(الى محمود درويش) لا ينوب عنك أحد سواك حتى في ذكراك، ففي عام الرماد وليس الرّمادة قلت للتوأمين اللدودين الضفة والقطاع انت منذ الان غيرك، وكأن هناك ترجمة مورست في الخفاء للفلسطيني بحيث يكون سواه، ويومها سألتني : كيف اهتديت الى نفسك الى هذا الحدّ، لتسأل امك هل أنت حقّا أمي ؟
وأنا اعيد اليك السؤال: كيف تزوجت نفسك الى الحدّ الذي أنجبت فيه أباك من صُلبك؟ لنرجىء هذا السجال المرح الى آونة اخرى، فاللحظة الان تتقطر منها غابات علقم والخذلان تخطى كل تعريفاته القديمة ليصبح عقوقا للدم وشماتة بذوي القربى، لقد كنت على تخوم خريفك الذي لم يشهدوه تستكمل أناقتك لأنك على موعد مع قيامة وشيكة، لهذا لن أنوب عنك وسأدعك تشهد من حيث تسهر وتنادم الجذور، فهؤلاء الذين لا اسماء لهم غير خوذاتهم اخذوا حصّتهم من دمنا لكنهم لم ينصرفوا ، بانتظار حصّتهم من العظم والنخاع، اكاد احزر ما الذي كنت ستقوله لو امهلك القلب الكلب سبعة اعوام اخرى حتى لو كانت عجافا … قد تقول لهؤلاء لم يبق لدينا سائل تلعقونه بعد النفط والماء العكر والدم غير ما نزف من ماء الوجوه التي اصبحت كالحة، ومحاصرة بثلث مليار علامة تعجّب، وعلامة استفهام واحدة تشبه العكّاز الذي شهره جدّك ذات قرش مثقوب تحوّل الى قلادة في اعناق سبعة جيوش مهزومة، ترصّع الاوسمة صدورها، وهي اوسمة عار وليس اوراق غار ما دامت تلك الاطلال ومنها البروة التي ولدتك ثم ذابت في فمك ومنها صدى هذا النعيق فوق الشجاعية التي كانت وما تزال وحدها، لكنها تتعدد في ذاتها وتستدعي من أعرق تراب ورمل في هذا الكوكب احتياطيها المدجج حيث لا قبّة حديدية او حتى فولاذية تقوى على صدّها او ابطال مفعول ارادتها ..
انت يا محمود منذ الان غزّة، ليس لأن القطيعة شملت القطاع، بل لأن غزة هي اسمنا الحركي وكلمة السرّ اذا اطفأوا الكهرباء وقصفوا القمر والنجوم ايضا .
ليس ذنب غزة ان لا تجد بيكاسو ليؤبّد الجورنيكا في ذاكرة البشر، وليس ذنبها ان التراجيديا اعلى قامة من كل من يتأبطون جذعها الذي ينتح منه الدم، فالرشح للشاشات وللكلمات الداجنة في معاجم العميان الذين يبحثون عن مقعدين يقايضونهم عينا بقدم .
* * * * * *
لقد امتثل الشقيق الأصغر، ويوسف الابناء للموعظة، والتقط ذراعه المبتورة ورمى بها فعادت اليها القبضة ، والتقط جثة اخيه ورمى بها ايضا، فاندلعت فيها الحياة لتموت مرة واحدة فقط، وتعيش الى الأبد .
تزامن لا يخلو من مكر تاريخي بين ذكرى سفرك الاخير وبين ايام غزة، بحيث اصبحت الكتابة عنك مشروطة بالكتابة عنها وكأنكما معا تقاتلان، فلا تعود بعد اليوم غيرك بل تعود اليك وأنت أنت …
* * * * * * *
كتب محمود عن فضيحة عصرنا حتى الأبد، حين جاء جان جينيه ليقاتل الذباب حول الجثث في صبرا وشاتيلا ثم ينقضّ عليه ذباب آخر ليس له دم الا ما امتصه من ضحيته، وقال ان هجاء الصمت تم بصمت وأنا اضيف ان مديح القتلة تمّ بثرثرة حذفت الفارق بين القاتل والقتيل .
ان ما يتبدل هو الاسماء، فمنذ دير ياسين وكفر قاسم حتى قانا وصبرا وغزة وجنين والخليل هناك جريمة يعاد انتاجها في كل مرة بسلاح جديد، وشهود زور جدد، فالجريمة ليست مَبْنية للمجهول، والقاتل ليس نائب فاعل كما يشاء نَحوْ المستعربين وكما يقترح فقه العلاقمة الذين طالما تخبّأوا كالدودة في التفاحة … فالحرب ليست الان بين الاله اندرو والشيطان ، بحيث يلوذ من لا يرى عدوه بساق زهرة اللوتس، انها بين طائرة وعصفور وبين صاروخ وسنبلة وبين طفل وشيطان لهذا فهي اعادة اختبار كوني لما تبقى على قيد التاريخ من وعي واخلاق وعدالة .
اعرف ان من يغيبون مثلك كل هذا الوقت انما يتفرغون للسهر، فأنت الان في باطن رام الله اقرب الى نفق يقاوم والى عشاء متقشف يعده فدائي من زعتر بري نبت من صدع صخرة او من قطرات زيت تطفو على الكثير من الّدمع .
* * * * * * *
ذهب الذين نحبهم، لكن بعيدا في الدم والطحين، واصيبوا كما احببت انت بالوطن البسيط وبالياسمين . والحصان الذي سقط عن القصيدة لم يمت، بل تماوت قليلا ليختبر فارسه وها هو صدى صهيله يملأ المدى، لقد قلت في بيروت عام الاحتياح :
كم كنت وحدك يا ابن امي
يا ابن اكثر من اب كم كنت وحدك …
ويومها قرأت باسم الفدائي سورة العصيان واجتراح الافق بجزمة منقعة في دم السّاق والطين، اما ذلك الخليل الجليلي الذي اصطاد قلبه ببندقية، فقد قلت عنه انه كان يصغي الى موجته الخصوصية مَوت وحريّة، وهم الان في قطاع القطيعة من ذوي القربى، والمناصرة من ذوي البُعدى في القارات النائية يصغون فقط الى موجتهم الخصوصية، موت وحريّة، فالجريح في جسده هو من يتولى تضميد الجرحى في وجدانهم وهويتهم ولا بأس ان يتحول دم غزة الى تبرع فوري لمن اصابتهم الانيميا القومية والانسانية بكل هذا الشحوب والشلل والهُزال !
انت منذ الان غزة، وانت منذ الان من يعد القهوة بخلطة شمّوط التي تحبها لألفي شهيد، فالقبر اوسع من بلاد الناس كلها، لهذا عدت اليك، وكما اوصيت عشية السفر ما قبل الاخير والعشاء ما قبل الاخير، فهم يحاصرون حصارهم ويسرجون ما تبقى من اشلائهم ليعودوا اليهم، فغزّة « عار» على من تواطأ وصمت و» غار» على من سقطت سقوف بيوتهم في أحضانهم !!!
خيري منصور
كم نحن يا كاتبها العظيم فخورون بانتماءاته الى جراحنا روحك التالمه لأجلنا سلمت يداك
هذه المقالة بعنوانها “أنت منذ الآن غزة!” فما ستخرج منها عكس ما ستخرج به من مقالتك السابقة “حرب المصطلحات”، فهذه المقالة تُبين معنى الحداثة للمثقف الديمقراطي.
ومن وجهة نظري من مصائب المثقف هي جهله ما الفرق ما بين النقد وما بين جلد الذات.
فالنقد دائما يؤدي إلى شيء إيجابي.
في حين جلد الذات أو اللطم أو البكاء على الأطلال فلا يؤدي إلاّ إلى شيء سلبي، ثمَّ اللعب في الألفاظ والمعاني لأجل اللعب بالألفاظ والمعاني ينطبق عليه المثل القائل والذي يلخّص حكمة رائعة “وفسّر الماء بعد الجهد بالماء”.
أوقاتنا وخصوصا وقت الانتفاضات أهم بكثير من هذه الاستعراضات التي لا همَّ لها سوى استعراض امكانيات الـ أنا/الفرد/الرمز/النخب الحاكمة/البلطجيّة/الشّبيحة وهذا بالتأكيد على حساب الـ نحن/الأسرة/القبيلة/الشعب/المقاومة، شاء من شاء وأبى من أبى
ما رأيكم دام فضلكم؟
والله يا سيد عبد الله اذا كان الكاتب يكتب ليستحضر رمزا عظيما نحتاجه في هذة الاوقات ،ويحيي ذكراه السادسة هل في هذا ما يضايقك ام لانك لم تستوعب فهذه مشكلتك
هل تري من مثقف بقيمة خيري منصور ان يكتب بلغة الشلرع ؟
ما الفائدة اذن من ثقفاته اذا اذا لم ترفعنا ولو انشا لسمائه
شكرا أستاذ خيري،على هذه المقالة الشاعرية الرائعة