منذ زلزال السابع من أكتوبر، جاء وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن إلى المنطقة أربع مرات، وهذا يدل على الهلع الذي أصيبت به الإمبريالية الأمريكية بسبب ما لحق مشروعها الاستيطاني من اهتزازات عميقة. وبعد أن سارع رئيس الإمبريالية جو بايدن، وأعلن أن إسرائيل، في استخدامها قوة تدميرية هائلة على السكان المدنيين، تمارس حق الدفاع عن النفس، جاء بلينكن في زيارته الأولى، وعند وصوله إلى مطار اللد، قال إنه جاء كيهودي، وليس كمسؤول أمريكي. وصدقاً، استبشرت خيراً حين سمعته يقول ذلك وظننته مثل آلاف اليهود الشرفاء الذين تظاهروا في قلب نيويورك وواشنطن، أي أنه مثلهم، جاء يحمل قيم الدين اليهودي المنافية للعنف والقتل والتدمير، لاسيما وأنه دين ولد في الشرق ويحمل مواصفاته الإنسانية، إلاّ أنه، وبسرعة فائقة، كشف عن وجهه الإمبريالي وراح يطمئن نتنياهو أن لإسرائيل حق الدفاع عن النفس، ولا يوافق على وقف إطلاق النار، وهكذا اتضح أن الصهيوني اليهودي كان يردد ما سبق أن قاله سيده الصهيوني المسيحي.
وتمسك بلينكن بمقولة حق إسرائيل في الدفاع عن النفس في كل زيارة للمنطقة، وفي لقاءاته الصحافية، وأغفل تماماً ما كانت تفعله آلة الحرب الإسرائيلية في قطاع غزه من قتل وتدمير متوحش. وفي الزيارة الرابعة، التي تمت بتاريخ 4/11/2023، وعقد في ختامها مؤتمراً صحافياً في عمان بحضور وزير الخارجية الأردني ونظيره المصري، وحين كرر المقولة نفسها، رد عليه أيمن الصفدي بعنف وبشجاعة قائلاً، إن المطلوب فوراً هو وقف آلة الدمار الإسرائيلي وليس تكرار حق الدفاع عن النفس، الذي لا أساس له من الصحة. وقد سمع من الوزير المصري كلاماً مماثلاً، وهكذا تلقى بلينكن صفعتين من أقرب الدبلوماسيين إلى الولايات المتحدة، وغادر بلينكن الأردن ممتعضاً لاختلاف وجهات النظر.
على بلينكن أن يعلم أنه، بمعارضته وقف إطلاق النار، يعتبر «محرضاً» على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وبالتالي يصبح شريكاً في هذه الجريمة
وللعلم، فإن ما يردده الصهيوني المسيحي والصهيوني اليهودي من حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، هو مقولة باطلة بطلاناً مطلقاً من الناحية القانونية، ويتم استخدامها من قبل الصهاينة بنوعيهما، استخداماً اعتباطياً لفقدان أي تبرير آخر، أو لشطب الحق في المقاومة الوطنية، وفي ذلك قالت محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري الصادر عام 2004 (قضية الجدار) إن القول باستخدام حق الدفاع عن النفس يكون مقبولاً حين تأتي قوات أجنبية بكل عدتها وعديدها إلى الدولة المستهدفة بقصد إسقاطها واحتلالها، أي أن الادعاء بحق الدفاع عن النفس لدولة احتلال غير وارد ابتداءً. وفي حالة الأراضي الفلسطينية المحتلة، فإن قوات المقاومة تأتي من مناطق تقع تحت السيطرة الإسرائيلية الفعلية، أي لا توجد قوات أجنبية اخترقت الحدود. إن قوات المقاومة الفلسطينية نبت فلسطيني خالص كالزعتر والزيتون.
أما في زيارته الأخيرة إلى اليابان، فقد بدأت تظهر على بلينكن أعراض البلوغ والرشد السياسي، فقد اكتشف أثناء توقفه في نيودلهي أن هناك «أعداداً كبيرة من الفلسطينيين قد قتلوا» في الحرب الدائرة في غزة، وأن هناك ضرورة لإدخال المساعدات الإنسانية، ومرة أخرى استبشرت خيراً أن الوزير بدأ يرى المحرقة، لكنه بالكاد غادر ملابسه، إذ إنه راح يمدح إسرائيل ويقدر لها موقفها بالموافقة على وقف جريمة القصف، لأربع ساعات فقط وهي لا تكفي لتضميد جراح طفل احترق بالفسفور، حيث إنه ما زال متمسكاً بأن الوقف الشامل لإطلاق النار سوف يمنح حماس فرصة لالتقاط أنفاسها (وهي مقولة نتنياهو ذاتها) ولم يشعر بأن الناس المدنيين، وليس حماس، هم الذين فقدوا أنفاسهم قبل عائلاتهم.. لم يلحظ بلينكن أن الإعلان الرسمي لسلطة الاحتلال قبل أن تباشر محرقتها ضد أهالي غزة ورد فيه، وعلى لسان وزير الحرب الإسرائيلي، باعتباره أعلى مرجع مسؤول عن الأراضي الفلسطينية المحتلة قال: «نحن نفرض حصاراً كاملاً على غزه، لا كهرباء، ولا ماء، ولا أكل، ولا وقود – كل شيء مغلق. نحن نحارب حيوانات بشرية، وسوف نتصرف على هذا الأساس». وعلى السيد بلينكن أن يتصور منزلاً دون ماء أو كهرباء أو طعام أو وقود. وفي حكم لمحكمة العدل الدولية (كرواتيا ضد صربيا) قالت إن قطع الكهرباء والدواء والماء هي عناصر من مكونات جريمة الإبادة. وعلى سند من ذلك القرار، فإننا بصدد جريمة إبادة كاملة الأوصاف والأركان. وعلى بلينكن أن يعلم أنه، بمعارضته وقف إطلاق النار، يعتبر «محرضاً» على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وبالتالي يصبح شريكاً في هذه الجريمة. بلينكن يعلم أن بلاده وقّعت على الاتفاقية الدولية الخاصة بمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها بتاريخ 11/12/1948، وصادقت عليها في 25/11/1988. والاتفاقية تفرض على الدول الأطراف منع وقوع جريمة الإبادة، بينما يقوم هو بتبرير الإبادة الجماعية وذلك بمنع وقف إطلاق النار، فضلاً عن الدعم العسكري والمادي لإسرائيل.
ويؤطر وزير الحرب الإسرائيلي جريمته بجريمة أشدّ فظاظة حين يصف البشر بـ»الحيوانات البشرية» وهو بذلك يمهّد لنزع الإنسانية عن ضحاياه، لكي يستمرئ بالدم واللحم، ولا بد أن بلينكن يعلم، بحكم علمه وثقافته الصهيونية، أن البروفيسور ريتشارد ميللر سجل في كتابه «العدالة النازية» الصادر عام 1995 «أن الضرورة لقتل كل اليهود تصبح أسهل اذا اعتقدنا انهم ليسوا بشراً». وهذا ينطبق تماماً على ما يقوله وزير الحرب الصهيوني الذي يلقى تأييد بلينكن. ولا شك في أن وزير الحرب نقل هذا التعبير إلى قواته وهو يشحنها قبل إطلاقها من عقالها، لكي تستمرئ تلك القوات بدم الضحايا وتتلذذ باللحم البشري الذي تطحنه طائراته ومدرعاته. إن القوات الإسرائيلية لا تشعر بالخجل، أو الندم فهي تطحن «حيوانات بشرية» وهي تعابير يثقف بها القائد قواته قبل أن يطلقها باتجاه ضحاياه. ولا بدّ أن بلينكن كان على بيّنةٍ من هذا التثقيف، وعلى دراية بما استقرّ في عقل وزير الحرب الإسرائيلي وشكّل قناعاته وعقيدته. ويجب أن لا يستغرب أحد من هذا الاعتقاد فهما ينهلان من العقيدة الصهيونية ذاتها، التي عبّر عنها بن غوريون بقوله إن مصير «الشعب اليهودي» متوقف على «أن يظل الشعب المختار». بهذا الاستعلاء القومي تزدهر صهيونية بلينكن ويستباح الدم الفلسطيني.
محام وكاتب فلسطيني