ثمة غواية غريبة تدفعني للكتابة عن علاقتي بسيرة المكتبة، فهي جزء من سيرتي أيضا، وعلى نحوٍ يجعل الكتابة عنها وكأنها محاولة في التطهير، بعيدا عن أيّ توريةٍ واختباء، ليس لأنها تهمل زمني اللامكتبي، بقدر ما أنها تكشف عن براءة “الوعي الأول” وتضعني أمام ورطة الوعي الصاخب، الذي جردني من البراءة المبكرة، وتركني مكشوفاً عند أسئلة شائخة، وعند عتبات واقعٍ يمور بحكايات وصراعات وحروب لم تصنعها الكتب، بل يصنعها حراس لا يقرأون، لكنهم يمارسون عنف حراستهم للعقائد والأدلجات والثروات والمعسكرات.
حديثي عن المكتبة، هو حديث الشاهد، المسكون بأشباح الكتب، إذ هو ترسيم لحيوات ومدن وشخصيات وعلاقات كانت تقفز امامي، تستفزني، تشاطرني لذائذ أسفاري وأخيلتي، وتلعب معي أدوارا غريبة وعميقة، أسهمت في صنع “وجودي” السحري، وفي تحفيزي على مغامرات السرد والحكي، والاستقواء بلعبة التخيّل الثقافي، والدفع باتجاه شيطنة “الذات الكاتبة” بوصفها ذاتا ماكرة، و”سائلة” وخارجة عن ما تُدوّنه الذات الأخرى، التي تنام بخفوت على سرير، وقرب امرأة حية، وبعيدة عن كوابيس وأشباح ما تمور به الكتب.
جدتي وصندوقها وعمي كانا صانعيّ المكتبة الأولى، التي سميتها بيت الأسرار، تلك التي بدت لي وكأنها “صندوق الساحرة” الذي تختبئ فيه حيوات طيبة، وشغوفة، لكنها مهووسة بالمغامرة والبحث عن عالم آخر، لا وجود له في الشارع، ولا في البيت، إنه بعضُ أخيلةٍ ساحرةٍ تخرج من الأوراق، وتحتشد بكائنات غريبة، مغامِرة وصاخبة وشهوانية.. هذا الصندوق بمساميره الذهبية، وقفله البسيط توهّمته أيضا بيتا للأشباح، فكنت أتسلل إليه، لأتلصص على ما فيه من أسرار، إذ يُخفي عمي فيه أوراقه، وكتبه، ويزاحم جدتي على خفايا صندوقها، وهو ما جعلني أكثر فضولا للتعرّف، ولقراءة تلك الحكايات والقصص التي كانت تضمها طلاسم تعاويذ ورقى جدتي، وكتب عمي التي تتوزع بين كتب تاريخية لجورجي زيدان وروايات بوليسية لأرسين لوبين ومايك هامر وشرلوك هولمز. كان التسلل أولى الخطى إلى المعرفة، فقرأت تلك الطلاسم والقصص بنهمٍ غريب، وعشت معها خيالات اللصوص والمحققين، فكثيرا ما تلبستني أقنعتهم، وكأني أشاطرهم “الجريمة الساحرة” ولعبة فك الغموض الذي يطارد المجرمين، وأحسب أن هاجس المطاردة ما زال إلى اليوم يشاطرني في لعبة الكتابة، لأنها تظل بالنسبة لي هاجس بحثٍ عن شيءٍ ما.
مثلما كان الصندوق هو فضائي الأول، كانت السينما هي الفضاء السحري الآخر الذي أخذني إلى عالم أكثر بهجة وسعة وغرابة، حيث الحركة والألوان، وحيث مغامرات التخيّل، فكنا ـ أنا وعمي- نقتطع من مصروفنا اليومي، ليكون كافيا للدخول إلى إحدى صالات السينما في الباب الشرقي، وهو ما أدمنته لسنوات، حتى الشارع الذي يفصل بارك السعدون عن الباب الشرقي، تحوّل إلى مكتبة عائمة، فهناك من يبيع مجلات السينما، وباللغة الإنكليزية، وهناك من يعرض مجلات المغامرات مثل سمير، وتان تان وغيرها، وهو ما جعلني أتمرد على مصروف السينما لأشتري بعضاً من تلك المجلات، لأني كنت أعشق أبطال السينما مثل روبرت ميتشوم وروك هدسون وستيفن ريفز وصوفيا لورين وجينا لولو بريجيدا وأودري هيبورن وغيرهم..
المجلات وقصص الأطفال كانت مكتبتي الشخصية الأولى، التي جعلتني أعيش عالمها وسحرها، ولم أفكّر حينها بالكيفية التي تكتب بها تلك القصص، أو كيف يكون الإنسان كاتبا أو نجما سينمائيا. كلُّ ما في الأمر أنّي عشت معها طفولة حالمة، وفي نفسي أنّ صورة الكاتب هي تمثيلٌ لكائنٍ آخر، غرائبي وذي سحر خاص..
جبران وشهوة الكتابة
في ليلة لم أنسها، كنت حينها في الصف الثالث المتوسط، جاء عمي وهو يحمل رواية “الأجنحة المتكسرة” لجبران خليل جبران، فأخذني فضول غريب، رغم أنّ وضعي صعب، فالامتحان غدا، والرواية أمامي، فغلبتني شهوة الفضول لأسطو على الرواية، وأنهيها الساعة الثانية ليلا، ولأعود منهكا بعدها إلى الدرس المقرر في امتحان الغد، وأشباح جبران تطاردني..
أجنحة جبران كسرت شيئا كبيرا في حياتي، فرحت أعيش معها خيالات غريبة، حدّ أني توهمت نفسي بكتابتها، والانغمار في قصة الحب الأفلاطونية التي كان يعيشها البطل، وفعلا أقدمت على مغامرة كتابة ما يشبه الرواية، واستحضار بطل يشبه شخصية جبران الحالمة، ويعيش قصته وجنته وأحلامه.. أخذتني كتابتها إلى عالم آخر، فأكملتها خلال أسبوع، لأني كنت مسكونا بها، فقمتُ بعرضها على صديقي قاسم الذي انبهر بها، وقال لي: أنت تصلح لأنْ تكون كاتبا، ورغم أنّ ذلك دفعني إلى شيء من الغرور، لكني لم أكتب بعدها شيئا، بل تورطت أكثر بالقراءة، وأسست لي مكتبة صغيرة، جمعت فيها عددا من الكتب التي كانت تصدر عن سلسلة “اقرأ المصرية” وهي رخيصة ودسمة، فتعرفت على عباس محمود العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ورشاد رشدي وسمير سرحان وآخرين..
القراءة.. العتبة وكشف الأسرار
ظلت القراءة تستفزني دائما، فغواية فتح أبواب الطلسم، مثلما هي الشهوة الباعثة على الكتابة، أي إعادة تدوير الطلسم ذاته، لكي تظل معي وكأنها شبقٌ يحرق الروح، أو ما يُحرّض على الاقتراب من جسدنة الكتابة، إذ يكون الجسد المكتوب هو الأنوثة المتشظية والمشبوكة، التي تشبه مقولة بول فاليري الواصفة بـ”أن الأسد هو الخراف المهضومة”. هذه الثنائية استغرقتني، وما زالت تأخذني طائعا إلى لعبتها الشائقة والشغوفة، فالقارئ يسكنني بفضوله، ليظلّ الكاتب في داخلي مُستنفَرا، يقظا، يجاور الكتب، وينام معها، ينسحب إلى سحرها وخطيئتها، وإلى سوانح مخبرها، حيث كيمياء اللغة، وحيث جنوح التخيّل الذي يهِبُ تلك اللغة أدوات الساحر، والبارودجي، ولتبدو العلاقة ما بين القراءة والكتابة، وكأنها علاقة في النقائض، حيث صنع الماء، وحيث صنع القنبلة..
ظل القارئ يفرض سطوته عليَّ، فيحكمني معه نزقُ البحث عن الحكايات الغريبة، وإلى تلّمس العالم من خلال رائحة الكتب، واستكناه الغامض منها، عبر بريق عناوينها، وأسماء مؤلفيها، وعبر ما تفتحه لي من عوالم مُتخيلة، أو ساحرة، أو ما تتركه فيَّ من شهوة غامرة، إذ تبدو صاخبة مثل صوتٍ عال، أو شبقٍ، أو استملاك يدفعني للمغامرة، أي مغامرة أنْ أكون شبيها ببطلٍ حكواتي، حيث أتلصص، لأكتب بصخب، وحيث أتوهم لأتحدى المقروء ذاته، بل أتوهم أنّي أتجاوزه عبر تلبّس روح المؤلف الحكواتي، لنتشاطر معاً غواية الفضول ولذة الكشف، والتوهم بالسيطرة على العالم عبر اللغة، مع إحساسٍ عال بالتشهي، وبما يجعل الكتابة وكأنها رهان قوة تدفع نحو فكّ الالتباس، والسكنى عند الشك والسؤال، والدحض، والمغايرة.
الكتابة والتلصص على العالم
الكتابة هي تمرد لاواع على المكتبة، ورهانٌ على تجاوز ذاكرتها وسجنها. هذا ما أحسست به، وأنا أعيش معها سحر التدوين، وصعوبة التخلّص من سلطة ذلك القارئ القديم، والرغبة في امتلاك رغبةٍ لمحو سلطته، والعبث بذاكرته. هذا ما جعلني أعيش شعورا بالندية، الإحساس بالفردنة، لأستفرد برؤية العالم، وكتابته، عبر التلذذ ببطولة الخلاص، وبفكِّ طلاسم المجهول، وفضح أسراره، والاستحوذ على أوهامه، وأسلحته، وحتى على سطوته الأيديولوجية والعاطفية، وعلى نسائه اللائي ينفرنّ بأسرار الشهوات والحكايات الساخنة، والتلذذ بأن أكون حارساً للمكتبة، أشاطر الأشباح أسرارهم وخفاياهم..شهوة التحوّلورطة الحراسة مع تحول الصندوق إلى غرفة مغلقة، لم تعد وظيفة آمنة، فهي تعني النوم القلق جوار الكتب، جوار أرواح حيواتها المُهيَّجة، تلك التي تقفز ليلا، على طريقة أبطال بورخس، أو على طريقة كائنات مانغويل، حيث تفقد الكتب شبحيتها، لتبدو بشرية، حارة وحميمة، ولتشاطرني كل الهوس الذي تحوزه، وتغامر به، وتحلم من أجله. فأنا، وربما لأسباب أيديولوجية ـ لحظتها- عشقتُ الكتّاب المناضلين، الذي يحلمون بإفراط بتغيير العالم على طريقة ماركس، لكن ذلك لم يدم طويلا، فأنا مسكون بالقلق، والنظر إلى أنّ الرفاهية التي تصنعها الكتب، لا تبدو واقعية تماما كثيرا، وربما بعيدة، لاسيما في شرقنا الذي لا يقرأ كثيرا، وهو ما جعلني أشاطر عبد الرحمن منيف خوفه وأوهامه، إذ كنت أجد نفسي مستلبا إزاء أبطاله المسجونين والمغامرين والمنفيين، أتحسس جلدي كل ليلة، خشية أن أُصاب بعدوى أولئك الأبطال، لكنني اكتشفتُ ـ في مرحلة لاحقة- أنّ منيف كان يحتال عليّ أيضا، فلديه نساؤه السريات اللائي يمنحنّ الحكي لذة ساحرة، والإحساس الغامر بنوع من الطبقية الباذخة، وهو ما عشته مع أبطال روايته المشتركة «عالم بلا خرائط» مع جبرا إبراهيم جبرا، الذي أخذني هو الآخر إلى مقروءات ساحرة، حيث يوميات «وليد مسعود» البطل الذي حاولت أن ألبس قناعه، وأن أعيش لذائذه، وحتى مطارداته، فهذا البطل اليساري والليبرالي والثوري والمنفي، هو الكائن الذي جعلني أعيش تمردا على الأبطال المسحوقين، الذين تاهوا بين الأدلجات والكتب الحمر، وسجون الطغاة الذين يتشظون كثيرا في شرقنا الملعون، فهم جنرالات وفقهاء وثوار، وتجار حكي ومخدرات، ولن يتخلوا عن امتيازاتهم الطبقية والجنسية بسهولة. حاولت أن أعيش التمرد كاملاً، لكني لم أستطع، فأنا كائن مهووس بالصحو، كنت أتلذذ بحراسة المكتبة، بوصف تلك الحراسة أنها الأكثر نُبلاً أكثر من حراسة الثورة والأيديولوجيا، مثلما كنت أعيش الالتزام بوصفه موقفا أخلاقيا وليس أيديولوجيا، لذا أعدت النظر بتوصيف المكتبة، وذهبت إلى تغذيتها بكتب الفلسفة لكي أتخلص من أشباح كافكا وعبث كامو، ولكي أرى العالم بشكلٍ أوضح، وأتعرّف على تحولات اليسار الفلسفي ذاته، فقرأت رسائل غرامشي بعمق وبهوس، وفكرت كثيرا بمثقفه العضوي، مثلما قرأت سارتر والتوسير، وفوكو ودريدا وإيكو وكتب جماعة فرانكفورت، لأكون قريبا من التحولات التي تخص المعرفة والأيديولوجيا، وحتى كتابة التاريخ..
هذا التحول في “مفهوم” المكتبة، تحول إلى صدمة في النظر إلى فضاء المكتبة، وحتى القارئ الذي كان يسكنني لم يعد يشبه الكاتب الذي ألبسني أقنعته، فالخروج عن هذا التشابه، جعلني أكثر قلقا، وأكثر انحيازا لفكرة النوم خارج المكتبة، فالكتب وأشباحها وأبطالها كانت تجعلني أكثر قلقا، وأكثر خوفا، وأكثر ضعفا إزاء وهم الإشباع الايروسي، فالمكتبة أنثى، وهذا الشعور لم يغادرني أبدا..
التحوّل إلى الكتابة يعني الذهاب إلى صحوٍ آخر، فهو لم يكن اصطناعا، بل صار نوعا من التجاوز، وتمثيل الحياة بطريقة أخرى، حدّ أني جعلتها “وظيفة” فعملت مع الصحافة الفلسطينية، ومع الصحافة العربية، فكنتُ أكتب لها، وكأني أتمرد على شبح القارئ الذي كان يرفض الخروج مني، حدّ أني وجدت أنّ الكتابة تحوّلت إلى ما يشبه التدجين الغامض لذلك القارىء المتوحش والنهم. ورغم إنّي كنت أسمع كثيرا عن صعوبة تحديد الكتابة كوظيفة باردة، وإنها خيار لم واقعيا بالكامل، إلّا أن ذهبت إليها مغامرا وحالماً، وإلى مواجهة رهان برودسكي الذي كان يتحدث كثيرا عن العطالة الثقافية، وربما لكي أعيش – ولو وهما بطريقة ثقافية- لكن أكثر ما كان يُثيرني في هذه اللعبة، أو هذا الرهان هو التخلّص من عقدة حارس المكتبة الذي كتب مرحلة مهمة من سيرتي، لكنه كثيرا ما تركني وحيدا إزاء لصوص آخرين أكثر قسوة وتوحشا، وربما أكثر تلصصاً على جنوني وأنا أحلم بإفراط…