أنثروبولوجيا الغرباء: إلى متى تبقى كولونيالية؟

■ كان الأنثروبولوجي الأنكلوسكسوني، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، على موعد مع ترجمة عدد من أعمال الماركسيين الفرنسيين والألمان والروس، وحتى مع أعمال ماركس. وقد ترافقت هذه اللحظة مع مقتل مارتن لوثر كينغ ومناهضة الحرب الدائرة في فيتنام.
وقد دفع هذان العاملان عدداً منهم إلى تبني رؤى يسارية حيال تاريخ حقلهم. ويُعدُّ كتاب «إعادة اختراع الأنثروبولوجيا» تحرير ديل هيمز 1969، بمثابة الشرارة التي ألهبت لاحقاً سرديات وتخيلات حول علاقة الأنثروبولوجيا وبداياتها بالكولونيالية.
أما كتاب طلال أسد، «الأنثروبولوجيا ومواجهة الاستعمار» 1973، فقد جاء لاحقاً بأجندات أكثر راديكالية تجاه مؤسسي هذا الحقل. إذ لم يكن هؤلاء، بالنسبة له ولتلامذته، سوى جنود أو أدوات بيد الكولونياليين؛ وبالتالي لا بد من الحذر من تأويلاتهم ودراساتهم.
وسرعان ما تلقّف البعض هذه الرؤية حيال العاملين في هذا الحقل ليطبق عليها رؤية شبه لاهوتية، إن صح التعبير، وفق قاعدة «ما بُني على باطل فهو باطل»، وبالتالي بدلاً من الالتفات إلى التحولات التي كان يعيشها هذا الحقل بدءاً من الخمسينيات والستينيات على سياق إرث مؤسسيه أو في أجنداته وبرامجه البحثية، كما أكدت مارغريت ميد (عالمة قبائل غينيا) التي أخذت تدعو إلى إقحام الأنثروبولوجيين في رحلات الفضاء، وأيضاً عبر جيل آخر نقل حقل اهتماماته من المجتمع البري/ القبلي البدائي والمجتمعات الصغيرة إلى دراسة المجتمعات المعقدة؛ أقول بدلاً من ذلك، بقي يظن أن الحل الأمثل مع هذا الإرث، إما في القطيعة معه أو عبر محاولة قراءته لنبش ما هو استشراقي وكولونيالي في ثناياه. وهنا لا بد من الإقرار بأن هذه القراءة النقدية (لدى أبناء ما بعد الكولونيالية) قد وفّرت، كما يرى أرماندو سالفاتوري، منبّهات جيدة لمشروع أوسع حول الإسلام، لكنها في المقابل وقعت أيضاً ضحية ما يدعوه البعض بـ«سوسيولوجيا الأخطاء»، إذ تُختزل في هذه السوسيولوجيا أو الرؤية النقدية النظريةُ المعرفية والنظريات التي اعتمدها الباحث، والتي عادة ما تكون امتداداً للتقاليد العلمية، لصالح رؤية مبسطة.


وفي سياق التفكّر بعلاقة الأنثروبولوجيا والكولونيالية، حاول العالم الأنثروبولوجي المغربي حسن رشيق، عبر كتابه المترجم حديثاً «القريب والبعيد» ترجمة حسن الطالب، إعادة النظر في هذا الإرث، عبر إدراج هذا الإنتاج ضمن التقاليد النظرية التي كانت تحيط بالإثنوغرافيين خلال تلك الفترة. إذ أنه وفقاً لرشيق، بدلاُ من ممارسة دور المحقق أو الشرطي، تقوم الوضعية الأثنوغرافية على مدخلين أساسيين، يُعنى أولهما بدراسة مدة الإقامة في الميدان. فمثلاً لم يقم دوتي سوى بمهام قصيرة بينما قاد ويسترمارك أبحاثه الميدانية على مدى سبع سنوات. وفي هذا الصدد حاول رشيق أيضاً فحص درجة قبول المجموعات المدروسة للباحث وتجاوبها معها وتأثيرات ذلك على نتائجه الميدانية.
أما المدخل الثاني فيتعلق برقعة الدراسة، إذ بدأت الأنثروبولوجيا في تأمل البشرية قبل حصر حقل ملاحظاتها في مجالات ثقافية، أو في جماعات محدودة. وتوضح أعمال ويسترمارك هذا التحول في مستويات التحليل، فقد اختار هذا الرحالة أربع عشرة قبيلة ومدينتين، كانت تمثل ساكنة المغرب. لم تكن فكرة الإقامة لدى قبيلة واحدة أو في مدينة واحدة قد رأت النور بعد؛ بينما اتجه عدد من الأنثروبولوجيين الأمريكيين بعد كليفورد غيرتز نحو مدن متوسطة وجماعات أكثر تعقيداً.

كان كل من مولييراس ودو فوكو قريباً من نموذج الأنثروبولوجي المكتبي السائد آنذاك، الذي يقوم عمله على جمع بعض المعلومات المتناثرة.

أثنوغرافيا التنكر

يبقى شارل دو فوكو 1878 ـ 1916، في ما يتعلق بالتوسع الكولونيالي، الوجه الأبرز لمعرفةٍ قامت على الرحلة. وغالباً ما اضطر انعدامُ الأمن في البلاد الأوروبيين إلى التنكر. باشر دو فوكو رحلته من أجل العلم، بيد أن مهمته لم تكن تحت تكليف أو رعاية أي مؤسسة، فكانت التكاليف على حسابه الخاص من غير أي مساعدة من الحكومة. أما التنكر والاختيار المحدود للمسارات، والبحث المستمر عمن يوفر الحماية، والتفاوض على المكافآت، والتعرض للضرب والتعنيف، فهي في الإجمال ملابسات الرحلة لدى مستكشف أراد أن يجوب المغرب في الثمانينيات من القرن التاسع عشر. كانت العلاقة مع الأهالي هشّة، لكنها وضعية مثالية بالنسبة لمستشكف متنكر. كتب دوفوكو عند وصوله إلى طنجة: «أمام غياب أي جديد يستحق الرؤية في هذه المدينة، المشهورة بأوصاف كثيرة، فقد كنت في عجلة من أمري لمغادرتها». ويكرر ذلك بخصوص فاس. لقد كانت المعرفة التي أرادها دو فوكو معرفة خارجية قبل كل شيء، مختلفة عن تلك التي يروّج لها الأهالي. فرجّح كفة الوصف الجغرافي على الوصف الأثنوغرافي للمنطقة. في هذا النوع من الأنثوغرافيا تعمل العينان وترتاح الأذنان، كما يرى رشيق.
وفي مقابل «أثنوغرافيا التنكر»، قام أوكست موليراس باقتراح خطة عمل أثنوغرافية أخرى. فبدلاً من التعرض لمشاق الرحلة والخوف، لجأ إلى خطة غريبة تذكرنا، مع مراعاة الفارق، بـ«الأثنوغرافيا عن بعد».
يقول موليراس في مذكراته «لا أستطيع السفر إلى المغرب، وليكن. بيد أن هناك مسلمين سافروا إليه.. خلصت من ذلك حينه إلى الحل الشامل لمشكلتي: معرفة المغرب والتعريف به… قد يكون أفضل من خلال أقوال المغاربة أنفسهم، والرحالة المسلمين».
قام الجزءان اللذان يتألف منهما كتابه «المغرب المجهول» على عمل مخبر واحد عثر عليه مساعد جزائري لمولييراس بعد جهد جهيد: «حل طالب لتوه في وهران في ثياب رثة، على هيئة درويش مخبول، زاعماً معرفته العميقة بالمغرب. كان صديقي المسلم الجزائري قد أدى مهمته بدون أن يخامره أدنى شك في عثوره على مستكشف فوق العادة، أي على الشخص الذي سيسمح لنا أخيراً بكشف النقاب عن الإمبراطورية المحصنة منذ قرون». إذن كان كل من مولييراس ودو فوكو قريباً من نموذج الأنثروبولوجي المكتبي السائد آنذاك، الذي يقوم عمله على جمع بعض المعلومات المتناثرة.

الوقوف على تخوم الميدان

مع قدوم أدمون دوتي 1867ـ 1926، سنكون أمام أول تطورات نزول الباحث الأنثروبولوجي من مكتبه إلى الميدان. إذ رأى دوتي أن الباحث المنزوي في مكتبه لا يمكنه أن يجعل من التبرك الذي يحظى به ولي من الأولياء حدثاً مرئياً. استخدم كلمات مثل مهمة، ورحلة دراسة، وجولات مغربية؛ وفي تحليله للدلالات الأثنوغرافية لهذه الكلمات، يشير رشيق إلى أن الرحلة هي شكل أولي من أشكال الميدان التي تتضمن تفاعلات عابرة مع الأهالي.
يعد كتاب «مراكش» مسار رحلة قام بها دوتي عام 1901، وترتبط المعطيات التي جمعها بثلاث قبائل كبرى هي، الشاوية، وخاصة دكالة والرحامنة. وتتكرر فيه أخباره عن المجموعات وعاداتها وتقاليدها (طقوس عابرة، التغذية، اللباس، الألعاب) ومع ذلك يظل هذا المظهر الأثنوغرافي ثانوياً قياساً بالاستطرادات النظرية المطوّلة التي أمعن في الوقوف عندها. كان دوتي الرحالة محاطاً بدوتي العالم المشبع بالأفكار المهيمنة على الأثنوغرافيا المقارنة في عصره. هيأ لمسار الرحلة سلفاً وخطط لها بحسب الأماكن التاريخية (بقايا مآثر، مساجد، مدارس..) والمقدسة (ينابيع، كهوف، مزارات).
أما عن علاقته بالأهالي، وخلافاً لمن سبقه، لا يفسّر دوتي النزعة العدائية لدى المغاربة إلى دوافع دينية (ازدراء الكافر) أو سياسية (الخوف من المستعمر). فالبدائيون مصدومون من كل تباين في الأعراق، وينتابهم الخوف من كل ما هو جديد. ويرى دوتي في كره النصراني، أسلمة للخوف البدائي من الأجنبي، ولذلك فقد اتخذ التفاعل مع الأهالي صورة معركة يُسمح فيها بكل شيء من قبيل الخديعة، والكذب والنفاق، والقوة والمال. كما كان نصب مخيمه داخل القرية أمراً غير مُفكّر فيه في إطار التدابير الأخلاقية والنظرية لدوتي.

الأخذ بمعنى الأهالي

في مقابل رؤية دوتي الأثنوغرافية التي دارت حول تخوم المدن والجماعات المغربية، نعثر على أدوار ويسترمارك 1862ـ 1939 الذي جاء ليخالف الرؤية التأملية والظروفية: «بالنسبة لي لن أحاول هنا استعراض نظريات عامة مرتبطة بأصل حفلات الزواج.
وسأكتفي بالعادات الممارسة في الزفاف لقوم، وهم الأهالي المسلمون في المغرب، الذين قضيت وسطهم قرابة ست سنوات».
وخلافاً لدوتي لم يأت ويسترمارك إلى المغرب متأبطاً نظرية يسعى إلى تأكيدها، أو عرضها بواسطة وقائع محلية (كما فعل دوتي بنظريات جيمس فريزر عن السحر والدين).
من ناحية أخرى رفض مبدأ التنكر، كما فضل أخذ تعليقات الأهالي مأخذ الجــــد. وحينما لا تتطابق وجهة نظره مع وجهة النظر المحلية يقوم بسرد وجهتي النظر كلتيهما عبر التمييز بين الدافع الأصلي والدافع الراهن.

ممارسة بيرك للتشاعر لم تكن تحول دون أخذ الحيطة والحذر إزاء مخبريه.

وماذا عن جاك بيرك؟

إن الامتياز الذي حظي به الأخير مقارنة بالجيل الأول من الكولونياليين، هو أنه بدأ مساره العلمي عشرين سنة بعد فرض الحماية. ذلك أن السنوات الأولى للاستعمار تميزت بالعنف والاضطراب السياسي، ولم تكن تسمح بتفاعلات مستمرة ومكثفة مع الأهالي. لكن مع مرور الزمن أصبح الكولونيالي رويداً رويداً وجهاً مألوفاً لدى الأهالي.
عندما وصل بيرك إلى المغرب كان يتجول بسيارة جيب يقودها سائق من الأهالي. يعترف بيرك بأنه كان يجهل فكرة التشـــاعر مع الأهالي، إلا أن ذلك لم يحل بينه وبين الرغبة في فهم أفكار المجموعات المدروسة وسلوكياتها. فالانكباب على فهم ما يفهمه القاضي من شريعته الخاصة، هو في ما يبدو ما يجب أن يكون أحد المهام المسبقة لأي شرح للفقه. وممارسة بيرك للتشاعر لم تكن تحول دون أخذ الحيطة والحذر إزاء مخبريه.

المغرب: جنة الأنثروبولوجيين

وبالانتقال إلى أرنست غيلنر 1925 ـ 1995 نجد أن إسهامه يمثل نقطة تحول دالة في تاريخ المعرفة الأنثروبولوجية في المغرب. فقد أسهم إسهاماً كبيراً في إخراجها من قمقم المحلية وإدماجها في إشكاليات نظرية أكثر كونية عالمية. وسيبلغ تأثير هذا الانفتاح أشده خلال الستينيات والسبعينيات مع ثلة من الأنثروبولوجيين الأمريكيين. هكذا أصبح المغرب جنة بالنسبة للباحثين الغربيين، مثلما تؤكد شهادة لكليفورد غيرتز.
وعلى صعيد غلنر، يشير رشيق إلى أن المدد التي حل فيها في المغرب قصيرة نسبياً، أطولها دامت ستة أشهر 1955، فضلاً عن ذلك لم يكن يتقن الدارجة المغربية بصفة خاصة، وكان يستعين بمترجم يساعده على أرض الميدان. أما على مستوى الأفكار يبدو أن أفكار ماكس فيبر شكلت مصدر رؤية غلنر للتدين الريفي المغربي: «فالمدن تتيح التعليم وترفع من قيمته. والتعليم يسمح بالوصول مباشرة إلى تحقيق التجلي، والكف عن المغالاة في الطقوس». مع قدوم كليفور غيرتز شهدنا تحولاً في المقاربة الأثنوغرافية، إذ أصبح الأمر يتعلق بعمل جماعي لا فرديا. إذ ضمت الفرقة التي انتمى إليها ثلة من الباحثين الذين لم يكن جميعهم أنثروبولوجيين. وعلى العموم تحول الاهتمام حينها صوب الحضارات المعقّدة على حساب الثقافات القبلية المعزولة. ويرى رشيق أن التحول الكبير الذي يعتبر غيرتز نفسه أحد رواده مرتبط بتلك «الانعطافة السيميائية»، وبالقرب من نظرية الأدب وبول ريكور ولودفيغ فيغنشتاين. وكدلالة على الخروج من عالم القبيلة والمجتمعات البدائية، اقترح غيرتز دراسة سوق صفرو الذي يتيح له قول شيء ما عن المجتمع المغربي. فقامت دراسته على أساس استقصاء ميداني 1968ـ1969، أخذ بعين الاعتبار تاريخ السوق، وتنظيمه الاجتماعي، والأهم طبيعة التفاعل الكلامي وتبادل الأحاديث بين البائع والمشتري حول السعر والقيمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية