إنها هجرة، إنه سفر إلى عوالم ليست مجهـــــولة أصلا، ولكن غالبا ما يكذّب لسان حال الواقـــع أشد النظريات تفــــاؤلا واكثر التخمينات بعثا على الارتياح. تأخذ ريشــتي قراء مقال اليوم إلى هذه العوالم التي يمكنها أن تشكل ملاذا آمنا من دون ان تحصننا في الوقت ذاته من ويلات الدهر وعواديه، ولكنها قد تساعدنا على استيساغ صروفه وتحمل تقلباته، التي يصعب على عين إنسان استباقها والتخطيط لها.
تأخذكم ريشتي اليوم إلى احد مفترق طرق ثقافة مشتركة بين الشرق والغرب، أحد أقطاب حوار الحضارات ـ وهنا لا وقع طنان رنان للعبارة يرقّيها، او بالأحرى ينزّلها، إلى مصاف المصطلحات الجوفاء ـ تأخذكم كلماتي اليوم إلى مدينة مرسيليا الفرنسية، التي يحق لها ان تتباهى بمتحفها للحضارات الأوروبية والمتوسطية، ولولا التكرار الفج لغويا لكان الأجدى أن يدعى متحف حضارات أوروبا المتوسطية والمتوسط.
فلحوض المتوسط خاصية فذة، خاصية القاسم المشترك بين الشرق والغرب. إنها نقطة أساسية ليس من الحوار الحضاري فحسب، بل من واقع أشمل أكثر تحديدا للمستقبل وأكثر رسما لملامحه، وهو الهوية الثقافية.
لن تقدم كلماتي زيارة جامعة مانعة للمتحف، فلا بد من السفر إلى عين المكان، إنها رحلة لا تعوض، ولا تعتبروا العبارة إعلانا تجاريا، بل تركيزا على فكرة أنها رحلة لا تعوض بالكلمات، بل لعلها تكتمل بكلمة عن واقع بديهي ينساه الكثيرون: واقع أن الشرق متوسطي وأن الغرب متوسطي أيضا. إن لغة المتوسط لغة الاقتضاء المنطقي والاستخلاص البديهي والتفاعل الضروري. أجل، فلغة المتوسط عبر التاريخ لا تعرف حديثا عن الجزائر من دون حديث عن فرنسا، ولا يطالها حديث عن تونس من دون حديث عن إيطاليا، ولا حديث عن المغرب من دون حديث عن اسبانيا، ولا عن مصر من دون اليونان، والعكس صحيح والبلدان مذكورة على سبيل المثال، وعلاقات الأخذ والعطاء بينها لا يدركها الحصر.
في منتهى المرسى القديم، وهو اسم تحمله احدى اكثر مناطق مرسيليا وجنوب فرنسا ارتيادا، يقف متحف حضارات المتوسط، في صورة بيت زجاجي ضخم من اربعة طوابق قد يتبادر إلى خاطر الشاعر ان يسميه حوضا زجاجيا تتمرأى فيه انعكاسات شمس لا تلبث ان تلامس اشعتها بحرا ينعكس للناظر من خلال الجدار الزجاجي الذي أخذت عنه اللغة كلمة خلال، لتدل على كل ما ينسلّ عبر ثنايا الأشياء والكلمات والأحاسيس.
امكنة تستقبل كل متسلل إليها… تلكم الفتحات التي تدغدغ عين المتفرج فتطلعه على كائن لاواقعي ولاخيالي معا، سمّه وجودا من نسيج الفن، يدع المرء واحدا وليس وحيدا، وجها لوجه مع شساعة بحر مرسيليا، بحر تؤطر المدينة جانبا منه كتبت عليه الجغرافيا ان يمخر في مياه المرسى القديم، الذي صار يكلله المتحف الجديد، بعد أن كان المكان، أكدت لي سيدة مسنة مرسيلية أبا عن جد، وبنبرة سكان المنطقة المدندنة، لا أحد كان يخاطر بالقدوم إليه قبل بناء المتحف…
‘-لا أحد؟’ قلت لها. ‘ولكن ماذا عن سكان مرسيليا؟ ماذا عن المرسيليين الأصليين؟ كيف لم يكونوا يقدمون إلى هنا بينما واحدة من أكثر مناطق مرسيليا شعبية، منطقة البانييه، وهي السلّة بالعربية، تقع على قاب قوسين او ادنى من المتحف؟’.
تملت العجوز فيّ النظر، ثم ابتسمت من دون ان تنبس ببنت شفة…
واضح انها لم ترد ان تبوح بسرها ـ سر المدينة – لعابر سبيل قدّر له حسب ما سمعت ان يغادر المكان إن لم يكن اليوم فغدا او بعد غد.
هكذا في الظاهر… في الظاهر على الأقل.
ارادت السيدة ان تعبر عن فخرها بمدينتها لزائر، مفتعلة شيئا من الحقيقة تماما على صورة الطباع الجنوبي الفرنسي الذي لا يرى غضاضة في تضخيم الأمور..
الطباع الفرنسي الجنوبي؟ بل ليس فقط، فهو أصلا طباع المتوسط.
وجزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية.. وهويتنا المتوسطية المشتركة، أصلا أيضا، هوية مسافرة، تنتقل عدواها إلى أصحابها، أنا مثلا أصبت بالـ’عدوى’ عندما قدمت إلى المغرب صغيرا من أسرة أصولها غير عربية ارادت أن تنتهل من ‘الضفة الأخرى’ كما يقال في فرنسا.
هويتنا الثقافية هوية متوسطية في حل وترحال مستمرين، من أقاصي شرق حوضها إلى أقاصي غربه، من بيروت إلى مرسيليا.. المدينة المنخرطة في واحد من أعظم التبادلات التجارية عبر التاريخ، وهو تبادل تجاري كان طرفه الأساسي.. الشام.
وبينما اخطو خطوات متئدة على الممر الذي ينقلني من المتحف إلى رباط ‘سان جان’، تأتيني بعض من كلمات هذا المقال الذي سأنطلق بكتابته بعد حين، محيطة سر العجوز بهالة من الاحترام، من الاحترام وليس القداسة، فسرّ مرسيليا قابل للفضح، بل واجب فضحه، على من يكون المتوسط متجذرا في صميمه، مكونا مركزيا من كيانه الدفين.
سر مرسيليا هو سر انعكاس الجغرافية في التاريخ، والتاريخ في الجغرافيا، هنا تجد السر الحقيقي، السر الذي يتسع لسر السيدة العجوز واسرار باقي سكان مرسيليا الأصليين، ولكن أيضا لأسرار أبناء المتوسط، فكلهم أبناء متحف حضارات المتوسط، شرقا وغربا، وأبناء حي المرسى القديم و’حي السلّة’ الشعبي.
إنهم أبناء الشعب، شعب المتوسط، وعبرهم يوجه حوار الحضارات للعالم ، أنشودة لا نريدها تغريدة خارج السرب.
‘ باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
لا أصدّق أن الكاتب ليس عربيّاً!هذا الإحساس باللغة!عجيب! اللغة سرّ أودعه الله في الإنسان!
شكرا لك سيدي الكريم لقد استطعت بروعة ريشتك ان تنتقل بنا من ضيق الحدود الوطنية الى متسع و افاق المتوسط