لا تملك مجموعة العلوم الأنثربولوجية حتى يومنا هذا سمعة جيدة في نطاق العالم العربي، فهي ترتبط في ذهن الكثيرين بالاستعمار، الذي خلق فرعاً علمياً حاول من خلاله أن يفهم طبيعة المجتمعات، تمهيداً لغزوها، بل يؤمن كثيرون بأن مصطلح «الاستعمار» المبني على فكرة الحاجة إلى التعمير مدين لهذا العلم.
يقول صامولي شيلكة (أنثربولوجي فنلندي معاصر عرف ببحوثه حول المجتمع المصري) وهو يشرح التعقيدات المرتبطة بالأنثربولوجيا، أنه قد كان من قدر هذا العلم الحديث الذي تزامن في نشأته مع علوم اجتماعية أخرى، بل مع نشأة علم الاجتماع نفسه، كان من قدره أن يولد في أوروبا التي كانت في أوج صعودها. كانت هذه القارة الصاعدة تعمل بجد على إلحاق العلوم النظرية والإنسانية بنظيراتها التطبيقية، فيما يتعلق بالبناء على أسس علمية ومنهجية صالحة للتعميم.
كما أي شعب، يقول شيلكة، كان الأوروبيون فخورين بأنفسهم، وهم يعتبرون أنفسهم مركز الكون وأصل الفضائل. هذه المشاعر، وإن كنا نجد ما يشابهها عند العرب والآسيويين والأفارقة وغيرهم، إلا أن الفارق هنا هو أن الأوروبيين قد وظفوها لصالح بحوث التاريخ وعلم الاجتماع الثقافي ذات الصبغة العلمية، ما جعل هذه البحوث تتمحور حول كونهم هم معيار التقدم والحضارة، في حين يبقى غيرهم رمزاً للبدائية.
يتفق شيلكة مع رأي من يذهبون لوجود «أغراض» غير علمية مرتبطة بنشأة الأنثربولوجيا، لكنه يعتبر أن هذه العلوم قد تجاوزت مع الزمن ذلك متحولة لمجال بحثي محايد. يمكننا أن نتفق إلى حد كبير مع شيلكة في هذه النقطة، فالأكيد أنه لم يعد هناك مكان لمصطلحات مثل «لغات بدائية» أو «مجتمعات بدائية» في الساحات العلمية اليوم، بل تعتبر الأجيال الجديدة من الأنثربولوجيين أن كل لغة وكل مجتمع، هو غاية في التعقيد والتشابك مهما بدا مختلفاً عما تعودنا عليه وألفناه. ذلك الترويج الهستيري لمفهوم البدائية، الذي كان مفيداً في زمن الصعود الغربي أصبح جزءاً من الماضي، وكذلك انتهت الأيام التي كان علماء الأنثربولوجيا الأوروبيون يشكلون فيها ظهيراً منهجياً لحركة الاستعمار. لكن هذا لا يعني أن جميع المشتغلين بالانثربولوجيا في القرنين الماضيين كانوا من جنود الامبريالية، بل تؤكد الحقائق وجود سلسلة ممتدة من العلماء الذين ظلوا يرفضون توظيف علومهم، كما ظلوا يدحضون النظريات الاستعمارية العنصرية، التي كانت تريد أن تؤطر لاختلاف الأعراق والأجناس الآدمية، تمهيداً لتمرير سيطرة جنس على آخر. هذه السلسلة من العلماء التي بدأت في التزايد منذ أواسط القرن العشرين ساهمت في تحويل الانثربولوجيا من علم سلبي استعماري إلى فضاء إيجابي يدرس المجتمعات الإنسانية بغرض فهمها وتفكيك علاقاتها، بما يقود إلى التقارب وليس إلى البحث عن طرق جديدة للسيطرة.
سينتج كل ذلك أجيالاً جديدة من البحوث ومن الباحثين الذين يعد شيلكة، الذي اختار أن يدرس «الموالد» المصرية أحد أمثلتهم. مثل هؤلاء الباحثين لم يعد ينظر إليهم اليوم بتشكك كأعوان للاستعمار، بل كمساهمين في إثراء البحوث الاجتماعية والتراثية. هذه المرحلة الجديدة سوف تتميز إضافة إلى ذلك بتوسع ميدان هذا العلم الذي لم يعد يقتصر على بعض المناطق النائية والمجهولة، بل أصبح يغطي كل مكان تقريباً، كما ستتميز بولادة أجيال جديدة من الباحثين المحليين الذين سيدرسون مجتمعاتهم المحلية أو مجتمعات شبيهة بخلفياتهم وثقافتهم. هنا سوف تبرز أسماء كثيرة منذ نهايات القرن الماضي كالبروفيسور السوداني عزيز بطران (1941-2011). بطران ليس المثال الوحيد بطبيعة الحال، لكنه مثال مناسب للأطروحة المعاكسة الصاعدة، فبعكس ما كان يحدث في بدايات نشأة الأنثربولوجيا، فإننا لسنا هنا بصدد مسيحي يبحث في مجتمعات وثنية، أو متعصب صليبي يحاول تفكيك العلاقات في البنى الإسلامية، ولكننا أمام باحث مسلم متصوف سوف يتم تشجيعه من قبل أساتذته في جامعة بيرمنغهام على خوض غمار البحث في الإسلام الصوفي الافريقي، بأخذ نموذج الطريقة القادرية وشيخها المختار الكنتي، الاسم المعروف والمشهور في مناطق وسط وغرب افريقيا.
بتتبع العلاقات المعقدة التي بدأت مع دخول الإسلام، والتحولات التي ولّدت ما يعرف اليوم بالإسلام الصوفي، سوف يعمد عزيز بطران إلى تقديم تفسيرات جديدة لظاهرة التصوف بعامة، والتصوف السوداني التي نتجت عن الاحتكاك بالمدارس الصوفية الافريقية الكبرى، خاصة. لم تحظ أعمال بطران إلا باهتمام دائرة ضيقة من الأكاديميين في العالم العربي، وقد يعود ذلك لولادة أعماله في الغرب، ولكونها كتبت في معظمها باللغة الإنكليزية، وإن كان مجالها هو التاريخ والثقافة الافريقيين. قد يكون السبب أيضاً هو قلة الاهتمام بالأعمال الأنثربولوجية، ويكفي للتدليل على ذلك أن تعلم أنني، وخلال الإعداد لهذا المقال، لم أجد أي صفحة عربية تعرّف بهذا الباحث، الذي ظل لعقود طويلة ينتقل بين جامعات أوروبية وأمريكية كثيرة كأستاذ ومحاضر ومشرف على باحثين.
تتشارك البلدان العربية بنسب مختلفة في مسألة الشك بالأنثربولوجيا والانثربولوجيين، بين تلك التي ما تزال لا ترحب بهم، خاصة حينما يكونون من الأجانب، وتلك المتقدمة لحد ما بفضل حظها وموقعها، وسواء كنا نتحدث عن الجزيرة العربية، التي ظلت تشهد اهتماماً من قبل المستعربين والمستشرقين، أو مصر التي كانت وجهة مفضلة لهم في مجال دراسات الجنوب، فإننا نشهد اليوم ازدهاراً لهذا العلم وتأصيلاً له بشكل غير مسبوق في المشرق، ولكن أيضاً في منطقة المغرب العربي، التي يحاول عدد من الأنثربولوجيين المعاصرين فيها بناء مدارس مستقلة عن تلك المدارس التي أسس لها الاستعمار الفرنسي. هل صارت الانثربولوجيا بهذا علماً محايداً بالكامل؟ من الصعب قول ذلك، لكن الحديث عن الإيجابية والأنسنة إنما نشير به للانتقال من محور خدمة مشاريع الإمبريالية إلى المحور الشخصي، الذي قد يعلق به هو أيضاً بعض الهوى الذي ينبئ عن توجهات الباحث الأيديولوجية أو خلفيته الثقافية. يزداد هذا «الهوى» بتناسب مع المنبر الذي يطل من خلاله الباحث، فقد يكون صارخاً كما في الأعمال التي كانت ترعاها قديماً الدوائر الاستشراقية، وكما في أعمال بعض المعاصرين العرب كالمغربية فاطمة المرنيسي التي كانت تحاول أن تتخذ من البحث الاجتماعي والثقافي وسيلة لنقل وجهة نظرها حول العلمانية، والدور الاجتماعي والسياسي للدين، كما قد يكون مستتراً ومرتكزاً على الوصف والتحليل الموضوعي، كما في كثير من الأعمال الصادرة حديثاً عن المؤسسات الغربية.
إن ما يجب على الأنثربولوجي أن يتذكره هو أننا حينما نقرأ عن الموالد المصرية مثلاً، فنحن لا نكون مهتمين بمعرفة رأيه الشخصي أو مدى تعلقه بهذه الموالد، فللأسئلة الفلسفية والفقهية مكان غير هذا المكان، كذلك حينما نقرأ لحسن رشيق مثلاً وهو يحكي عن «سيدي شمهروش» وكيفية تعامل القرويين المغاربة مع المقدس، عبر سرد الطقوس المتبعة للعلاج من الأمراض والتخلص من الجن وغيرها من العادات، فإن هذا لا يعني مطالبة الكاتب، أو القارئ، باتخاذ موقف من هذه الممارسات. إن المهمة الأنثربولوجية هنا قد لا تتجاوز الوصف والتسجيل الذي قد يساعد في هذه الحالة على فهم الارتباط بين الطقوس شبه المقدسة والمرجعيات الأسطورية في كثير من مجتمعاتنا المعاصرة. هذا هو ما نعنيه بالأنثربولوجيا الإيجابية.
كاتب سوداني
عنوان ليس له علاقة بتدوين لغة القرآن في كتاب، هو أول ردّة فعل لي على ما نشره د. مدى الفاتح تحت عنوان (أنثربولوجيا إيجابية: عن أنسنة علم الإنسان) في جريدة القدس العربي، والأهم هو لماذا؟!
ردة فعل الدول في عهد الجيل الرابع من الثورة الصناعية، يختلف عن ردة فعل الدول في عهد الجيل الأول، خصوصاً بالنسبة للدولة العثمانية والامبراطورية الصينية السلبي في حينه،
فعلى أرض الواقع كل منهما ساهم بمشروع (الفاتح التركي) من جهة، ومشروع (القدوة السنغافوري) من جهة أخرى، لتخفيض وزن الحقيبة المدرسية، بتحويل الكتاب الورقي إلى كتاب إليكتروني (e-Book)، أي تعاملت بإيجابية،
والتي كانت خلف مفهوم (e) أو الصرّاف الآلي كمثال وتطبيق عملي،
لمفهوم الحوكمة الرشيدة التي أساسها الشفافية واللا مركزية، في أجواء العولمة والإقتصاد الرقمي/الإليكتروني،
بعد إعلان الترتيب الجديد للعالم، في مؤتمر مدريد للسلام، في الذكرى الخمسمائة لطرد اليهودي والمسلم من قبل الكاثوليكي الأوربي، تحت قيادة صندوق النقد والبنك الدولي وأخيراً معهد الحوكمة الكندي،
وشروطهم الخمسة في الوصول إلى التآلف الاجتماعي كأسرة إنسانية في أي دولة (الشفافية، واللا مركزية، وحاضنة التقنية، والحوكمة الرشيدة، وحق تعليم لغات الأقليات نفس حق تعليم اللغة الأم في الدولة).
فقد ثبت أن الإنسان ليس آلة أو حيوان،
وفي الأسبوع الماضي علقت على مقاله عن طارق رمضان بالتالي:
ما يُميّز دين الله، هو لا رهبنة في الإسلام، عكس بقية الأديان، هو أول ردّة فعل لي على ما نشره (د مدى الفاتح) تحت عنوان (ما بعد المحنة: عن عودة طارق رمضان)، وهذا ما لاحظت يجهله من يعمل على صناعة رموز نُخب المُثقف والسياسي في دولة الحداثة الأوربية والأمريكية،
عقلية الرموز/الأصنام، ليس لها علاقة، بعقلية لا رهبنة في الإسلام،
ما افتهمنا الآن، النسوان كل تحرشاتهم من أجل الركبة، لو من أجل الفلوس مع طارق رمضان أو غيره، أين الحب من كل ذلك؟!
الإشكالية في عقلية الرموز، وعلى أرض الواقع، ليس بيننا رموز ملائكة أو رموز شياطين، فنحن بشر،
ولذلك التشكيك لأجل التشكيك، لن يجعل كل الألوان رمادي مثل الأحلام، بل سيجعل حياتك، حياة ملحد لا يؤمن بوجود خالق، مثل جحيم العيش مع زوجة، لا تريد زوجها يتزوج عليها زوجة ثانية/ثالثة/رابعة، وما تفعله به من مقالب من تحت الأرض.??
??????