نتذكر كيف أدى مقتل المواطن الأمريكي أسود البشرة جورج فلويد في 25 مايو/أيار2020 على يد رجال الشرطة الأمريكية إلى موجة كبيرة من المظاهرات المناهضة للعنصرية، اجتاحت مدنا أمريكية عدة بدءا من العاصمة وصولا إلى الجنوب الجمهوري المحاذي للجدار العازل للهجرة غير النظامية، حيث أظهرت صور لمحطات دولية مثل BBC وCNN وقناة «الجزيرة» تسونامي بشري من مختلف أطياف المجتمع الأمريكي، يجوبون شوارع مدنهم للتنديد بالممارسات العنصرية المشابهة لنظام التمييز العنصري، الذي لم تستطع الإدارات الأمريكية المتعاقبة ومثقفوها من لملمة تاريخ التمييز الطبقي الاجتماعي والهوياتي ضمن نزعة إنسانية توافقية، بدل حلم الامبراطورية المستلب للحقيقة بشعارات زائفة وقيم مطوّعة، ضمن «رؤية بديلة» للحرية والعدالة والديمقراطية.
لون الإمبراطورية الواحد
إذا كنت أسود البشرة فهذا يعني أنك ضمن لائحة المفقودين أو المقتولين، ولربما المنسيين، في مجتمع لطالما تزعّم الحرية وجعلها علما يعلو سماء الإنسانية، ولعل كفاح السّود ضد العبودية، التي ليس لها لون محدد منذ مطلع القرن الماضي وصولا إلى يومنا هذا، انتهى كما يزعم كثيرون ممن يصطفون ضمن سلسلة الديمقراطية الغربية ويتبركون بها، إلى وصول باراك أوباما إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية وفوزه بعهدتين متتالتين، وعجزت إداراته عن إيقاف مقتل تسعة سود برصاص شاب أبيض في جريمة بشعة وقعت في كنيسة للسود في ولاية كارولينا الجنوبية، متسائلا «إزاء الجزء الأسود من تاريخ الولايات المتحدة، وأنّها لم تتخلص من العنصرية بعد» معللا عجز الإمبراطورية في القضاء على العنصرية بقوله «المجتمعات لا تمحو تماما بين ليلة وضحاها ما حصل قبل 230 عاما» كان العالم حينها يخوض حربا شرسة ضد كل ما هو إنساني وأخلاقي وحقوقي، رفضا للألوان المتعددة والشعوب المنتفضة الباحثة عن الحرية والعدالة.
لقد صبغ العالم مع بزوغ فجر جديد للديمقراطية الأمريكية باللون الأسود، وتمادت توجهات مؤسساتها الاستيطانية الاستعمارية في نهب ثروات المجتمعات وإرادتها، متغاضية عن التجاوزات التي افتعلتها الامبراطورية خارج جغرافيتها، كان ثمن ذلك التدخل السافر ضحايا كثر تم تأبينهم ونسيانهم تحت مظلة مشاريع إعادة الإعمار والحكومات الانتقالية، الملايين من البشر ممن حملتهم حركة التاريخ إلى معسكرات القتل والتعذيب، تم تجهيزهم ضمن لوائح اتهام جاهزة كالإرهاب والإسلاموفوبيا ومعاداة السامية، جمعت تحت عنوان الخوف من تحرر الشعوب من سطوة الثقافة السائدة المتصهينة والسياسات الاقتصادية الاستيطانية.
لم يكن السّواد المطبق على الحضارة لون بشرة فحسب، بل كان حالة استثنائية للعالم الحر، وامتحانا لتصورات العقلانية والتنوير والحداثة، كان هوسا حقيقيا نحو مزيد من الاستغلال وفرض نظام مستجد للعبودية، فما معنى أن يتحرر العقل من شهوة التسيّد والتسلّط مسقطا أبراج المؤسسات الدينية والسياسية والاجتماعية، كي يسنّ شريعة اقتصادية تسلب الأفراد والمجتمعات حقها الإنساني؟ هل يعقل أن تتوج عصور التنوير بحملة استعمارية ضد التاريخ والهوية الشرقانية، مساقة بنزعة بربرية، لطمس معالم التحضر والتسامح الشرقي؟ وهل يعي الإنسان حجم الكارثة التي خلفتها الحداثة وهي ترفع عنها شؤم الحربين العالميتين، بكثير من الضحايا والمفقودين؟ ثلاثة قرون خلت ينحر بعضها بعضا، نحو مزيد من الشهوانية البريئة التي لا تملك إلا لونا واحد متألها هو الغرب، غرب تفنن في سجن الإنسان وتدجينه وتبضيعه ضمن سلع استهلاكية مستعجلة، كلما استنفد تاريخ إحداها أنتج نماذج تستعصي على العقل إثبات ضرورتها للنزعة الإنسانية.
لم تكن العنصرية يوما ما بلون واحد يجتاح العالم، مذ أن قتل قابيل هابيل وأرداه مقبورا، بل كانت تحمل اسما واحدا مثقلا بالآهات والعاهات، وألوان كثيرة لمعاناة الإنسان وآماله الضائعة بين صفحات التهجير والإبادة، فثمة عوامل كثيرة تحيلنا إلى حوادث تاريخية ما كان للعقل البشري أن يتجاوزها ويمنع تكرارها، وهو يضع لمساته الأخيرة على قمّة الاستغلال التي تغزو حضارته، حيث تصبح علاقة الفرد بالفرد، والفرد بالمجتمع، والمجتمع بمجتمع آخر ضمن حلقة مفرغة من القيم الإنسانية المشتركة، وبدل أن يتدافع الفرد والمجتمع مع آخره بكل أريحية واعتيادية ومصالح مرسلة ومتبادلة، ينجر العديد ممن يمتلكون نزعة تسلطية إلى حشر شعوبهم نحو الهلاك، وفرض نمط تسايدي لجنس معين من المجموعة البشرية لتقنين ما يعتقده من حقيقة حول إمكانية تسخير ما تبقى من البشر، وعلى هذا الأساس يخضع منطق القوة والعنف والخوف لغريزة استعمارية سرعان ما تظهر ندوبها على مجتمعات تكافح لنيل حريتها، معتبرة استلابها لإرادة الشعوب المقهورة حالة صحية لدفع ضرر ما يمكن حدوثه لو أنّ شعبا مثل شعب (التوتسي) قام بانتفاضة ضد قوات الاحتلال الأممية، للمطالبة بالقصاص من ضحايا ميليشيات «الهوتو» الرواندية عام/1994، أو محاكمة أسماء قادة الجيش وأعوانهم من النظام الصربي الذين دفعوا بالبوسنيين نحو إبادة جماعية قرب حدود العالم المتحضر، ناهيك عن تماطل دولي للتحقيق حول المجازر التي تفننت الآلة الاستعمارية الصهيونية، منذ أن وطأت أقدامها فلسطين المحتلة، لتحقيق العدالة الإنسانية وإنهاء الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية والاعتراف الكامل بجرائم الإبادة التي تسبب بها وعد بلفور.
نقــد فكرة التصنيف الحضاري
هي صورة قاتمة موغلة في الظلام، لعالم لطالما تشبت بقيم الحضارة، مدعيا تزعمه «السّبق الإنساني» عبر مجالس ومؤتمرات ليس لها بالغ الأثر إلا على الأنظمة ما بعد الكولونيالية، في حال ما فكرت بالتمرد على المركزية الأوروبية، وهذا العالم الثالث القابع «خلف التاريخ» الذي لطالما عاثت فيه الحروب الأهلية فسادا وخرابا، ما زال ينقد أوروبا الناهبة لخيراته من الأزمات الاقتصادية، فالأوروبي لا يفكر كون الجغرافيا التي يعمرها تفتقر إلى أهم الضرورات الطبيعية لاستمرارية عالمه الصناعي، كما أنه غير مهتم بالقواعد العسكرية المنتشرة خارج حدود بلاده، معتبرا إياها قوات أممية أنيط لها دور حفظ السّلام العالمي، إنه يرى في تصنيف حكوماته للوائح الإرهاب وقوائم المطلوبين الدوليين وتصنيفات الائتمان مصادر أمن واستقرار لنشاطه الاستهلاكي.
في إمكان الغربي أن يرى في شوارعه النظيفة والمحلات التجارية والاسواق الضخمة وداخل المدارس والجامعات بشرات مختلفة وأطياف متعددة وأجناس من العالم، على أنّهم مهاجرون مهددون لطبيعة المجتمع الأوروبي، فهو أي الغربي ليس بحاجة إلى صورة نمطية من صُنع المستشرقين والمخبرين، واصفا العربي والشرقي مهددا سلامه وأمنه، فثمة أدوات شعبوية اتخذت من «الأزمات الاقتصادية» الضاربة عنق الرفاهية الغربية «حقيقة بديلة» لاستعادة المناصب التي يشغلها العديد من المهاجرين، ولعل الخوف من الإسلام والشرق، ما هو إلا شرارة هامدة تستغيث بها الأحزاب المتطرفة لافتعال حروب هوياتية ضد من تعتبرهم «الدخلاء» أو «الأجانب غير المرغوب فيهم». لا يدرك الغربي أنّ تشبثه بفكرة الأصلانية، إنّما يصنع عالما خاليا من القيم الحضارية، التي بنيت لأجلـها المسارح ودور الفنون والثقافة الغربية، عالما أحاديا غير قابل للتنوع والاختلاف، باهتا لدرجة أنّ العنصرية الموجهة ضد الآخر سرعان ما ترتد إلى الانسان الغربي الذي عُسكر ضمن مجتمعات استهلاكية والتهمته هويات جندرية، اصطنعت لها حدود «مؤنسنة» لشرعنة ما تبقى من «عبور زائف» وعالم متشظ متموقع ضمن قوائم وأدوات الاستعمار الجديدة.
حقيقة أنّ التاريخ يعيد نفسه ويحمل لنا صور الماضي البعيد، من تهجير قسري وإبادة جماعية ونهب لثروات الإنسان والطبيعة، يأبى هذا التاريخ إلا أن يسجل في ذاكرة البشرية تلك المآسي، كي يمنحها الخلاص الأبدي من خطيئة الحضارة نحو الإنسان، التاريخ لا يشيب ما دام الجنس البشري يمتهن التخويف والتجويع والقتل، لا لشيء إلا لأنّ حبّه لذاته وهوسه بالتملك تجاوز حدود طبيعته البشرية. يخبرنا التاريخ من غير أن يقاضينا فهو لا يملك حكما نهائيا بقدر ما يمنحنا القدرة على تحقيق الفوز بامتحاناته المتعددة، إنّه قبل مئة سنة من تاريخ (مجزرة سربرنيتشا) كانت فرنسا تَسُوم الجزائريين صنوف العذاب، وتحرق مزارعهم وأراضيهم وتنزع عنهم العمق العربي والإسلامي، متجردة بأدبيات تراثها التنويري عن كل التزام أخلاقي وإنساني، لقد جعلت منهم أهالي لا يملكون الحق في اختيار أسماء ذرياتهم، واتخذت من ذلك منهجا لتفكيك البنية الاجتماعية والهوياتية للإنسان الجزائري حينها، فرنسا التي اتهم رئيسها الأسبق شيراك مجرم الحرب اليوغسلافي ميلوسوفيتش بضلوع أجهزة مخابراتها في مجزرة سربرنيتشا، لم تتحرك قواتها المتمركزة في رواندا من «منع» مذبحة مروعة راح ضحيتها المئات من الأبرياء عام 1994، بل تعدى الأمر إلى فتح سفارتها أمام مليشيات الهوتو وتدريبها من قبل كبار ضباط الجيش الفرنسي، في الوقت ذاته كان الغرب حينها يسابق الزمن لوضع اللمسات الأخيرة لاتفاق التهدئة والهدنة لآلية أوسلو2 تحت ضغط عربي/أمريكي، بين الاحتلال الصهيوني والسّلطة الفلسطينية، التي تطالب إلى اليوم بإلغاء تصنيفها كمنظمة إرهابية، حقائق فضحت المزاعم البديلة للغرب وهو ينفخ في رماد الحرب الروسية/الأوكرانية، ويغض الطرف عن المجازر المتكررة للديمقراطية السوداء تحت ذريعة محاربة الإرهاب، والحق في الرد.
كاتب جزائري