أنجيلا غوي… لا أريد مكابدة الشعور بأنني خذلتُ والدي

سامح خلف
حجم الخط
0

السويد ـ «القدس العربي»: غوي مينهاي مؤلف وناشر سويدي من أصل صيني وهو أحد مالكي دار النشر مايتي كارّينت (Mighty Current) في هونغ كونغ. في عام 2015 اختفى خمسة من أصحاب الدار والعاملين فيها، من بينهم غوي مينهاي، الذي كان آنذاك أحد ثلاثة ملّاك للدار. وقد اتضح لاحقاً أن المخطوفين محتجزون لدى السلطات الصينية في البرّ الصيني الرئيس. وفي الوقت الذي اختفى فيه العاملون في الدار، كانت الدار وفروعها مسؤولة عن نشر معظم الكتب التي اعتبرت حساسة لتناولها شخصيات سياسية صينية.

اختطف غوي مينهاي في السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول عام 2015 من شقته في تايلند، حيث كان يقضي إجازته، وكان آخر اتصال أجراه مع زوجته في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني ليخبرها أنه بخير، لكنه لا يستطيع الإدلاء بأكثر من ذلك. ومن الجدير بالذكر أن غوي مينهاي كان يعمل في الفترة التي اختُطف فيها على إنجاز كتاب عن الحياة الشخصية الحميمة للرئيس الصيني شي جين بينغ، بعنوانٍ أوليّ هو «شي ونساؤه الستّ».
منذ اختفاء غوي مينهاي لم تكفّ الحكومة السويدية وابنته عن التحرك والمطالبة بإطلاق سراحه. وقد اكتسبت قضيته بعداً إنسانياً وسياسياً عالمياً، حيث طالب العديد من الدول وزعماء العالم الصين بإطلاق سراحه.

اختطف غوي مينهاي في السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول عام 2015 من شقته في تايلند، حيث كان يقضي إجازته، وكان آخر اتصال أجراه مع زوجته في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني ليخبرها أنه بخير، لكنه لا يستطيع الإدلاء بأكثر من ذلك.

في الخامس من مايو/أيار 2020 يبلغ غوي مينهاي السادسة والخمسين من العمر. وستُطلق في اليوم نفسه دار كاونيتز- أولسون السويدية ديوانه الشعري «بإصبعي أرسم باباً على الجدار». ويتضمن الديوان قصائد كتبها غوي مينهاي في السجن، وكانت هذه القصائد قد نُشرت في الصفحة الثقافية في صحيفة «إكسبرسن»، وسيُعاد نشرها باللغتين الصينية والسويدية، مع هذا النص الذي كتبته ابنته أنجيلا غوي كمقدمة للديوان، بالإضافة إلى خاتمة كتبها كوردو باكسي.
وقد نُظّمت في الرابع من مايو، تظاهرة أمام السفارة الصينية في ستوكهولم شارك فيها العديد من الناشرين، من بينهم الناشر مارتن كاونيتز والناشرة إيفا غيدين، بالإضافة إلى محررة القسم الثقافي في صحيفة «إكسبرسن» كارين أولسون التي قرأت بعض قصائد غوي مينهاي. فيما يلي مقتطفات- مع بعض التصرّف- من النصّ الذي كتبته أنجيلا مينهاي كمقدمة لديوان أبيها، ونشرته صحيفة «إكسبرسن» يوم الأحد 3 مايو 2020 بعنوان «لا أريد مكابدة الشعور بأنني خذلتُ والدي»:
في صباح يوم السابع عشر من أكتوبر 2015 كان والدي قد خرج كعادته ليبتاع حاجته من المواد الغذائية لذلك اليوم. وكان في ذلك الوقت يقضي فترة إجازة لبضعة أسابيع في شقة يملكها في تايلند. أما في الأوقات المعتادة فكان يقيم في شقة صغيرة في منطقة الضواحي الجديدة في هونغ كونغ، حيث كان يقضي وقته في التدخين المتواصل أثناء عمله. وكانت دار النشر الواقعة في خليج كاوسواي، قد باعت الكثير من الكتب خلال السنوات الأخيرة، نظراً لازدياد أعداد السياح القادمين من البرّ الصيني الرئيس، وبسبب اهتمام الكثير من أولئك السياح الصينيين بالحصول على الكتب الممنوعة، التي كانت تصادر في أغلب الأحيان عند الحدود. وفي خريف عام 2015 كان الوقت قد حان لتجديد شقة هونغ كونغ؛ فالحواف كانت قد بدأت تصفرّ من تأثير التدخين المتواصل، والمطبخ بدأ يثير في النفس رهاب الأمكنة الضيّقة. لذلك، غادر والدي إلى تايلند، حيث كان من الأسهل له أن يعمل من هناك. هنالك يمكن للمرء أن يسمع صوت البحر ويراه، قال لي خلال محادثة عبر سكايب.
حين عاد من جولة التسوق في ذلك الصباح، وجد في انتظاره رجلاً يرتدي قميصاً مقلّما بلا كمين. وبعد أن تحادث مع ذلك الرجل لبعض الوقت، طلب من البواب أن يحمل المواد الغذائية إلى شقته ويضعها في الثلاجة؛ وقال إنه سيعود بعد قليل. بعد ذلك صعد والدي في سيارته برفقة الرجل ذي القميص المقلّم وانطلقا، ليختفي والدي. وخلال الأشهر التالية علمتُ أن أربعة من زملائه في دار النشر، قد اختفوا أيضاً في ظروف مشابهة لظروف اختفائه. خلال هذه السنوات الخمس التي انقضت حتى الآن، شرحتُ قصة والدي وعرضتها في العديد من العواصم مثل بروكسل وواشنطن وجنيف وبرلين؛ وسهرت ليالي طوالا وعديدة وأنا أكتب الملخّص تلو الآخر، وأنتظر مكالمة هاتفية تلو أخرى من شخص ما في الطرف الآخر من الكرة الأرضية لعلّه يعرف شيئاً ما.
تعرّفتُ إلى كثير من الناس الذين تطوعوا للعمل من أجل إطلاق سراحه. لكنني بقيتُ مع ذلك أحمل في جعبتي أسئلة أكثر من الأجوبة التي حصلت عليها. وفي ظلّ هذا الوضع، علمتُ أن الإنسان يمكن أن يُحتجز من دون محاكمة، بحسب القانون الأساسي في جمهورية الصين الشعبية، لمدة أقصاها ستة أشهر. لكن كم من الوقت ينبغي أن يمرّ حتى يتبرع المرء للمحتاجين بسترة صوفية كان قد اشتراها كهدية بمناسبة عيد الميلاد لشخص لا يزال يقبع في السجن، بعد سنوات من شراء تلك الهدية؟ كم من الوقت ينبغي أن يمرّ قبل أن يبدأ المرء بإعلان الحداد على أب لم يمت بعد؟

بعض الأسئلة أشدّ مرارة من غيرها

يوم الرابع من فبراير/شباط 2020 صدر الحكم. بقي والدي طول ذلك الوقت محتجزاً من دون محاكمة، لكن حين انشغل العالم بجائحة فيروس كورونا، اغتنمت السلطات الصينية الفرصة لتحكم على والدي بالسجن عشر سنوات، بتهمة تزويد قوى أجنبية بمعلومات استخباراتية بشكل غير قانوني. وهي تهمة تحمل عنواناً غريباً، لكنه من دون محتوى واضح ومحدد. لكن ما هي المعلومات الاستخباراتية المهمة التي يمكن لشخص محتجز منذ أكثر من أربع سنوات أن يحصل عليها؟
يصف أبي السجن في قصائده بأنه مكان تُستأصل فيه الذات: بين الجدران الخرسانية الباردة لا توجد إنسانية. وكاحتجاج سريّ بنى لنفسه أمكنة أخرى بالكلمات، التي كان يحفظها بمنتهى الدقة والعناية؛ فلا أوراق لديه ولا أقلام. ومِن خلال الشعر أمكنه أن يشعر بأنه إنسان، وكاتب وسويدي. وفي تلك القصائد لا يتعرّف المرء إلى سجين رأي فحسب، بل إلى شخص مفكّر، مرهف الأحساسيس وكاتب. شخص يتملكه الشوق للبيت والوطن.
ولد أبي في الخامس من مايو عام 1964 في مدينة نينغبو الساحلية في مقاطعة تشجيانغ شرق الصين. وهو الأخ الأصغر لثلاث شقيقات وكان يعاني منذ طفولته من قصر النظر. وكان ثمن النظارة باهظاً بالنسبة لعائلة تعيش من راتب جدّي العامل في مشغل صغير. لذا، ولكي لا تتحطم النظارة، كان والدي يلازم البيت ويقرأ في حين يلعب الأولاد الآخرون في الخارج. وباعتباره الابن الوحيد في العائلة، كان معفى من الأعمال المنزلية التي كانت عماتي يتحملن نصيبهنّ منها. حين بلغ والدي السابعة عشرة من عمره انتقل إلى الطرف الآخر من البلاد، واستبدل لهجة تشجيانغ الطرفية باللهجة الصينية الفصحى، التي تتميز بالمقاطع ذات الاستدارات اللطيفة. وفي بكين اكتشف، مع غيره من الطلاب، الشعر كلغة للتعبير عن الأفكار في مجالات شتى، مثل السياسة والديمقراطية والمستقبل والحبّ. وفي بكين تعرّف أيضاً إلى الأجانب للمرة الأولى، وهم بضعة طلاب من بلد صغير وناءٍ إلى درجة لم يكن بمقدوره تخيّل ذلك البلد. وقيل له إن في ذلك البلد توجد أيائل وملك وشيء يسمّى الاشتراكية الديمقراطية.

وهذه القصائد الإحدى عشرة كتبها أبي في السجن بين أكتوبر 2015 وأكتوبر 2017. وكنت قد حصلت عليها منه حين كان يعيش تحت نوع من الاعتقال الخاص تحت السلطة البلدية في نهاية عام 2017.

غادر بكين بعد تخرجه مسافراً إلى السويد بالقطار على شبكة الخطوط الحديدية المارة عبر سيبيريا لمواصلة دراسته في جامعة يوتيبوري. وفي تلك الفترة ألّف عدداً من الكتب باللغة الصينية حول الأساطير الاسكندنافية، وبدأ بدراسة الدكتوراه في جامعة يوتيبوري، لكن أطروحته في التاريخ لم تكتمل أبداً- فقد كان عديم الصبر، كما أخبرني لاحقاً- لكنه لم يتوقف عن الكتابة. كان أبي شخصاً منهمكاً بالكتابة على الدوام، وهكذا عرفته أيضاً. وحين كنتُ طفلة كنت أسمع صوت أزيز طابعته في وقت متأخر من الليل، حين كنت أستيقظ للذهاب إلى الحمام. وفي بعض الأحيان كنت أجد باب غرفة مكتبه موارباً وينبعث منه خط طويل من الضوء الأزرق. كان يجلس في الداخل وسط غيمة من دخان السجائر يرشح منها ضوء شاشة الكمبيوتر.
كانت معظم مقالاته تُلقى في سلة المهملات قبل اكتمالها، تماماً مثل أطروحة الدكتوراه. لم تكن جيدة بما يكفي، كان يقول. وقد حاولت أن أحقق العديد من أحلام المستقبل (فنانة، كاتبة، فيلسوفة) بالكتابة على الجهة الخلفية الفارغة من صفحات أعماله المهملة. حصل أبي على الإقامة الدائمة في السويد بعد المجزرة التي ارتكبتها السلطات الصينية بحقّ الطلاب المعتصمين في ساحة تيانانمين عام 1989. وقد عبر مراراً عن امتنانه لذلك. وبعد أحد عشر عاماً قضاها في السويد، بدا له أن المستقبل سيكون مشرقاً في الصين فعاد إلى هناك ليؤسس شركة تبيع تكنولوجيا تنقية الهواء السويدية؛ لكن تجارته لم تُثمر. ثم انتقل في بداية الألفية الثانية إلى برلين. وقد زرته هناك خلال العطلة المدرسية فعلمني بعض الكلمات الألمانية: تالف، مريض، هراء.
متأثراً بمناخات الانفتاح واتساع نطاق حرية التعبير في الصين، بدأ في تأليف الكتب عن السياسة الصينية لدار النشر نفسها التي ستصبح لاحقاً داره الخاصة. لكن، وعلى الرغم من تفاؤل الكثيرين بدأت موجة التسامح الصيني مع ذوي الأفكار المخالفة بالاضمحلال والتلاشي شيئاً فشيئاً. وفي عام 2008 مُنع أبي من العودة إلى الصين بسبب كتاباته.
وهذه القصائد الإحدى عشرة كتبها أبي في السجن بين أكتوبر 2015 وأكتوبر 2017. وكنت قد حصلت عليها منه حين كان يعيش تحت نوع من الاعتقال الخاص تحت السلطة البلدية في نهاية عام 2017. وحين أعطاني القصائد قال إنه فهم أخيراً السبب في انعدام جودة ما كان يكتبه سابقاً. كان ينبغي لي أن أعثر على صوتي، قال. ومن الغريب حقاً أن يعثر على صوته في المكان نفسه الذي تحرص فيه السلطة على سحق ذلك الصوت، بدلاً من رعايته. قال لي إن من المهم جداً بالنسبة له أن تخرج القصائد وأن تُنشر.
قرأت القصائد وتساءلت كيف سيؤثر نشرها على فرصه في نيل حريته والعودة إلى وطنه. وفي نهاية المطاف توصلتُ إلى ضرورة احترام رغبته؛ أردتُ أن أساعد أبي في تنفيذ قراره الخاص. بدا لي أن ذلك هو الصواب. على الرغم من الطابع الدرامي التاريخي والسياسي الذي يتبدى ضمن إطار هذه القصائد، إلا أنها قد تدفعني إلى التفكير في المقام الأول في كيفية حرص والدي الدائم على تصحيح معلومات أولئك الذين يصفونه بأنه صيني. كان يقاطعهم بالقول: كلا، أنا في الحقيقة سويدي، وذلك على الرغم من أنه لم يعش في السويد سنوات طويلة، وعلى الرغم من عجزه الدائم عن التمييز بين أداتيّ التعريف «إن» و«إت». لقد منحته السويد موطناً حين تلاشى موطنه الأول في الصين.
ربما أتيح له مرة أخرى أن يسمع صوت البحر.
– أنجيلا غوي
تحمل أنجيلا غوي درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة كامبريدج وتكتب في مجلة «كفارتال». وهذا النص هو مقدمة ديوان غوي مينهاي الذي صدر بعنوان «بإصبعي أرسم باباً على الجدار».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية