أنيز كولتز… الشاعرة التي لا تزعج الصمت

عبدالرحيم نورالدين
حجم الخط
0

أنيز كولتز الحائزة سنة 2018 جائزة غونكور للشعر عن منجزها الشعري، شاعرة من دوقية لوكسمبورغ الكبرى، حيث ولدت في 1928. أصولها العائلية متشعبة إذ يمتزج فيها ما هو تشيكي بما هو ألماني وبلجيكي وإنكليزي. أنيز كولتز كاتبة ومترجمة لكنها معروفة أكثر كشاعرة. أسست «الأيام الأدبية» لمندورف سنة 1962 ثم عادت لتجديد حيويتها سنة 1995؛ و»الأكاديمية الأوروبية للشعر» التي رأت النور في 1996 بمبادرة من الشاعر الفرنسي آلان بوسكي، التي تشغل فيها منذ 2008 منصب رئيسة شرفية. وهي كذلك عضو أكاديمية مالارميه (التي كان من بين مؤسسيها عام 1937 بول فاليري، وكان أيضا من بين أعضائها السابقين ليوبولد سيدار سنغور، وعبد اللطيف اللعبي وطاهر بن جلون).
بدأت الكتابة ونشرت باللغة الألمانية، لكن بعد وفاة زوجها سنة 1971 بسبب آثار المعاناة وسوء المعاملة التي تعرض لها في معسكرات الاعتقال النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وانتقاما له، انتقلت إلى التحرير باللغة الفرنسية لتصبح من الأصوات الشعرية الفرنكفونية المرموقة حاليا. نشرت كولتز أول ديوان سنة 1960، ثم توالت إصداراتها التي حازت العديد من الجوائز الوطنية والعالمية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، حازت سنة 1962 جائزة لوكسمبورغ، وفي سنة 1981 جائزة كلود سيري، كما حصلت على جائزة جون مالريوه سنة 1991 ، وفازت بجائزة بليز سندرار عام 1992 ، وأعطتها الأكاديمية الملكية البلجيكية جائزتها في 1994، ونالت سنة 1998 جائزة أبولينير، وعن ديوانها «موضع الكلمات الآخر» حصلت على جائزة سيرفي في 2008 ، أما جائزة تيوفيل غوتيي فكانت من نصيبها سنة 2011.
أنيز كولتز كاتبة متعددة ومترجمة ألفت كتبا للأطفال، وساهمت بمقالاتها في العديد من المجلات، كما جمعتها صداقات بعدد من الكتاب الكبار كهرمان هيسه وآلان بوسكي، تبادلت معهم مراسلات كثيرة. هي أيضا مبدعة ملتزمة دعمت حقوق الإنسان وساندت الشعراء المضطهدين وضحايا الكوارث والأزمات. سبق لها أن كتبت بهذا الخصوص: «التضامن مع جميع من يعارضون، ذلك هو معنى التزامي في الشعر. وإذا كان الشعر لا يستطيع تغيير العالم، إلا أنه يساعد الإنسان على العيش». جدير بالذكر أيضا أنها كانت دوما معارضة لأيديولوجيا الكنيسة المسيحية التي واجهت خطابها بأشعار مخلخلة لا تخلو من نقد وتقريع.
«في مسالخ الكنيسة/ يحولوننا/ إلى عقبان/ نفترس/ جسد يسوع/ غاطسين أعناقنا/ في دمه/ بعنف غير معلن»
واظبت أنيز كولتز خلال حياتها الحافلة بالإبداع على كتابة الشعر وإصداره في دواوين مميزة يمكن الإشارة إلى عناوين بعضها كالتالي: «حلقة الشمس» (1966)، «شخص ما قادم» (1970)، «شذرات من بابل» (1974)، «تصعد الأرض» (1980)، «جدار الصوت» (1997)،»الجنة تحترق» (1998)، «تصمت الأرض» (1999)، «حامل الظل» (2001)، «موضع الكلمات الآخر» (2007)، «القمر المُسود» (2009)، «سأولد من جديد» (2011)، «شموس صلعاوات» (2012)، «مجرات داخلية» (2013)، «عالم من الأحجار» (2015)، «مستعجلةٌ الحياة « (2018)، وأصدرت دار غاليمار سنة 2016 أَنطولوجيا شعرية ضمت مختارات من شعر كولتز جاءت بعنوان «مسرنم النهار، قصائد مختارة»، وهي التي توجت بالجائزة الأخيرة.
لم تؤمن أنيز كولتز يوما بخرافة تراجع الشعر وانتحاره، بل تابعت مسيرتها مسترشدة بما قال تريستان تزارا عنها: «شعرها شيء مسروق من المستقبل، لا نعرف كيفية اشتغاله. «وإذا ما سلمنا بما جاء على لسان الفيلسوف إدغار موران من أن «مستقبل الشعر يوجد في أصله ذاته. ما هو هذا الأصل؟ إنه صعب الإدراك. إنه يضيع في الأعماق الإنسانية»، فإنه من المنطقي أن نتفق مع تصور الشاعرة للشعر كتعبير بالعقل وبالأحشاء عن الذاتية، وكتحد للزمن وارتماء في المستقبل. تقول كولتز: «هل تريد معرفة العين/ التي تنبع منها قصائدي/ ليس ثمة سوى فوهة بركان/ تكسوها أحجار منثورة/ عين ملاك مخلوع/ بنظرة منفرجة/ يسهرُ ليل نهار./ كل من يقترب/ يُلتهم نيئا/ ووحده الشَّعر سيُستفرغ»
وفي ديوان آخر: «هناك حيث عباراتي معلقة/ لِتَجف/ أهدمُ/ أجددُ صورتي/ على الدوام/ منذ الآن/ أُكَونُ جوهرا جديدا/ لمواجهة الأبدية البربرية».
ينتج الكائن البشري – بحسب إدغار موران «لغتين انطلاقا من لسانه: لغة هي اللغة العقلية، الأمبريقية، العملية، التقنية؛ اللغة الأخرى رمزية، أسطورية، سحرية. الأولى تميل إلى التدقيق والتأشير والتعريف، إنها تعتمد المنطق وتحاول موضعة ما تتحدث عنه. اللغة الثانية تستعمل بالأحرى الإيحاءات والمماثلة والاستعارة، أي هالة الدلالات التي تحيط بكل كلمة وبكل منطوق، وتحاول ترجمة حقيقة الذاتية». ينتمي الشعر إذن إلى اللغة الثانية التي تستهدف التعبير عن حقيقة الذاتية، لكنه لا يحل في المرتبة الثانية كما قد يعتقد. ويرى الناقد الفرنسي ميشيل دولاكونتيي أن التقليد يضع الشعر – حيث تتعايش عدة أمزجة – في قمة اللغة. تقول الشاعرة أنيز:
«قصيدتي مقصورة/ أخلع فيها ملابسي/ ستارة سميكة تفصلني عن العالم الخارجي
في مواجهة جسدي الذابل/ أتصور إمكانيات أخرى للحياة/ أرسم دوائر في السماء/ مع الصقور/ أرى العالم من فوق ثم أتحول إلى صحراء/ حيث تمتزج الحياة والموت/ وحيث رمال رحيمة/ ستغطيني أخيرا».

إن شعر كولتز، رغم تواضع صاحبته، حاول الإمساك بالعالم، وإنجاز مهمة الشعر الروحية، التي حددها مالارميه في التعبير عن لغز الوجود. وحتى لو كان الشعر غير قادر عن تغيير العالم، فإنه، كما تقول، «يستطيع على الأقل أن يحيا حياته كقصيدة».

لا يعني ما سبق أن كولتز تستعرض ذاتها، بل إنها تتوارى تاركة الأنا الشاعرة تعبر عن القلق المستمر الذي يسكن الهوية: «مجرات/ تعبرني/ دون أن تعي/موتي مطفأة منذ آلاف السنين/ صورتي/ نسيتْ/ من كنتُ». وفي قصيدة أخرى تصر كولتز على ربط فعل الكتابة باستحالة بلوغ المرء غايته بمفرده، وبضرورة التجاوز والإبداع:
«أنا مستحيل/ الممكن/ دمي هو الحبر
إذا قمت برسم شجرة/ فإنها تنمو تحت قلمي
إذا قمت برسم النار/فإن ورقتي تشتعل
تحفر عيناي المسافة/ أخترعُ/ حاضرا آخر
أمشي/ أذهب بعيدا/ كي لا أدرك غايتي أبدا
سوف يُنهي شبيهي/ مساري»
وكما يلاحظ، فالكاتبة اللوكسمبورغية التي قال عنها برنار بيفو إنها «شاعرة كبيرة ورائعة»، تمارس التنقيب عن الكلمات والتعابير والدلالات كمن يبحث عن الذهب أو الجواهر، وعندما تجد ضالتها تنكب على نقشها وترصيعها. إن قصائدها القصيرة، المعبرة عن الحب والمعاناة والموت، ومواضيع أخرى شتى، شبيهة بقصائد الهايكو، بدون أن تحاكي تقليد الهايكو. إنها أنهار متدفقة من الشعر، تبدو هادئة في انسيابها لكنها تخفي الاهتزازات وتلاطم الأمواج والعواصف. «أنهض/ بعنف عاصف/ أطرد الأنهار من مجاريها/ وأجعل/ الأقمار والشموس/ تهتز/ ومثل إله مفكك/ أصطدم بجدران/ ذاكرة/ العالم».
كل قصيدة من قصائدها هي برق لكنه ليس عابرا وسريع الزوال. كما أن لغتها العميقة النابعة من أعماق الذات الضاربة أعماقها في كل الشعر، لا تكف عن التصريح بانتمائها الفني وتشبثها بالأرض:
«كل قصيدة/ أكتبها/ هي موجودة منذ القدم
مسافرة مع الضوء/ ألتقطها/ وأجعلها تترنح/ مع نبات الحقل
وفي «جميع القصائد»:
«لا تكون القصيدة وحيدة أبدا/ إنها تحمل معها/ كافة القصائد/ منذ بداية/ الزمان».
في دواوين تعرض جمالها في أناقة نادرة، واصلت كولتز مسارها كشاعرة وعرفت كيف تفرض نفسها في ساحة القريض، بهدوء وثقة في قدرتها على الإبداع النفيس، مستدعية للمثول أمام محكمتها كل أشكال الاضطهاد والميز ومصادرة الرأي المخالف. لم تركز على ثيمة واحدة في كتابتها، وإنما فتحت صدر أبياتها للطبيعة وحب الحياة، وللزمان وقلق الموت، وللتاريخ وقضية الهوية، وللعاطفة والعلاقة مع الأم، وللتفكير في اللغة والكتابة وتعريف الشعر، وللوضع البشري والعلاقة بالدين، إلخ. وجدير بالذكر أن جل دواوينها تنقل للقارئ القلق الناجم عن العجز عن قول ما هو جوهري، وعن عدم القدرة عن الإمساك بواقع منفلت باستمرار. إلا أنها تعتبر مع ذلك، أن اللغة الشعرية تبقى الوسيلة الأفضل للتعبير الجمالي عن تجربة العالم وتقاسمها، وإن لم يكن الشعر (جان بيير سميون) ولا الجمال (دوستويفسكي) هو ما سينقد العالم. تقول في إحدى قصائدها:
«من يبرؤني من الجرائم/ المقترفة في أثناء أحلامي/ عشت الحرب العالمية الثانية
حاربت/ في العراق/ وأفغانستان/ وسوريا
في كل هذه الأمكنة/ كررت/ فضائع زماني».
هل من خلاص؟ إذا كان المقصود ما يقترحه الخطاب الديني المسيحي، فإن خيبة أمل الإنسان ستطول:
« نحمل مصير كلمات/ السماء والجحيم
كلمات الشمال ملفوفة في فراءات/ الرنة
كلمات الجنوب/ منتفخة بأشعة الشمس الحارقة
في نصفي الأرض هذين/ الرب والشيطان/ تاها/ الفجر بدون أنبياء».
إن الغنائية التي تلمس في أشعار أنيز كولتز، لا تتناقض مع تنديدها بالشر والعنف اللذين يعج بهما العالم؛ فإذا كانت تتحمل مسؤولية انتمائها إلى الجنس المؤذي: «أنزع أحشاء الحقل/ لأزرعه/ أقطع رأس الحيوان/ لأشرب/ أعيش بدم/ يلطخ يداي/ الموت يربطني/ بأمثالي/ أنتمي إلى جنس/ الإنسان المؤذي». فإنها لا تستسلم: «ينتمي شعري إلى/ حرب عصابات اللغة/ أشحذ كل لفظ/ قبل دمجه/ في قصائدي/ كي يتحول إلى حجر/ أرميه/ ضد المجتمع الفاسد، أجل – أنا أنتمي/ إلى الانتفاضة». إن صاحبة هذا الصوت الشعري الفريد، والمتميز «بالاقتضاب وببساطة التعبير ووضوحه – كما قال كلود بوميرز وبالخيال القادر على بلوغ لا نهائي الكون»، تمنح الصمت الوضع المستحق في شعرها:
«في الشعر/ أنصت إلى الصمت/ في الصمت/ أستمع إلى الموت/ والاستئناف»
«أهدي قصائدي…. إلى الصمت/ الكامن/ في كل صخب».
«أمشي بقدمين حافيتين/ في القصيدة/ كي لا أزعج/ الصمت/ المعلق في كل كلمة».
لكنها لا تتوقف أبدا عن فك رموز «القصائد/ التي كتبها القمر/ في السماء» كما أنها تسجل: «عند كل ولادة/ أنا أستعيد الألسن/ من كفني».
إن شعر كولتز، رغم تواضع صاحبته، حاول الإمساك بالعالم، وإنجاز مهمة الشعر الروحية، التي حددها مالارميه في التعبير عن لغز الوجود. وحتى لو كان الشعر غير قادر عن تغيير العالم، فإنه، كما تقول، «يستطيع على الأقل أن يحيا حياته كقصيدة».

٭ كاتب ومترجم من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية