تختلف القائمة العربية لأفضل الكتاب العرب من بلد إلى آخر، كما تختلف مقاييس التصنيف والترتيب حسب اللغات الأجنبية التي ترجموا إليها، أو حسب شعبية البعض ونجوميتهم، أو حسب عدد الجوائز المحصودة من طرفهم من هنا وهناك، أو حسب مقاييس أخرى تبدو أكثر غرابة من أن يصنّف وفقها الأدب والأدباء. تُظهِر هذه النتائج المتناقضة أحيانا كم أن القارئ العربي اليوم لا ذائقة له في الحقيقة، في فرض تصنيف حسب المحتوى الإنساني للنصوص والرؤى، بما أن المقاييس أصبحت سطحية، ولا تلامس الأعماق.
تلتقي غادة السمان ورجاء الصانع ورضوى عاشور وإميلي نصر الله في القائمة نفسها، حسب أحد المواقع، مع أن الخلل يبدو واضحا في جمع هذه الأسماء معا، فكل كاتبة تمثل مدرسة في حد ذاتها، أمام انكسار السلم بتواجد رجاء الصانع معهن، كوننا نقف أمام كاتبة شابة، حين نشرت روايتها الوحيدة «بنات الرياض»، حتى إن تردد أنها ترجمت لأربعين لغة، فإن ذلك لا يشفع لنصها «الوحيد» أن يخترق تجارب أدبية طويلة وناضجة ويزكيها ككاتبة مهمة.
نعرف جيدا أن كتاب رجاء الصانع، مجرّد كتاب وليس رواية، وأنّه يستحيل أن ينافس في لغته وبنائه الأعمال الروائية للكاتبات سابقات الذكر، كما نعرف جيدا أن الأدب يُكتب بجماليات لغوية لا تكسر المألوف، ولكنّها تمنحه إضافات تثريه وتثري به المكتبة الأدبية، فبأي مقياس قيست أهمية «بنات الرياض»؟ علما أن كاتبا بمقاييس الصانع نفسها، هو علاء الأسواني كونه طبيب أسنان وكاتبا أيضا، وقد حقق مبيعات ساحقة في العالم العربي برواياته، وهو كاتب قصة، وله مؤلفات سياسية تلخص توجهه الفكري عموما، وقد ترجم للغات كثيرة، ونال جوائز عربية وعالمية، كما دخل السينما بأعماله من بابها الواسع، فلماذا لم يذكر ضمن قائمة أهم عشرة كتّاب عرب؟
ما الذي أقصى الأسواني وزكّى الصانع؟
نطرح الأسئلة ونبحث عن إجابات مقنعة تكون بوصلة للقارئ العربي، حتى لا يضيع بين وجهات النظر الإعلامية المتناقضة، فنقف عند متناقضات تسخّف من الأدب وتجعله وجبة سريعة لجائع في الطريق. تحضر أسماء وتغيب أسماء، ويبقى اسم نجيب محفوظ اليوم أكثر تكرارا ككاتب عالمي، فيما يغطي بمظلته العالمية الكتاب المصريين إن لم نقل أغلبهم، وما حضور رضوى عاشور كاسم متكرر بين القوائم المهمة للكتاب العرب، إلا صدفة جمعت إعلاميي مواقع الإنترنت ذوي الثقافة الأدبية الضعيفة والجيدة.
نحتار بين تلك القوائم التي تخلو من أسماء لكتاب أفنوا أعمارهم لإشعال شموع المشهد الثقافي العربي، لا يظهر اسم الكاتب المصري بهاء طاهر مثلا، ولا اسم السوري خيري الذهبي، لا تظهر العراقية هدية حسين، ولا مواطنتها إنعام كجة جي، ولا المغربية فاطمة المرنيسي…
إننا مقصرون جدا تجاه أنفسنا أولا، كوننا ننتمي لزمن أُلبِسَ فيه الأدب بدلة رسمية، لكل المناسبات، وقد آن له أن ينصهر في اللفيف الاجتماعي الجديد، حيث لا رسميات ولا ربطات عنق للأدب، أمام انبهار الأجيال الشابة بحكايات تشبه المخدّرات
تُختصر هذه القوائم في أسماء وقعّت كتبها بالأمس في أحد معارض الكتاب القريبة، بمبيعات خرافية لا يصدقها عاقل… ثلاثة ملايين نسخة، مليون ونصف المليون نسخة… من يصدق هذه الأكاذيب في زمن الاحتقان الاقتصادي والثقافي؟ أقول هذا مع إيماني الكامل بأن مبيعات الكتب في تصاعد، لكن بدون مبالغات.
تنجح رواية واحدة لأحد الكتاب، تنال جائزة مع الكثير من التهليل العربي، لكن شيئا غريبا يحدث بعد ذلك، لا رواية أخرى تنال الإقبال نفسه، يبقى الكاتب معلّقا في مشنقته الوحيدة، يكتب مزيدا من الروايات، في ما طابعه واحد، ولنا في ذلك نماذج من بينها «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، و«الحب اللاتيني» لسهيل إدريس وكأن لا أعمال أخرى للكاتبين غير هذين. تخرج «كليلة ودمنة»، و«ألف ليلة وليلة» من كهف سحيق وتنافسان كتّابا معاصرين، يخرج توفيق الحكيم أيضا من برزخه ولا يظهر يوسف إدريس وإحسان عبد القدوس في أفق القارئ العربي اليوم، فنتساءل ما هوية هذا القارئ؟ من يوجهه في قراءاته؟ ففي موقع مثل «غود ريدز» تنقلب الطاولة على أسماء شهيرة، تعتبر نفسها متربعة على عرش الأدب اليوم، فتظهر أسماء أخرى تماما مثل جلال عامر وأحمد مراد، لديها أقلام خفيفة، خالية من العبء اللغوي، الذي تميز به كتاب كثر دخلوا المغامرة الروائية من الباب اللغوي المحض، ينتصر هؤلاء الكتاب، لسهولة فهم ما يكتبون، ولأن ترسانة الترويج لأدبهم أصبحت متاحة، ليس فقط عبر وسائل الإعلام الكلاسيكية «راديو وتلفزيون ومجلات» بل عبر شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث يقدّم الكتاب كوجبة خفيفة ولذيذة، أو دواء لجِراحِ النفس العربية جرّاء المكبوتات الكثيرة والحرمان بكل أنواعه، بدءا بحرية التعبير داخل الأسرة والمدارس والمؤسسات إلى الحرمان العاطفي والجنسي، الذي يترتب عنه عنف غير طبيعي تجاه كل ما هو حي، وحتى تجاه الحجر، من طرف أفراد مجتمع ناقم على من كتم أنفاسه، لا أحد ينجو من ذلك العنف إلا من مشي في سكّة الأدب، حيث تجد نفسه ما ينقذها من بؤس الخارج.
نقف مدهوشين أمام هذا المعطى الخطير، فنحن لسنا أمام نوعية طبيعية من القرّاء، نحن أمام معاناة حقيقية لنفوس محطّمة، مهشّمة، محبوسة في أقبية مظلمة، ممنوعة من ممارسة أدنى حاجاتها الطبيعية، وفوق ذلك ننتظر منها أن تكون مثالية! يا للهول.. هل يمكن لكاتب خارجٍ من هذا النفق، وهو يروي بؤسه ومحنته بعتاده اللغوي البسيط، أن يكتب أدبا مثل الذي درسناه بين أسوار الجامعات أيام زمان؟ وهل يمكننا أن نقنع أكبر شريحة من قراء اليوم وهم مشدودون بين عالمين متناقضين، ويحملقون من عمق النفق في الفوهة العجيبة المضيئة، بأن يقرأوا «مدن الملح» لعبد الرّحمن منيف؟ أو «جارات أبي موسى» لأحمد التوفيق؟ فقد أصبحت هذه الأسماء وأخرى كثيرة غريبة وسط زحام المنشورات الجديدة، ووسط هذه القوائم المكررة عبر مواقع كثيرة، وهي بكل أسى تضع الأدب في قالب التسالي لا في قالب التسامي.
ثم في مقاربات بسيطة بين بعض القوائم، سنكتشف أن الأجيال تختلف، لكن الهوة سحيقة بينها، فقد استمتعنا في زمننا بقراءة نجيب محفوظ، وإدوار الخراط، ومحمود المسعدي ويوسف القعيد، وغسان كنفاني وإميل حبيبي وآخرين من الطينة نفسها، فصعب علينا الاندماج في ما هو أقل مستوى، ويبدو أن قوائم كتابنا إن لم نعمل على الترويج لها ومجاراة سرعة هذا الجيل التكنولوجي، فإن الأدب سيزداد سقوطا في السهولة، والتمييع، والرتابة، وإهمال صحة وعافية اللغة، ليصبح مجرّد قصص مثل قصص «عبير» زمان …
يبدو لي إننا مقصرون جدا تجاه أنفسنا أولا، كوننا ننتمي لزمن أُلبِسَ فيه الأدب بدلة رسمية، لكل المناسبات، وقد آن له أن ينصهر في اللفيف الاجتماعي الجديد، حيث لا رسميات ولا ربطات عنق للأدب، أمام انبهار الأجيال الشابة بحكايات تشبه المخدّرات، مختصرة وخفيفة وتجعل الواحد يحلّق منتشيا لبعض لحظات، قبل أن يبدأ بسرد ما يماثلها، معتقدا أن الأدب ليس أكثر من حكاية مسلية.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
د/ بروين
يومنا ليس كأمسنا ، فثقافة قارئ الأمس وذائقته لا وجود لها اليوم إلا لماما ، وسبب اشتهار عمل أدبي أو فني دون آخر يعود إلى أنه جاء في وقت مناسب توفرت فيه جميع أسباب النجاح والشهرة ، بغض النظر عن قيمته الفنية والجمالية ، وهذا أمر تعرفه جيدا شركات الانتاج الفني.
هناك عمل سردي أحسبه ذا قيمة لا يزال مجهولا، ولا أذكر أن أحدا من النقاد أشار إليه ولو إشارة عابرة ، وأعني به رواية ( المهاجرون ) للصحفي اللبناني سليم اللوزي صاحب مجلة (الحوادث) الذي انتهت حياته بمثل ما انتهت به حياة الصحفي السعودي جمال خاشقجي ، فقد قامت مليشيات الأسد المحتلة للبنان سنة 1980م باختطاف اللوزي وقتلته شر قتلة ، ولم يعد أحد الآن يذكر سليم اللوزي ولا روايته.
مقال موفق الى ابعد الحدود الا انه ورغم الاستشهاد بكاتبين او ثلاثة من المغرب العربي يبقى التركيز اعلى على كتاب المشرق العربي..
اعتقد ان عقدة المشرق والمغرب لم تغادر اذهان المثقف العربي منذ ايام الاندلس.. اظن ان كتابا في تونس والجزائر والمغرب قد ابدعوا تجارب ادبية تتفوق كثيرا على اسماء مشاهير في المشرق ولكن الالة الاعلامية خذلتهم.. واهمال نقدي ظلمهم.
ملاحظة بسيطة على عبارة الأخت بروين حبيب:
/كما نعرف جيدا أن الأدب يُكتب بجماليات لغوية لا تكسر المألوف/..
بالعكس تماما.. الأدب، وخاصة من منظور طابعه الإبداعي، هو الذي يُكتب بجماليات لغوية تكسر المألوف.. حتى أن عبارة بروين هذه تناقض كل التناقض العبارة الرئيسية في مقالها دون أن تدري:
/ إننا مقصرون جدا تجاه أنفسنا أولا، كوننا ننتمي لزمن أُلبِسَ فيه الأدب بدلة رسمية، لكل المناسبات، وقد آن له أن ينصهر في اللفيف الاجتماعي الجديد، حيث لا رسميات ولا ربطات عنق للأدب، أمام انبهار الأجيال الشابة بحكايات تشبه المخدّرات/.. !!