخين، ثُم انْتَقلْ/ أنا ما رَأَيتُ /.سمعْتُ /. ومنْ شدة الانتباه إلى ما يُقالُ،/ تَوقعتُ أَلا يَكونَ اليَمامُ/ وأَلا يَكونَ الحَجَلْ/ أنا ما رأيْتُ،/ وَلَكن بَعضَ القَرَنْفُل مَرّ خَفيفاً،/ وأَقْصى عَن الصدر ثَوْباً شَفيفاً/ وفاجأَ عَيْنيّ حيْن اشْرأب/ وحيْن تَوارى/ وَحيْن أَطَلْ/ يقولونَ رمانتيْن/ وَحيناً، يقولونَ تفاحتيْنْ/ وما بَيْنَ بَيْنْ».
على صعيد البنية الظاهرة، يقدم أبو سعده مجموعته ببساطة، كباقةٍ تضم 31 قصيدة، قصيرة ومتوسطة الطول، تنهج أسلوب شعر التفعيلة بغلبة تفعيلةٍ واحدةٍ على معظم قصائدها، ويختار عنوان مجموعته، من أحد أهمّها، بلا اهتمام أن يكون العنوان عشاً لجميع القصائد، يعكس مشتركاتها.
في البنية العميقة تتكشّف طبيعة قصائد باقة أبو سعده، معبرةً عن وحدة مشتركة في العموم بين أزهارها، يمكن أن توضع تحت عنوان تقديس جمال المرأة، والتعامل مع هذا الجمال بأسلوب القصيدة «النزارية»، لكن بخصوصية لغة أبو سعده التي تأخذ من الطبيعة الرومانسية المتعارف عليها أزهارها وفراشاتها وطيورها كمماثلات لأجزاء جسد المرأة، بتركيز أكثر على الأزهار التي خصص لأقحوانها قصيدتين، ولياسمينها قصيدة، وبثّ العديد من أنواع الأزهار وعطورها ورموزها في أجساد قصائده.
ولا تخفي هذه الوحدة المشتركة خروج أبو سعده عنها في قصيدتين تقتربان من الهمّ العام للناس تحت حكم الإذعان، هما «قال لي صاحبي»، التي يتحدث فيها عن بقاء الأمور كما هي في ظلّ بقاء الخليفة، مع شيء من الأمل، لكنْ مع ترك الأمور بيد الربّ الذي قدّرها؛ وقصيدة «دُعيْتُ»، التي يصوّر فيها موقفه من دعوته كشاهد زور، رغم حضوره، كما يبدو، على ما يحدث، لكنه يختار عدم الانحناء، ولكنْ أيضاً الوقوفَ على الحياد:
«دُعيتُ كَيْ أَكونَ شاهداً،
ولا يَهُمُّ أَنْ أكونَ جالساً،
في المقعد الأول، أو في المقعد الأخير،
أو في مَقْعَد الإمامْ
لكنني لَنْ أَنْحَني،
حَتى وَلَوْ، أَعْمَلوا في النصْلَ، والحُسامْ
وَلَنْ أموتَ واقفاً،
فَهَذه خُرافةٌ منْ سَالف الأَيام
أَموتُ،
مثْلَ أي كائنٍ مُسْتَسلمٍ للمَوْت،
مثل أيِّ زهرةٍ مُذْعنَةٍ للنوم،
مثْل أيِّ طائرٍ أصابَهُ الزُكامْ».
في تقديس جمال المرأة الغالب كموضوع مشترك لقصائد المجموعة، ينهج أبو سعدة سبيل نُبْل الفارس في تعامله الجمالي معها، ويصل التقديس في التعامل مع الحبيبة، والأم بصورة خاصة، إلى الاقتراب من تأليه المرأة: «رأيت على الصدر أيقونتين،/ تفيضان ضوءاً على ظل هيكل»، ولكنْ بوجود الربّ الذكر الذي أبدع جمالهما: «ولا يُشْبهان شَبيهاً،/ تَغاوى، وَأَغْوى،/ وظَل حَبيساً، كَبُرْعُم وَرْدٍ،/ إذا ما أرادَ انْعتاقاً تَملَمَلْ،/ لأَن الإلهَ سَوّاهُما،/ حين سوّى تَأَنّى،/ وحيْن تَأَنّى… تَمهّلْ».
غير أن سلوك درب القصيدة القريبة من «النزارية»، يدفع الشاعر للميلان قليلاً إلى محورها في تمجيد الذكورة، واعتبار الذكر هو مصدر الفعل، كما يبدو، في قصيدتيْ «آخر الأحلام» و»سيان»، التي لا يأبه فيها أن تسلّم المرأة عليه أو لا تسلّم، فهي: «لن تستطيع أبداً أن تصل باللغو والأوهام، إلى حدود غيمةٍ أطلقها، أو سور وردةٍ رسمها». وكذلك في قصيدة «أحلى»، التي يصل فيها غلوّ الذكورة في تمجيد ذاتها، بتصوير مشاعر الأنثى نحو الذكر إلى أقاصيه: «قالت الحُلوَةُ لي: كَيفَ لا تَذْكُرُني؟/ ما زلْتُ أَحْلى،/ كُنْتَ لَوْ تَعْبُرُ خَطْفاً قُربَ بابي،/ قَبْلَ أَعْوامٍ، أَرى رَبّاً على بَابي تَجَلّى».
في خطاب القصيدة، لا يرتدي أبو سعده أقنعة شخصيات من أي نوع، ويحدّد اتجاه خطابه بصيغة الأنا المتحدّث عن نفسه، وعن تفاعلاته مع الجمال، حتى في القصائد التي يتحدث فيها آخر، مثل قصيدة «أحلى»، التي تتحدّث فيها الأنثى عن مشاعرها تجاه الشاعر، وقصيدة «قال لي صاحبي» التي ينقل فيها حوار صديقه معه حول الخليفة.
شكيب أبو سعدة شاعر سوري من مواليد مدينة السويداء عام 1945، يحمل شهادة جامعية في التجارة وإدارة الأعمال، أصدر ثلاث مجموعات شعرية قبل هذه المجموعة هي: «الاحتفال بالموت» 1982، «كفي صنوبرة وحيدة» 2004، «التيه وقصائد أخرى» 2018؛ وله ورواية بعنوان «سنة العصافير» 2015.
شكيب أبو سعده: «أنا ما رأيت»
دار البلد للطباعة والنشر: السويداء 2019
123 صفحة.