إسطنبول: أعادت الحرب الروسية في أوكرانيا الحياة إلى مشروع أنبوب “غالسي” لنقل الغاز الجزائري مباشرة إلى إيطاليا، بعد أن دُفن في 2011، لأسباب متعددة، كان على رأسها دخول شركة “غاز بروم” الروسية المنافسة على السوق الإيطالية عبر أنابيب غاز بديلة.
ففي 23 يناير/ كانون الثاني الماضي، وقعت شركة سوناطراك الجزائرية مع شركة إيني الإيطالية اتفاقية تعاون لإنجاز خط غالسي، ليس فقط لنقل الغاز الطبيعي بل أيضا الهيدروجين والأمونيا الزرقاء (المنتجة باستخدام الغاز الطبيعي) والخضراء (المنتجة باستخدام الطاقات النظيفة).
وقال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، “اتفقنا على إنشاء خط الأنابيب ووقّعنا الاتفاقية، على أساس بداية الدراسة ثم الإنجاز”.
فكرة إنجاز أنبوب مباشر لنقل الغاز الجزائري مباشرة إلى إيطاليا دون المرور على الأراضي التونسية أثيرة لأول مرة في 2003، وفي 2005، أنجزت أول دراسة جدوى في 2005.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2006، تم تشكيل تحالف من 6 شركات لإنجاز أنبوب غالسي، ضم كلا من سوناطراك (25 بالمئة) إديسون الإيطالية (25 بالمئة) إينال الإيطالية (25 بالمئة) هيرة الإيطالية (12.5 بالمئة) وأسكو بيافي (6.25 بالمئة)، وورلد إنرجي (6.25 بالمئة)، وفق بيانات شركة إديسون.
ولكن أسهم الشركات تغيرت في الأعوام التالية بعد استحواذ سوناطراك على 41.60 بالمئة من الأسهم، وتراجع أسهم إديسون إلى 20.80 بالمئة، وإينال 15.60 بالمئة، وإقليم سردينيا 11.60 بالمئة، وهيرا 10.40 بالمئة.
وقدرت تكلفت مشروع غالسي 1.8 مليار يورو، وفق بيانات إديسون، ودعم الاتحاد الأوروبي المشروع بـ120 مليون يورو باعتباره “مشروعا حيويا يساعد في تنويع مصادر إمداد القارة الأوربية بالغاز”.
وكان مسار الأنبوب ينطلق من حقل حاسي الرمل بالجنوب الجزائري إلى منطقة “كودية الدراوش” في ولاية الطارف، بأقصى الشمال الشرقي الجزائري (640 كم)، ومنه إلى جزيرة سردينيا الإيطالية تحت البحر (285 كم) ثم الجزء البري الذي يقطع الجزيرة لمسافة 300 كلم، ومنها إلى البر الإيطالي في مقاطعة توسكانا في الشمال (280 كلم)، بإجمالي 1505 كلم.
كما أبدت فرنسا اهتماما بالغا به في 2010، وسعت للاستفادة منه وتزويد جزيرة كورسيكا بالغاز الجزائري عبر أنبوب غاز قصير يربطها بجزيرة سردينيا الإيطالية، التي كان من المفترض أن يمر عبرها أنبوب غالسي.
وكان مقررا أن تبدأ أشغال الإنجاز في 2009، بعد أن أنهت شركة المقاولات الهندسية الهولندية “فوغرو”، اختيار النقاط المحددة لمسار الأنبوب في يوليو/ تموز 2008، على أن يصبح المشروع جاهزا للعمليات التجارية ما بين عامي 2010 و2011.
تغيرات عميقة في السوق العالمي للغاز، واضطرابات سياسية في المنطقة العربية، وبالداخل الجزائري والإيطالي، لعبت مجتمعة دورا في تقويض مشروع غالسي.
فبشكل مفاجئ، رفض مسؤولو مقاطعة توسكانا في شمالي إيطاليا، المنتمين للحزب الديمقراطي (يساري)، التوقيع على تراخيص عبور أنبوب “غالسي”، ما أخر انطلاق تنفيذ المشروع، ما أدى إلى سحب الاتحاد الأوروبي مساعداته للمشروع والمقدرة بـ120 مليون يورو.
وفي ديسمبر/ كانون الأول 2010، اشتعل “الربيع العربي” في تونس، وخشيت الحكومة الإيطالية أن تتسبب الاضطرابات في قطع أنبوب ترنسميد، الذي يعبر الأراضي التونسية.
كانت روما بحاجة إلى بديل سريع، أنبوب جديد لا يمر عبر تونس، وغالسي كان بمثابة الحل لمواجهة أي انقطاعات محتملة في ترنسميد، لكن خلافا بين الجزائر وإيطاليا حول مدة عقد التزود بالغاز الجزائري تسبب في مزيد من التأخير في تنفيذ المشروع.
فالسوق الدولي للغاز كان يمر بتحول دراماتيكي بالنسبة للجزائر، حيث بدأ الانتقال من العقود الطويلة (20 عاما على الأقل) إلى العقود المتوسطة والقصيرة (ما بين 5 و10 أعوام)، خصوصا مع وفرة الغاز الروسي ورخصه، ودخول لاعبين جدد إلى سوق تصدير الغاز.
لم تكن الجزائر على استعداد لضخ استثمارات ضخمة في استخراج الغاز ونقله عبر الأنابيب والسفن مقابل عقود لا تحقق جدوى اقتصادية إلا على المدى الطويل.
في 2011، دخلت شركة غاز بروم الروسية بكامل ثقلها، وفرضت منافسة شرسة على سوناطراك من خلال سعيها للاستحواذ على حصة الأسد من سوق الغاز الإيطالي، عبر خط “نورد ستريم1” الواصل إلى ألمانيا، وأيضا عبر خط أنابيب العابر للنمسا “TAG”.
حاولت سوناطراك إنقاذ الموقف، ونصحها خبراء فرنسيون بالإسراع في إنجاز غالسي قبل وصول خط أنابيب غاز ساوث ستريم (السيل الجنوبي) الروسي إلى إيطاليا، لكن الوقت كان قد فات.
فمرض الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة في 2013، فاقم الوضع، وتسبب في شلل بأركان الدولة، ما دفع إيطاليا لحسم موقفها والاتجاه شرقا والتحالف مع روسيا بداية من 2014.
وبعد أن كانت الجزائر على رأس قائمة مصدري الغاز لإيطاليا تزحزحت للمرتبة الثانية خلف روسيا، التي أخذت حصة تفوق 40 بالمئة من واردات الغاز الإيطالية.
بعد اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022، وقرار الاتحاد الأوروبي التخلي تدريجيا عن الغاز الروسي، أدركت روما حجم الخطأ الذي ارتكبته بوضع أغلب بيضها في السلة الروسية، وحملت صحف إيطاليا الحزب الديمقراطي الإيطالي في توسكانا مسؤولية تعطيل مشروع غالسي.
ورب ضارة نافعة، فإنجاز المشروع في 2011، ما كان ليتيح نقل الهيدروجين والأمونيا، فبحسب مدير إيني الإيطالية فإن خط ترنسميد المار عبر تونس لا يمكنه نقل الهيدروجين والأمونيا.
ما يتيح إنشاء أنبوب جديد بتكنولوجيا حديثة تسمح بنقل الطاقات النظيفة ما سيحدث ثورة في عملية تصدير الطاقات النظيفة، والانتقال الطاقوي، خصوصا وأن الجزائر تمتلك ساعات إشعاع شمسي تتراوح ما بين 3 آلاف و4 آلاف ساعة في السنة، وهي من المعدلات الأعلى عالميا.
إذ أن التوقيع على إنشاء مشروع أنبوب غالسي، خلال زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية إلى الجزائر، من شأنه أن يحول بلادها إلى مركز لتوزيع الطاقة إلى أوروبا بدلا من إسبانيا.
فوزير الطاقة الجزائري محمد عرقاب، سبق له أن “أعاد إطلاق دراسة جديدة تتعلق بإنشاء خط أنابيب سريدينيا غالسي، بمواصفات ومعايير فنية يمكنها التكيف مع عمليات تصدير الهيدروجين والأمونيا مستقبلًا في اتجاه أوروبا بصفة عامة وألمانيا بصفة خاصة”.
فمشروع خط غالسي لن يتوقف عند إيطاليا، ولكن من الممكن أن يتم مده إلى ألمانيا، أكبر اقتصاد في أوروبا، بعد أن كان هناك مشروع لتزويد ألمانيا بالغاز الجزائري عبر خط “ميدكات” من إسبانيا.
وبسبب تغير الموقف السياسي للحكومة الإسبانية من قضية إقليم الصحراء، اختارت الجزائر إيطاليا كمركز لتوزيع الطاقة في أوروبا بدلا من إسبانيا.
لكن التساؤل يطرح حول مدى قدرة الجزائر على توفير الكميات الكافية من الغاز للسوق الإيطالية خاصة وأن خط ترنسميد لا يعمل بكامل طاقته.
والجواب يكمن في شقين، الأول أن الجزائر ضخت 40 مليار دولار كاستثمارات في قطاع الطاقة، ما سيسمح بزيادة الإنتاج، أما الثاني فيمكن تصدير الغاز النيجيري عبره، خاصة وأن الأنبوب العابر للصحراء من المرتقب أن يستكمل الجزء المتعلق بنيجيريا في هذا العام قبل نهاية الولاية الرئاسية لمحمد بخاري.
ولن يتبق حينها سوى الجزء الخاص بالنيجر، الذي وعدت الجزائر بتمويل إنجازه، رغم أن الاتحاد الأوروبي وشركات الغاز العالمية بما فيها إيني الإيطالية لم تبد بعد أي رغبة في المساهمة بتمويل نقل الغاز النيجري عبر الأنابيب.
(الأناضول)