” أهلاً وسهلاً بهوليوود” شعارٌ رفعته إحدى القرى الهندية النائية الصغيرة، في منتصف ستينيات القرن المنصرم؛ وذلك عندما زارها فريقُ تصوير هوليوود، فهوليوود مشهورة؛ وهي تدفع الآخرين لالتماس الشهرة من خلالها، وهذا كان انطباعاً شائعاً آنذاك، وحتى وقتنا الراهن إلى حد ما.
فيما يلي واحدٌ من الأمثلة الروائية الأمريكية التي تُسلِّطُ الضَّوءَ على واحدةٍ فحسب من منظومة إشاعة الثقافة الأمريكية حيث اضطلعت هوليوود بجزءٍ من تلك المهمة في سبيل تكريس القيم الأمريكية وإشاعَتِها عبر العوالم الثقافية المختلفة؛ لتعزيز النُّفوذ المعياري الأمريكي عبر العالم.
شخصيَّة ماكس دوف
إنَّها روايَةُ “النِّهـاية” أو الرواية المعروفة بـ ” THE TWELVE- إثني عَشَرْ ” لـ ” وِليَام غلادسون” حيث يُحاولُ عبرها أن يًعْرِضَ بدء تكوين شخصيَّة “ماكس دوف” ابتداءً بشهر شباط- فبراير عام 1965 حيث أصبح ماكس دوف فيما بعد مُصوِّر الأفلام الوثائقيَّة المُحْتَرِف في هوليوود عبر العوالم.
حسب الرواية يبدأُ تكوين شخصيَّة “ماكس دوف” وهو طالبٌ في جامعةِ “يال” وحيث شعار هذه الجامعة “النُّور والحقيقة ” ثمَّ تكتمل أبعاد شخصيتهِ في جامعةِ “هارفرد” إذْ يُقدِّمُ نظرياتٍ فلسفيَّةٍ بعنوان ” فَهْمُ الفَهْم – وجوهر إحدى تلك النظريات: أنَّ Aهي في الحقيقة Aوفي الوقتْ نفسِه فإنَّ ليست في الواقع وعلى هذا المنوال يبدأ عقل ماكس بعملية تحليل الاحتمالات الرِّياضيَّة كافَّة؛ على قاعدة تأثُّرِهِ بآراءِ أبرز المفكرين الرَّواد في شؤون الأنظمة وهو المفكر الأمريكي “ألفرد نورث وايْتهيد ” فقد شَرَحَ “وايْتهيد” كيفَ أنَّ المعرفةَ تكونُ قائمةً ضمن حدودِ وإمكاناتِ الأنظمة الَّتي يتفاعَلُ البشرُ على أساسها ومن خلالها؛ وإذْ أدركَ ماكس أنَّ قدراتنا المحدودة مُتَأتِّيَةً من كوننا بشراً؛ فقد قال في نفسه:
” قد يكونُ في ذلك جواب عن السؤال المطروح حول وجودِنا بالذَّات، وكذلك الهدف من حياتِنا؛ فكلُّنا مُتَّصِلون بِبَعْضِنا بَعْضاً ليسَ بِشَكْلٍ سطحيٍّ فقط !! ”
وهذه في الحقيقة نظريَّةٌ تنُمُّ عن غرابَةِ الأطوار؛ مِمَّا دَفَعَ بأساتذته في كلا الجامعتينِ إلى التَّوصِيَةِ أنْ يَخْضَعَ للرِّعايَةِ النَّفسيَّة.
ألغازِ الحضاراتِ القديمة
يتأثَّرُ ” ماكس دوف ” حسب رواية وليم غلادسون بنظريَّةٍ أخرى تحاولُ تفسيرَ ألغازِ الحضاراتِ القديمة، وهذه النظرية تقولُ: إنَّ هذه الحضارات قد تمَّ بناؤُها على يدِ مخلوقاتٍ فضائيَّة، جاءَتْ من الفضاءِ في العصور القديمةِ السَّحيقة؛ وهي من صَنَعَتْ هذه العجائب الَّتي تَتَجلَّى في آثارِ حضارات “المايا” و “الإنكا” في “البيرو” وفي “بوليفيا ” على حوافِّ الأنديز في أمريكا الجنوبيَّة، وفي غيرِ مكانٍ من العالم؛ لذا فقد قرَّرَ ماكس أنْ يكونَ مصوِّراً وثائقيَّاً سينمائيَّاً لتلك الآثار حول العالم لصالحِ دعم تلك النَّظريَّة من خلالِ “هوليوود” فيبدأ رحلته من البيرو وبوليفيا، ثمَّ ينتقلُ إلى مصر والقدس ثمَّ إلى “مقاطعة التِّبِت في الصِّين” ثمَّ إلى اليابان، ومن ثمَّ إلى الهند، ويلتقي بالعديدِ من الشَّخصياتِ الدِّينيَّة من مُختلف الأديان بمن في ذلك الزَّعيم البوذي ” الدَّلايْ لاما ” ولا يجِدُ لدى هؤلاء جميعاً سوى الاهتمام بإبقاءِ النُّفوذ الشَّعبي لأفكارهم ومعتقداتهم على حسابِ اهتمامهم بالتأثير الرُّوحي فعلاً لدى أتباعِهِم، ولا يجِدُ “ماكس دوف” ما يدعَمُ تلك النَّظريَّة التي تقول أنَّ مخلوقاتٍ قادمة من الفضاءِ هي من شَيَّدَتْ الحضارات القديمة بما تضمنَتْهُ من ألغاز ، لكنَّهُ يجِدُ في الهند التَّالي:
تَهبِطُ الطَّائرةُ الَّتي يستَقِلُّها في مقاطعة ” أمريتسار ” في الهند؛ بقصدِ زيارَةِ قريَةٍ نائيَةٍ صغيرة فيها بعض الشواهد على ألغاز الحضارات القديمة وهذه القرية تُدعى ” قاديان “.
عندَ هبوطِ الطَّائرة طُلِبَ من “ماكس” أنْ يظَلَّ في الطَّائرةِ حتَّى ينزلَ جميعُ رُكَّابِها، وعندما حان دوره لمغادرة الطَّائرة وَجَدَ أنَّ مُضيفيهِ الهنود وبعد نزول كافَّةِ الرُّكاب من الطَّائرة قد كَسوا له دَرَجَ الطَّائرَةِ بالبساطِ الأحمر، وقد أعدُّوا له ضيافَةً باذخةً لكونِهِ أمريكيّا من هوليوود، ثمَّ اصطَحبوهُ إلى تلك القرية في سيارَةِ ” رولز رويْس” فخمة، وبعد مقابلاتٍ عديدَةٍ مع المسؤولين في القرية، وبعدَ أخذِ جُمْلَةً من الصُّور؛ أعدُّوا له حفلَ استقبالٍ لائقٍ بعد القيلولةِ في الظَّهيرة استعداداً لبدءِ أعمالِ التَّصوير الوثائقيّ، وقد اكتَشَفَ حينها فقط سبب هذا التَّرحيبِ الملكيِّ به كأمريكيّْ؛ إذْ قالوا لهُ :
توَقّع مؤسّسِ البلدَة
لقد تَحَقَّقَ التَّوَقُّع الثَّاني عشر لمؤسِّسِ البلدَة في القرنِ التَّاسع عشر؛ فالتَّوَقُّعات الأحد عشر الأساسية تَتَضَمَّنُ ادِّعاءَاتٍ من قبيل:
سَتَزْهِرُ الصَّحراءُ وتزدهر، وسَتُصْبِحُ مجموعة العائلات الإثنتي عشرة المُؤسِّسَةِ للقرية أكثر من إثنيْ عشر مليون فرد، وسيجري بناءُ معبدٍ ضخمٍ يتِّسِعُ لمئاتِ الآلاف، وإضافة لذلك فقد تحققت كثيرٌ من التَّوَقُّعات؛ لكن الأهم من ذلك تحقق مع وصول “ماكس دوف” مُمَثِّلاً لفريقِ تصوير هولويود؛ فقد اكتَمَلَ التَّوَقُّع الأخير الذي مؤدَّاهُ: سَيَعْرِفُنا العالم، وسَيَقْصِدُنا، وسنصبِحُ مشهورين؛ فكان الشعار الذي ملأ البلدة (أهلاً وسهلاً بهوليوود!).
وهكذا – وربما عبر هذا العمل الروائي والسينمائي – رأيْنا أحد الأمثلة الدَّالَّة والمُتَّصِلَةِ بإشاعة وانتشار القيم الفكرية والثقافية الدعائية الأمريكية كأحد أهم مصادر النفوذ المعياري الأمريكي المنتشر عبر العوالم !.
كاتب فلسطيني