انفتح الباب. خرج الشيخُ يشَيِّعُه نور الدين زنكي. نصفُ الليل مضى عليهم يتداولون أمر «المدرسة النورية» التي أمر بإنشائها زنكي فور دخوله دمشق مظفرا. مَن مثلَ ابنِ عساكرَ يكونُ قائما عليها. بلغا البوابة، وغادر شيخ المحَدِّثين يسوق مطيتَه رجلٌ من الحرَس. عاد زنكي إلى المضافة ليجد ثالثهما قد غلبه النوم. مكث زنكي يتأمل أسامة بن منقذ نائما كطفل صغير غارت عيناه باكرا. رق لحاله. المسكين. تيتم في شيخوخته. كل آل ابن منقذ هلكوا في زلزال هدّ عليهم حصنهم «شيزر» بينما هم في وليمة. لم ينج منهم إلا أسامة بفضل الغياب، أو بسببه. حار المسكين هل يشكر الغياب الذي أنجاه، أم يذمه حين منعه من أن يرافق الأحباب إلى الدار الآخرة. كان زنكي يسمعُه من حين لآخر يتمثل ببيت شعر يتيم:
وإن تعِش تُفجعْ بالأحبةِ كلهم
وذهابُ نفسك لا أبَا لك أفجعُ
كان يومَ الزلزال سفيرا في «مملكة أورشليم» عن إمارة أبيه، وكأنما دفن الزلزال أوراق اعتماده. سفيرٌ وسِفرٌ كبير، بل خزانة أسفار من التجارب والأدب والحكمة. تبسم زنكي وهو يتأمل ابن منقذ. تذكر آخر ما حكى له قبيل حضور ابن عساكر عن طرائفَ وقعت له أثناء سفارته. كان يصلي العصر يوما عند قبة الصخرة فقطع عليه أحد الفرنجة صلاته بعنف البدو وقال له: «هل تريد أن أريك الله صغيرا؟» أخفى أسامة تعجبه وقال: «أرني!» فقاده الإفرنجي إلى جدار نُقِشت فيه صورة السيدة مريم وفي حجرها المسيح عليه السلام رضيعا، فقال له: «هذا الله في صغره» لم يتفوه ابن منقذ بكلمة في أمور العقائد اتقاءً لحمية الإفرنج وتساهلهم في سفك الدماء..
خشية أن يَطردَ عنه نومَه العنيد، ترك زنكي أسامة كما هو وانصرف إلى مضجعه. ما إن حط رأسه حتى صار يطرقه طرقا حال مدن الشام الممزقة بين أيدي الفِرنجة. حتى نصارى الشام اكتووا بنارهم. العربي آخر وعدو، مسلما كان أو نصرانيا. تحركت شفتاه بالمناجاة:» إلهي كيف تحرير الشام وهو شِمال بيتك الحرام كما اليمنُ يمينه؟ كيف توحيده وقد صار كالعجين الفطير إن جمعته من جانب انفطر من الآخر وانفرط؟ آه.. يا إلهي.. الواجبات أكثر من الأوقات وأكبر من الأعمار، فما واجبُ الوقت يا إلهي؟ ما واجبُ الوقت؟». فأخذته أمنة من نوم وقد ارتسمت على وجهه بسمة غريبة. ثم هبّ مذعورا من نومه يسأل الله من خير ما رأى ويتعوذ من شره. ثم عاد ليضع رأسه، فإذا به يفيق مذعورا من جديد، فعصاه النومُ بعدها. قصد ضيفه ابنَ منقذ لعل لديه علما بتأويل الأحلام. انتفض ابن منقذ من مكانه كأنه استيقظ استيقاظا مضاعفا، ومسح النوم عن عينيه..
«- ما الخطب يا سيدي؟
« لقد رأيت الليلة عجبا .. رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وهو يقول لي في كل مرة: «يا محمود أنقذني من هذين» وأشار إلى رجلين أشقرين أمامه.. فقلت له يا سيدي يا رسول الله «والشام كيف أنقذه؟ فقال لي مبتسما: «أنقذني أولا». اغرورقت عينا أسامة وقال بدون روية: «هناك أمرٌ يُدبَّر بليل في مدينة رسول الله يا سيدي وقد استغاث بك».
أمر زنكي وزيره أن يجهز عشرين من خيرة فرسانه ليرافقوه، ومعهم بعضُ الرواحل تحمل الهدايا والعطايا، وعَمَّى عن وجهته. انطلقوا قبيل الفجر ينهبون الأرض نهبا وهي تطوى لهم كطي جيش سليمان، حتى وصلوا المدينة في أيام معدودة. كان زنكي يشعر بنفسه محمولا على جناحي هجرة ونصرة أبديتين ممتدين بين الغيب والشهادة. وعند باب المدينة ترجل زنكي ومن معه حياءً أن تدوس خيلهم ترابا يواري الجسد المحمدي الشريف. أتى زنكي المسجد وصلى في الروضة المطهرة. سأل القائمين عن أحوال الناس. كل الأمور على ما يرام. فيما يبدو. ألقت الدواب أحمالها. ونادى منادٍ أن الأمير زنكي يريد أن يحيي رحم الإسلام ويُكرمَ أحفاد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. ومَن جاورهم. هم القوم لا يشقى جارهم. ولا يُستثنى أحدٌ، زائرا أو مقيما، غنيا أو فقيرا. فاستبشر الناس وانبسطوا للعطاء. الوجود ينفعل بالجود، وحتى البحر يحب المزيد ويضم ماء الأنهار إلى مائه.
جلس زنكي في صدر المسجد وكلما دخل عليه فوج أطال الكلام معهم، عسى يلوح شيء من تأويل رؤياه التي أتت به يشق أكباد الخيل. جماعاتٍ وفرادى تعاقب أهل المدينة على مجلسه حتى أعياه النظر وكاد يطمئن. لولا أنه سأل في آخر لحظة أحدَ القائمين إن كان بقي أحد لم ينل من عطاياه: «نعم سيدي بقي رجلان في خلوة منذ فترة، يبدو أنهما من أهل التجريد والزهد.. هما من الأندلس، نزلا في إحدى حجرات دار آل عمر بن الخطاب اللصيقة بالمسجد من ناحية القبلة، ولكن لا أظنهما يقبلان صدقة أو عطاء.. بل هما مرارا أطعما الناس.. ما رأينا مثل كرمهما وحسن جوارهما».
رجلين! ترى هل حان تأويل الرؤيا وفك اللغز؟
«- عليّ بهما.. الآن»
قدم الرجلان تحت الإلحاح بخطى متثاقلة، كأنها تحمل قيودا خفية. وكاد يُغشى على زنكي حين التقت العين بالعين. إنهما الأشقران اللذان أراهما إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رؤيا كفلق الصبح..
«- كيف حالكما؟
– في نعمة يا سيدي منذ جاورنا خير الخلق»
غمغم زنكي ثم قال بحزم:
«- مممم … خير الخلق! هيا .. من أنتما حقيقة؟ وما وراءكما؟»
حينها انمحى عن وجه زنكي خشوعُ المحراب وارتسمت غضبة الحروب والمعارك. أمر بهما أن يُحبسا في زاوية حتى يقرّا. لا بد أن يُقرَّا، وعلى ملأ حتى تثبت الحجة بالعلم لا بمجرد الحُلم. انهار الرجلان ولم يجدا بدا من الكلام.. كانا من الإفرنج لا من مسلمي الأندلس، أتوا من الشام وموهوا بالتعريج على مصر وكذا وكذا وكذا. كان الحضور يسمعون أقوالهما في ذهول مضاعف، من مخططهما ومن مكاشفة الأمير بأمرهما على بعد آلاف الأميال. ثم انتقل زنكي وجنوده ووجوه أهل المدينة إلى معاينة مسكنهما. في إحدى زواياه وجدوا نفقا كانا يحفرانه منذ زمن للوصول إلى مضجع النبي وصاحبيه، ليعبثا به أو يسرقا الجسد الشريف. لولا أن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. قامت الحجة وأسلمهما زنكي للسيف. ثم أمر ببناء سور حول المسجد تكون قاعدته عميقةً يُصبُّ فيها المعدن أولا، حتى لا تنقبَ ولا تخرق أبدا.. لما قرت عيناه بما رأى وفعل، عاد إلى دمشق.. فأخذت قلاعُ الشام تسقط طوع يده الواحدة تلو الأخرى. وأرسل قائده الكردي شِيركُوه مع ابن أخيه صلاح الدين يوسف، ففتحا عسقلان ثم غزة، ثم دخلا مصر وضماها إلى دولة زنكي، فلم يبق إلا إنقاذ بيت المقدس ومحو «مملكة أورشليم»..
٭ قاص من المغرب
شكرا السيد رضا نازه.حكاية رائعة ذات مغزى.واصل.
Belle histoire et belle illustration دمت متألقا سيدي رضا
ما أحوجنا إلى مثل هذه القصص