كرَّس براين ريتشاردسون -وهو واحد من علماء السرد غير الطبيعي- جهوده في اتجاه البحث في مسائل سردية كان نقاد السرد الكلاسيكي قد تركوها أو لم يحسموا القول فيها أو عدّوها شائكة نظرًا لوعورة الطرق المفضية إلى حسم إشكالياتها. ومن تلك المسائل: المؤلف وموقعه من السارد، التخييل غير المحاكي أو غير المقيد، اللاطبيعية (unnatural) في الشخصية غير الآدمية، السرد بضمير المخاطب. وهذه المسألة الأخيرة، حددها ريتشاردسون بأنها أية مخالفة في توظيف الخطاب السردي تحرِفه عن الاستعمال المألوف، ذلك أن استعمال ضميري (هو) و( أنا) ينتج خطابًا اعتياديًا في حين ينتج استعمال ضمير( أنت) خطابًا غير طبيعي و( الفرق هائل بين الاستعمال التقليدي الراسخ في الخطاب الاعتيادي واستعمال ضمير المخاطب «غير الطبيعي» في الخطاب الخيالي.)
وشاطر ريتشاردسون مونيكا فلوديرنك رأيها في أن وظيفة السرد بضمير المخاطب هو نوع من اللاهوية في وصف عوالم السارد والشخصيات، وعدَّ هذا الرأي دقيقًا كونه يساعد في تحديد سبب الغموض في كتابة رواية بهذه الطريقة، مؤكدا أن استعمال السرد بضمير المخاطب ينفع في تحقيق أغراض ايديولوجية كما يساعد في تصوير الصراعات الداخلية حين يتعرض الفرد لسلطة قمعية، وأنه وسيلة مفيدة في التعبير عن الهويات والاثنيات وهو مناسب أيضا في التعبير عن الحالات غير المستقرة والتكوين الذاتي المضطرب.
ووقف ريتشاردسون عند مفهوم التجانسHomogenization فوجد أن التجانس في الخطاب التقليدي يجعل مفردة «أنت» تعني واحدًا وعادة ما ينفع هذا النوع من المخاطبة في تصوير أفكار الشخصية. أما مفردة «أنت» في السرد غير الطبيعي فتعني إشراك القارئ عبر تماهيه مع «أنت» بشكل كامل، وهو ما يناسب السرد الرقمي.
واستعرض ريتشاردسون آراء المنظرين في الشكل الذي إليه ينتمي السرد بضمير المخاطب، ففرانز ستانزل رأى أن الشكل المونولوجي هو السائد في هذا السرد حيث «أنت» تعني في الواقع تمثيلا دراميا ذاتيا للـ«أنا». ومثله ميك بال التي ذهبت بشكل قاطع إلى أن «أنت» هي ببساطة «أنا» وأن من المقنع أن يكون السارد بضمير المتكلم هو المتحدث إلى نفسه بضمير «أنت» كلمسة شكلية لا تشرك المؤلف في الموقف السردي. أما جيرار جينيت فاتخذ موقفًا معاكسًا وعدّ هذا الوضع «حالة نادرة وبسيطة» هو عبارة عن سرد غير متجانس. وبالمثل وجد براين ماكهيل أن «أنت» تمثل ضمير الغائب للشخصية الخيالية، وتعمل في نوع من المونولوج الحر غير المباشر. وتساءل ريتشاردسون لماذا يصعب التوصل إلى قرار مقنع، ما المخاطر التي قد تترتب على توظيف ضمير المخاطب؟
وما يحسب لريتشارسون أنه فرَّق بين السرد بضمير أنت بشكل مباشر والسرد المونولوجي الذي فيه أنت ترد ضمن خطاب حر يتداعى على لسان البطل بشكل غير مباشر.
وصحيح أن هذا التداعي كان في السابق مقلقًا نسبيًا، لكنه أصبح الآن تقليديًا تمامًا ولا يكاد يلاحظه أحد. ومثَّل على ذلك برواية( أنا أنت) لمارتن بوبر، وفيها تغدو العلاقات بين أنا وأنت متعددة المعاني، فلا يمكن التغاضي عما يولده مثل هذا الخطاب من فئات وأنواع، بعض منها متجانسة، وبعضها الآخر ليس كذلك. والبادي أن اللاطبيعية والتناقض في توظيفها هما السبب في ندرة الكتابة الروائية بضمير المخاطب على الصعيد العالمي إذ كيف يمكن الاقتناع بمألوفية السرد وطبيعية السارد وهو لا يزال -كما يقول ريتشاردسون- يملك القدرة على توليد أحاسيس قوية بالاغتراب في علاقات السارد بالشخصية والمسرود له والقارئ الفعلي. وانتهى إلى الاعتقاد أن الالتباس الذي أظهره علماء السرد القدامى أمر لا مفر منه، لأن السرد غير الطبيعي بضمير المخاطب يقع بين المتعارضات الثنائية القياسية، لكن لا يمكن اختزالها بالسرد المغاير والسرد المتجانس، وكلاهما موجود منذ آلاف السنين. وبدلاً من ذلك، يتأرجح السرد بضمير المخاطب بشكل غير منتظم من جانب إلى آخر ولا يمكن «تطبيعه» بشكل مقنع مع أي من الممارسات التقليدية التي من طبيعتها التهرب من الظهور بطبيعة ثابتة).
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن ثمة باحثين آخرين لا يرون أية لا طبيعة في السرد بضمير المخاطب، بل العكس هم يرون فيه تجانسًا ومن هؤلاء مثلا الباحث النمساوي جوشوا باركر أستاذ الأدب الأمريكي ونظرية السرد في جامعة سالزبورغ، ومما ذهب إليه أن استعمال هذا الضمير يُخفي أو يُبعد «أنا» المؤلف عن «أنت» داخل النص كما أن لتقانة الاستبدال Metalepsis دورها في إظهار قدرات السارد وتمكين القارئ من مشاركة المؤلف عمله على وفق آليات نقد استجابة القارئ. وبين باركر أن روايات الفرنسيين جورج بيريك وميشيل بوتور والإيطالي إيتالو كالفينو ألهمت الروائيين الأمريكيين الكتابة بضمير المخاطب والذي يعد أهم تقدم تقني حصل في السرد الروائي منذ ظهور تقانات تيار الوعي.
وعلى الرغم مما يراه هذا الباحث من غموض في تكرار مفردة «أنت» في السرد وأن( مونيكا فلودرنك لاحظت أن ضمير المخاطب في الرواية المعاصرة وصل أخيرًا في عصرنا إلى نقطة عدم الوضوح ) فإنه لم يجد في هذا التكرار أية لا طبيعية، بل هو يولِّد تجانسًا.
ولقد ردّ ريتشاردسون على باركر بمجموعة أدلة، أثبت من خلالها أن استعمال السرد بضمير المخاطب يولّد اللاتجانس والغموض إنتاجًا وتلقيًا وتصورًا سرديًا. وابتدأ بالقول:( تحفظاتي على هذا الرأي تتلخص في أمرين: أنه لا يتناسب مع الوقائع، ويميل إلى التقليل من أهمية التوظيف أو تجاهله جزئيًا.. ومن الصعب أن نتخيل المؤلفين المذكورين أعلاه يخبئون أنفسهم -ولو عن بعد- داخل تلك الشخصيات الخيالية، ومن الصعب أيضًا رؤية العديد من شخصيات تخاطب أنفسها بـ»أنت» بشكل مباشر أو غير مباشر.. والعديد من الجمل في رواية بوتور( التحول) تقاوم الاختزال إلى أية شخصية بضمير المتكلم.. يبدو أن باركر غير مهتم بـ «الجدل النظري» الكبير الذي يحيط بمسألة ما إذا كان السرد بضمير المخاطب أكثر تشابهًا مع الخطاب بضمير الشخص الأول أو ضمير الشخص الثالث).
كاتبة عراقية