تكتسب مسرحية «أنتيجون» لسوفوكليس (496-405 ق.م) حضوراً مركزياً في الثقافة العالمية، كونها تعدّ من أقدم النصوص التي تعالج موضوع السلطة بوجهها الديكتاتوري المطلق، إذ اقتبس الكثير من الكتاب هذه المسرحية، وأعادوا إنتاجها أو تقديمها تبعاً لسياقات تاريخية وسياسية معنية، ومنهم جان أنوي وبرتولت بريشت، والأخير استطاع أن يطوع النص ليحتمل إمكانيات دلالية متعددة انطلاقا من الحقبة التي كتب فيها مسرحيته، محاولا الإفادة من مركزية الفعل المعارض بوصفه خيارا في مواجهة السلطة، وهنا يستنزف بريشت على نحو عميق، القدرات التأويلية للقارئ في إنتاج صيغة لقراءة الحدث في ما يتعلق بالأيديولوجية لا بتكوينها المسيس، أو السياسي، إنما بوصفها ممارسة؛ أي أن يتحول الموقف إلى أيديولوجيا بعينها، ولهذا يمكن تفسير اسم «أنتيجون» على أنه يعني (لا تتزعزع)، أو (المعارض)، وهذا ما جعل من إعادة الكتابة لهذا المسرحية، من وجهة نظر بريشت صياغة متقدمة بهدف بيان فعل المقاومة للسلطة بتكوينها الجذري، لا كما تجلى في النص الأصلي بمعارضة أنتيجون قرار كريون بعدم دفن شقيقها، إنما كانت معارضة للمنهج، وللسلطة المطلقة.
إن بريشت في مسرحية «أنتيجون»- ترجمة مشهور مصطفى من منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون في الكويت 2005 – يبدو متخففا من الكثير من الإسقاطات التي احتملتها النصوص التي اتكأت على نص «سوفوكليس» فضلاً عن النص الأصل، لقد أعاد بريشت تطويع النص ليكتفي بتكثيف الرسالة النقدية التي تنهض على مواجهة الديكتاتور وجبروته، مع اختلاق مقولات عابرة للزمن، يمكن أن تنسحب على أي صيغة سلطوية. لقد حاول بريشت عبر هذه الصيغة خلق نموذج مثالي لقراءة العلاقة بين السلطة والمعارضة في منحى جدلي، ربما تأثرا بنزعته الماركسية، ومسرحه التعليمي، بالتجاور مع محاولة انتهاك المسرح الأرسطي الذي رأى فيه صوغا محدودا لإمكانيات مسرحية متعددة يمكن أن تقدم الكثير للقارئ.
أفاد الأدب الأوروبي من تاريخه الذي شهد الكثير من الطغاة، فقد تمكن من إنتاج الديناميكية التي تسعى لأن تهدم أي ديكتاتورية متفردة في السلطة، وهذا تطلب أن تنشئ أوروبا نظاما يتجنبون من خلاله هذا المصير، الذي تسبب في الكثير من الآلام.
لا يكاد يخفى على القارئ أن مسرحية «سوفوكليس» القائمة على قصة أوديب الذي يقتل والده ويتزوج أمه مخلفاً وراءه ابنين يقتتلان على السلطة أو الحكم، بحيث يقتل أحدهما الآخر بمعاونة خالها كريون، الذي يفيد من هذا المآل ليسيطر على الحكم، فيقوم بدفن حليفه الشقيق الأكبر، في حين يحرم دفن الشقيق الأصغر؛ ما يتسبب باتخاذ أنتيجون وشقيقتها إيسمن موقفاً معارضاً. هذه المعارضة تنشأ في مسرحية بريشت حقيقة رفض الحروب التي يخوضها كريون مع «أرجوس»، وهنا تبدو مواجهة السلطة موقفاً، ولاسيما تجاه ما يقوم به كريون من سلوكيات تنهض على إشعال حرب لا تنتهي، على الرغم من تهديد كريون لأنتيجون، إن هذه الإمكانية لا تبدو لي، على أقل تقدير، سوى امتداد لتمرير قيمة أيديولوجية تعليمية تنهض على أن ثمة حاجة دائمة لأن نشهر لافتة الرفض والاعتراض في مواجهة السلطة، أو الطاغية، على الرغم من السطوة أو الانتقام الذي يمكن أن ينتج بفعل هذه المعارضة.
لقد أفاد الأدب الأوروبي من تاريخه الذي شهد الكثير من الطغاة، فقد تمكن من إنتاج الديناميكية التي تسعى لأن تهدم أي ديكتاتورية متفردة في السلطة، وهذا تطلب أن تنشئ أوروبا نظاما يتجنبون من خلاله هذا المصير، الذي تسبب في الكثير من الآلام.. فقد أدركت الشعوب أن الموافقة على وجود الديكتاتور سوف يعني المزيد من الألم؛ ولهذا لا بد من فعل تثقيفي حقيقي يشتغل على كافة البنى العميقة، وهذا ما تفتقره أو تحاربه السلطات في العالم العربي التي تتجنب تعليم هذه الصيغ النصية كونها تمنح العقل قدرة على ممارسة النقد والرفض، ولكن الأهم من ذلك التأمل.
إن ما يبدو لي شديد التميز في تلك العبارات التي يضمنها بريشت في نصه، ما تحتمله من طاقات دلالية عميقة، بحيث يمكن أن يعدّ بعضها أقرب إلى بيانات تختزل الكثير من التوصيف الفلسفي العميق لأزمة الإنسان، ومن ذلك حين يحضر الحارس ليخبر كريون بأن أنتيجون قد دفنت شقيقها الميت، وهنا يقدم للخبر بجملة لا يمكن لنا إلا أن نتأملها مطولا بغية تفكيك شيفراتها القيمية حيث يقول لكريون:
«الحارس: لن أخفي شيئاً. أتساءل لماذا لا أبوح بما لم أفعله. لماذا لا أبوح بما لا أعرفه، لأنني لا أعرف من فعل ذلك، عندما نكون على هذه الدرجة من الجهل فمن الظلم أن نحاكم بقسوة».
إن هجاء الجهل يبدو شكلاً من أشكال نقد منظومة معرفية تستند إلى المحكومين، لقد خرج هذا الحوار عن سياقه دلالياً، على الرغم من أنه كان يمتلك صيغة وظيفية تتمثل بنقل خبر دفن المتمرد، ما يعني أن المحكومين في مواجهة الديكتاتور محاطون بالجهل، في حين أن عدم المعرفة لا تستوجب المحاكمة، ثمة الكثير مما يمكن أن نستخلصه في مجال البحث عن مسؤوليتنا والتزامنا تجاه ما نعرفه أو لا نعرفه، وكيفية التصرف، بل إن الحوار بين كريون الحارس يعكس جدلية لا تعدم الحساسية بالقوة التي ينطلق منها المسؤول/ السلطة/ الديكتاتور، إذ يتهم كريون الحارس بقبض المال لإخفاء الجاني الذي قام بدفن الجثة، فيجيب الحارس قائلاً « أيادي أصحاب الشأن تهيئ لأمثالي الحبال أكثر مما تهيئ المال، يمكنك أن تفهم جيدا ما أقول».
هجاء الجهل يبدو شكلاً من أشكال نقد منظومة معرفية تستند إلى المحكومين، لقد خرج هذا الحوار عن سياقه دلالياً.
تبدو العبارة السابقة جزءاً من حتمية العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي عينها التي تبدو لنا عبر كوة الفعل الذي تقوم به أنتيجون بوصفه شكلاً من أشكال التقويض لهذه السلطة. هذا النص الذي وضعه بريشت ما انفك يعيد تلك التمثيلات المغرقة في هجاء القيم السلطوية، التي تبدو غارقة في قدر كبير من الاستيهامات، ترى في نفسها القوة المطلقة، وفي بعض الأحيان ترى في نفسها قدراً يسيرا في مجال من الحتمية، وعلى المحكومين أو الشعوب أن تذعن له.
الحوار بين أنتيجون وكريون ينطوي على بعض الأسس التي تتصل بقراءة جدلية المعارضة والسلطة، وهي من وجهة نظر تاريخية تنطلق من التعارض بين المستوى الوضعي والمستوى الديني، حيث ترى أنتيجون أن عدم دفن الميت يتعارض مع رغبة الآلهة، وهي تذهب إلى أن الفناء يحكم الإنسان، سواء أكان حاكماً أم محكوماً، وعليه فإن الخوف من السلطة الفانية يتعارض مع النهج أو المبدأ الذي ينبغي أن يؤسس وجودنا، فالقتل أو العذاب الذي يهدد كريون بإيقاعه على أنتيجون ليس سوى قدر، ولكنه أيضاً اختيار. ولعل هذا يفسر بأن الثورة عندما تنطلق تحمل معها طاقة لا يتخيل وجودها الديكتاتور، الذي يخضع لصوت داخلي قوامه أن المحكومين مسكونون بالخوف، وأن العقاب بالموت قادر على أن يكبح جماح الثورة، ولكنه لا يعلم أن وطأة الحياة بلا معنى أو قيمة ربما يفوق بكثير وطأة الموت، وهكذا، فلا جرم أن يتعرض كريون لصدمة، حيث يبقى في حالة إنكار دائم لمعنى المعارضة أو الثورة، ومن هنا تكمن عبقرية بريشت كونه قد استطاع أن يؤثث نصه بآلية البحث المعمق في تكوين الديكتاتور، ومنهجية تفكيره، كما نزعاته النفسية، ولا سيما في مواجهة الثورة، حيث يبقى في حالة إنكار إلى أن يرى الحريق قد وصل إلى أبواب قصره. ولنتأمل هذا التفسير من خلال رصد الحوار الذي يدور بين كريون وأنتيجون:
«أنتيجون: ماذا تنتظر؟ لا تأمل أن أغير موقفي. الكل يعرف أنني مرتاحة لما فعلت.
كريون: تعتقدين أنه يوجد من يرى الأمور كما ترينها؟
أنتيجون: كثيرون يبصرون ويذهلون».
يسعى الديكتاتور في أغلب الأحيان إلى تحييد الجماهير أو الوعي الجمعي، فيسعى إلى قصر الثورة على أفراد بعينهم، أو مثيري الشغب، فهو في وعيه العميق يعتقد أن شعبه يحمل منظورا آخر، إذ يعتقد بأن شعبه لا يرى في وجود ذات الحاكم بأنه مشكلة، إنه جزء من حالات الإنكار التي تبقى مستمرة ولا يمكن الانفكاك منها، ولا سيما في حالة عدم وجود وعي تعليمي للقيم الحقيقية، فالتعليم، والمظاهر المدنية، والإعلام، وكل ما يرتبط بالدولة ينشأ بناء على تصورات الجماعات التي تفيد من وجود الديكتاتور. لقد كان مبرر «كريون» بأن طيبة تتعرض للتهديد من مملكة «أرجوس»، ولعل هذا يفسر ولعه بالحرب، ومحاولة معاقبة كل من يعترض عليها. إن هذا المنهج في خلق عدو خارجي يعدّ منهجية يتبعها الحكام الديكتاتوريين لصرف الانتباه عن وجودهم القلق، فهو يسعى إلى خلق أمر سامٍ يفسر استهلاك القوى الجمعية التي لو لم تجد ما يشغلها، لأدركت أنها لن تقبل وجود سلطة مطلقة، لقد باتت هذه التصورات، على الرغم من إدراكها على مدى قرون، صيغة كلاسيكية للبقاء في الحكم، غير أنها للأسف لا تصلح إلا في الدول التي لم تتمكن من تطوير نهج ديمقراطي، أو مدعوم بمنظومة تعليمية وحضارية حقيقية، فلا جرم أن تقول أنتيجون لكريون: «الحكام أمثالك يثيرون على الدوام مخاوف التفكك وسيادة الغرباء، فيتبعهم الناس ويحملون إليهم الضحايا، كالقرابين، وفي الطريق تنهار مدينتهم وتقع في براثن الغرباء الحقيقيين».
العقاب من وجهة نظر كريون ينبغي أن يكون قويا على الملأ، وبذلك فإنه يستعمل الأداة عينها، الترهيب، أو الخوف.
عندما يشرع «كريون» في معاقبة أنتيجون يقول أحد الشيوخ بأن كريون ارتدى قناع «باخوس» إله النشوة والخمر، وبهذا فقد بدأ يقترب من تلك النزعة التي تحتفي بفقدان منطق الأشياء، إذ أوشك على هدم الصروح، لأجل ذاته، وهذا ما نراه ماثلاً عندما تدمر أوطان لأجل ذات واحدة، لا يحكمها سوى الإنكار المرضي بأنه محكوميه لا يريدونه، فكريون لا يسمع صوت أنتيجون، ولا صوت شقيقتها «إيسمن»، ولا حتى صوت ابنه «هيمون»، لقد وقع في وعي ذاته المرضي بأن الكل أعداءه، لقد خرج عن الدور الذي كان ينبغي أن يقوم به؛ ولهذا يقول كريون بأن أي خروج عن سلطته سيعني الانقسام الذي سيؤدي إلى سقوط المدينة، ما يعني أن الحجة عينها التي تتداول إلى الآن لدى كل ديكتاتور: «عندما يبدو الحكام مترددين منقسمين تبدأ الأحجار بالسقوط حجرا تلو الآخر حتى تنهار المدينة».
إن العقاب من وجهة نظر كريون ينبغي أن يكون قويا على الملأ، وبذلك فإنه يستعمل الأداة عينها، الترهيب، أو الخوف. فالجماهير ترتعب من عقاب عام يقع على فرد معين، وبخاصة حين يكون على الملأ، ولهذا نجد أن السجون تمتلئ، وأحكام الإعدام ما انفكت تمارس في الديكتاتوريات… بعد أن يفقد كريون مصادر قوته في حربه العمياء ضد أرجوس، وحين تقرب الهزيمة يستيقظ وعيه، طالباً عون رعيته فيهرع ليخرج أنتيجون من منفاها، كما يطلب عون ابنه قائد قواته الذي انحاز إلى أنتيجون غير أن كليهما ينتحران، وهكذا يعود كريون فاقداً لكل شيء، وتبقى طيبة في مواجهة مصيرها المجهول: «مدينتنا قيدت لزمن طويل، واليوم ما من أحد يهديها، مدينتنا ضاعت، سقط الطاغي، ها هو آت تجره النسوة يحمل بين يديه ثمرة جنونه».
وختاماً، يمكن القول بأن ميزة نص بريشت تكمن في طاقاته الدلالية التي تبقي على قدر فاعل من الفعل، والخلق، فالحوار في النص قادر على أن يقيم صلات واضحة مع السياقات التاريخية، كما القدرة على توليد الأحكام، على الرغم من الاختلافات أو التجارب السلطوية باختلاف أزمنتها وأمكنتها.
٭ كاتب أردني فلسطيني