أهل الثقة وأهل الخبرة، جدلية طالما شغلت الخبراء في علم الإدارة، ولأنها مدماك تأسيسي لأي مؤسسة ناجحة، كان هناك إدراك متزايد بعد الانتقال من نمط المؤسسات العائلية القائمة على القرابات، أن أهل الخبرة يشكلون بتراكماتهم المعرفية والمهنية، قيمة نوعية للعمل يمكن أن تسهم بخلق مناخ عمل إيجابي تنافسي، يرتقي فيه من يستحق ولا تغبن فيه حقوق المتفانين بعملهم، كي لا يقودهم إحباط عدم تقديرهم إلى الانكفاء والانعزال والسلبية.
المؤسسات الأوروبية
ولعل التوسع في ذكر الإدارة التي تعمل على مبدأ الثقة والجماعة، وهو حالة كثير من مؤسسات العالم العربي، كفيل بتوضيح الفوارق بين نمطي العمل، وهو ما تعمل على ترسيخ فوارقه المؤسسات الأوروبية، التي تضع ضوابط وقيودا شديدة ورزينة، لمنع تكريس مبدأ أهل الثقة لإدراكها بعد تجارب إدارية كثيرة، أن مبدأ أهل الخبرة يقوي ركائز المؤسسات، وهو ما لم يستطع تجاوزه العقل العربي، الذي ينحو نحو الديكتاتورية في كل تفاصيل حياته، من المنزل إلى العمل، وكثيرا ما نجد أنه لمجرد تمدير شخص «تعيينه مديرا» سيقوم بلملمة أهل ثقة، ليشكل منهم جماعته، يكون معيار حظوتهم لديه النميمة والتزلف، لنيل حظوة صاحب الجلالة، الذي هو بدوره متزلف عند ولي نعمته الأكبر، وعليه دائما إثبات ولائه له، لا خدمة المجتمع وتقديم إضافة نوعية لسوق العمل .
في حالة أهل الثقة ليس مهم نوعية العمل، وإنما كميته ومراقبة أنفاس الموظفين وتخويفهم الدائم بالطرد.. وفيه ستتحول المؤسسة إلى مزرعة، ويحشد الديكتاتور الصغير حوله الثقات وينتقي منه أطفالا مدللين يرضعون من عطاياه. ويعزل أهل الخبرات، وفي هذا المناخ السقيم سيسود جو من التوتر والسلبية المدمرة بين الموظفين. وفيما الثقات سيحصدون المكاسب، ستصب اللعنات على الكفاءات ويبخس حقها ويقلل من شأنها، وسيحوّل المؤسسة إلى فرع مخابرات وإدارتها لن تعرف إلا الوعود الكاذبة، والكلام المنمق، الذي يخفي تحته عالما من النتانة الأخلاقية، وبالطبع لن يعرف الديكتاتور الصغير، الذي سينسى ما كان عليه قبل تنصيبه معنى المكافأة والامتنان لجهود العاملين، حتى لو عملوا في أقسى الظروف وأصعبها، وإنما فقط ممارسة التكبر والفوقية الفارغة وتهديدهم داذما بإحالتهم إلى فرع العقوبات وتأديب الموظفين.
التنفيذ الأعمى
ليس بالضرورة أن يكون الثقات من أصحاب الكفاءات والخبرات، بقدر ما أن المطلوب منهم الولاء والخضوع، والتنفيذ الأعمى للأوامر الصادرة عن الجهة العليا، وبدون نقاش، وهو ما لن تجده في مجتمع أهل الكفاءة القائم على احترام الموظفين، وتقدير جهودهم، واحترام تميزهم وإبداعهم كي تخلق المؤسسة التمايز عن غيرها.
مزرعة أهل الثقة ستقود حتما إلى التكتلات والشلليات، وهو بصمة كثير من مؤسسات العالم العربي، حتى لو تأسست في المريخ، وسيكون مبدأها من ليس معنا فهو ضدنا حتما، والموظف مدان حتى يثبت الولاء، والأهم أن الانطباع الأول عن الموظفين هو الأخير.
ومن العجب العجاب في حالة أهل الثقة أن أول ما يفعله الكرسي في المدير فيها هو أن مؤخرته تكبر، لتحقق أكبر التصاق ممكن بالكرسي، ظناً منه أن الكرسي لن يتخلى عنه.
ويغيب عنه، بحماقة لا مثيل لها، مبدأ أنه لو دامت لغيرك ما وصلت إليك، والغريب حقا كيف أن أذنيه تبدآن في النمو كأذني الخفافيش، لأن حاسة الرؤية لديه ستتعطل بصيرتها، وستصاب بداء قصر النظر، وفي أحسن الأحوال سيرى الموظفين بعيون نمامية، فلا عجب أن يرى الطفل في المهنة معجزة إلهية، والنحيف سمينا، وصاحب اللحية أمرد، وصاحب الطاقة الإيجابية سلبيا، وما سيقوله هؤلاء عن زملائهم لن يتغير حتى لو أتى زمن يأكل فيه الحمير السباغيتي الإيطالية المطبوخة بحليب الماعز.
عبودية تشرعها قوانين
تبدأ المؤسسة في عهد ديكتاتورنا الصغير بتحطيم أهل الخبرة، وبخسهم حقهم، ومنحهم أبخس الأجور، بدون احترام تاريخهم المهني وخبراتهم المتراكمة ومواهبهم، والأهم خلق قوانين تحمي المؤسسة من الموظف واستغلاله، باسم القانون حتى آخر رمق. عبودية تشرعها قوانين العمل للأسف، لكن الأهم أن استثمارها سيتم بعد ضرب كل القيم الإنسانية والأخلاق المهنية، التي ستتحول في مثل هذه المؤسسات إلى نكتة ساذجة يلوكها أهل الثقة المتمتعين بحماية الديكتاتور الصغير، عرض الحائط. وهكذا يصبح أهل الكفاءة شيئا فشيئا أعداء وخونة، ومهما تفانوا في العمل فإن نواياهم مشكوك فيها وعليهم دائما تقديم شهادة حسن سيرة وسلوك، لأنهم مدانون مدانون حتى لو أثبتوا العكس، فهم أعداء أهل الثقة لأنهم أرقى منهم سلوكا وأخلاقا ومهنية وكفاءة، ويثقون أكثر منهم بأنفسهم ويعتزون بمكتسباتهم، وهو ما لا يرضي غرور صاحب الكرسي .
والمأساة في حظيرة مؤسسات أهل الثقة، أن صغار الموظفين سيكونون أشبه بالعبيد، ولن يسلموا من سياط أهل الثقة، الذين سيجدون فيهم مكانا خصبا لتفريغ حنقهم على أهل الكفاءة والخبرة، هؤلاء سيعملون بأجور مزرية، بحجة أن المكان يوفر لهم عملا وهم غير مؤهلين، وستفلح عليهم المؤسسة فلاحة مطبقة عليهم أوسخ وأحط القوانين، وسيتحولون رويدا رويدا إلى ثيران حقول، وهؤلاء حماية لمصدر رزقهم الحقير أصلا، إلا أنهم سيضطرون للسكوت منكسرين محطمين صاغرين، لدرجة تحطم القلوب، وسيغدوا مكان عملهم أشبه بأجواء مقبرة.
في حالة أهل الثقة سيقنع الديكتاتور الصغير وحاشيته أنفسهم، أن المؤسسة تسير على الطريق الصحيح، وأنها تتحسن ببطء ليبرروا فشلهم، وغالبا ما تجدهم يلقون كوارث المؤسسة ومصائبها، من فشل وفساد على الإدارات السابقة، ليقنعوا ولي النعمة أنهم أفضل ممن سبقهم علّه يديم عليهم نعمته ويبقيهم إلى أبد الآبدين ..
هكذا ستتحول المؤسسة إلى حظيرة قوامها الشك، حتى بين أهل الثقة أنفسهم، ليثبت كل منهم أنه أقرب للديكتاتور الصغير، وهو سيستمتع بقطيعه الجميل، ثم ستتخلى المؤسسة رويدا رويدا عن أهل الكفاءة، إلى أن تفوح منها روائح النتانة والفساد والشلل الوظيفي فيبدأ الديكتاتور الكبير بالبحث عن بديل. لتعود عجلة هذه المهزلة من جديد…
كاتب سوري
بدك مين يسمع الكلام..
الحاشية مابتعرف توصل نقد للمعلم
لانه محاط بالمداحين والمنافقين