إذا اعتبرنا «حماسة» الشاعر الشاهق أبي تمام أنطولوجيا، وهي كذلك لأنها مصدر مهم من مصادر التراث، إذ حوت مادة شعرية نادرة، فضلا عن المعروف والمكرس، وأحيت شاعرات وشعراء كان قد توفاهم النقد بعدم ذكرهم، مثلها مثل «المفضليات» للمفضل الضبي، و«الأصمعيات» للأصمعي، و«طبقات فحول الشعراء» لابن سلام الجمحي، و« لشعر والشعراء» لابن قتيبة… فالمقطوع به ــ ككل أنطولوجيا ـ أن الذائقة الفنية الشخصية، والمرجعية المعرفية، والاستعداد النفسي، هي السيد والمهيمن، والموجه للاختيار والانتقاء، والاصطفاء.
حيث إن الأنطولوجي ـ إذا جاز التعبير ـ يضع مقاييس ومعايير جمالية تكون بمثابة الهادي والملهم لما يختار وينتخب. أما تلك المقاييس والمعايير فليست غير ثمرة وحصاد مقروءاته التي نضجت، وأتت أكلها في ظل شروط وسياقات تَحَكَّمَ فيها توجيه ما، وسطوة معرفية ما، أملتْ طريقها وأسلوبها في قراءة هذا من دون ذاك، والانحياز إلى كتب بعينها، ومجانفة أخرى حتى وإن كانت أعلى كعبا، وأسمى موضوعا، ومحتوى ومعرفة.
ومن ثَمَّ، فإن كثيرا من الشعراء غير المدرجين في كتب أنطولوجية، أو كتب مختارات، ومنتخبات شعرية، يشعرون بالغبن والضيم، والإساءة إلى منتوجهم الإبداعي. ويظنون أنهم إنما كانوا محط انتقاص وتبخيس ما أدى إلى إسقاطهم من الأنطولوجيا، أو إقصائهم منها على أساس ما سولت لهم أنفسهم. والحق أقول: إن أكثر الأنطولوجيات الشعرية لا تفعل ذلك، وتتقصده ظلما وعدوانا، لأن واقعة العمل وتفسيره، وطبيعته، انتخابية وانتقائية بعيدا عن المفاضلة، ومقياس الفحولة والتجويد والإجادة، لكن قريبا من الذوق الشخصي، والمزاج النفسي، والاختيار الذاتي.
وهي «مبادرات» نفسية داخلية تجد تفسيرها ـ إن أمكن ـ في ترجيح هذا الأسلوب دون ذاك، وهذه الشعرية دون تلك، لأنها لقيت استجابة وترحابا، ورضا في «عقل» ووجدان المصْطَفي الأنطولوجي. ومع ذلك، فإن بعضها، بعض الأنطولوجيات تذهب عمداً إلى إعدام أسماء، وتكريس أخرى، وَفْقاً لحسابات خاصة لا علاقة لها، البتة، برداءة الإبداع، أو هزال الشعر، وانكماش رؤيته، وشحوب لغته، ويبوسة خياله.
مناسبة هذا الكلام، هو ما استوقفنا ونحن نعيد قراءة كتاب «الحماسة» للشاعر العظيم أبي تمام.
ولست أضيف جديدا إنْ قلت إنَّ «الحماسة» أوسعت صدرها لشعراء وشاعرات من مختلف العصور، و«الحساسيات»، والتوجهات، طبعا، ضمن الأغراض الشعرية التقليدية، مركزة ـ بالأساس ـ على المقطوعات الشعرية أو المُقَطَّعات، لا القصائد الطوال، المسمطات العصماوات. وأنها أفسحت المجال أمام شعراء عُدُّوا من قِبَلِ «النقد الأصولي» غير فحول ولا مجيدين. ما يعني أنها أماطت اللثام عن أسماء لشاعرات وشعراء لم يذكروا من قبل أن يخرجهم، من البلى والنسيان، صنيعُ أبي تمام. ولم يتسموا، ويدخلوا «جنة» الحالمين أو «جحيم» الشياطين، أو نادي الملاعين المغضوب عليهم. لأن حال الشعر هي هذه الحال: حال «اللّمْبو»، و«البرزخ». حال المقيم بين الجنة والجحيم، وبين السخط والرضا، وبين الانطفاء والاشتعال.
وللبرهنة على أن الأنطولوجيا انتقائية اصطفائية، تكرس تجربة شعرية دون أخرى، لا لعداوة أو بغضاء حيال المقصي أو المطروق باحتشام كما فعل أبو تمام مع شعراء طبقت شهرتهم الآفاق في الغزل مثلا. إذ أعلى من كعب شاعر يدعى عبد الله بن الدمينة صاحب أميمة، حين خصه بحصة الأسد، حيث اختار له في باب النسيب والتشبيب اثنين وثلاثين بيتا شعريا موزعا على ست مقطوعات. وهي حصة لم يحظَ بها أي شاعر آخر من شعراء الغزل. بل إن أبا تمام لم يختر من غزل عمر بن أبي ربيعة، وهو من هو في هذا الباب، سوى أربعة أبيات من عينيته الذائعة التي يستهلها بقوله:
ألمْ تسألِ الأطلالَ والمُتَرَبَّعا/ ببطن حُلَيَّاتٍ، دوارسَ بَلْقَعا
كما أنه لم ينتخب من غزل جميل بن معمر، سوى ثمانية أبيات في ثلاث مقطوعات. زد على ذلك، أنه «أقصى» كلا من عروة بن حزام، وقيس بن ذريح، فلم يَرِدا في حماسته.
ولنا أن نقيس فعلة الشاعر في الغزل بفعلته في أغراض شعرية أخرى حيث أظهر من طابت إليه نفسه، ووقع في رضاه، وحل حلوا سائغا على ذائقته، و«أخفى» أسماء شعرية ذات صولة وصيت في تلك الأغراض مجتمعة أو متفرقة.
والمقال يضيق عن إيراد أمثلة وافية على ذلك. حسبنا أن نشير ثانية إلى، ونذكر بخاصية الأنطولوجيا، وبجملة الأسباب والدوافع التي تتحكم في الاختيار والانتخاب. فقد نزيد أسبابا أخرى تتمثل في كون الأنطولوجيِّ، وليكن المفضل الضَّبي، أو الأصمعي، أو البحتري، أو أبا تمام، يريد ـ في المضمر أو المعلن ـ توجيه التلقي إلى تلك الشعريات»المنتقاة»، أو تكريس من لم يكرس بعد، أو إطفاء نور شاعر أو شاعرة حظيا بالمتابعة والقراءة والافتتان. أو فقط، كما أسلفنا، لوضع ذائقته الأدبية، ومقياسه الجمالي الشخصي، على محك التلقي النقدي أوّلا بأول، ورَدّات الفعل المادحة والقادحة، ثانيا بثانٍ.
وفي كل هذا، فإن واضع الأنطولوجيا هو من يتحمل «جريرة» صنيعه، و«ذنب» فعلته، أمام ضميره، وأمام الملأ والنخبة الثقافية بعامة، وأمام التاريخ في البدء والختام.
*كاتب من المغرب
الأستاذ محمد بودويك : شكرًا لأختيارك موضوع المقال…لقد اخترت شيخ الشعراء بحقّ ؛ كيف لا وهو أبو تمام الطائيّ ثالث ثلاثة : امرؤ القيس والمتنبي وأبوتمام.ألا ترى إلى قوله كأنّه صورة قد جمعت بين مزن السّماء وأرض نجد الدهناء ؛ مع شوق المحبّ الذي لا يطيل عندهم البقـــاء : { إنْ حنّ نجد وأهلوه إليك فقد…….مررت فيه ؛ مرور العارض الهطلِ }؟ منْ لم يقرأ لأبي تمام سيبقى في ( محاق ) الشاعريّة حتى يبلغ البدر ليلة التمام.
جميل هذا العرض لحماسة أبي تمام .