أهوار العراق: من الإله أنكي إلى «سيّد صروط»

تبلغ مساحة الأهوار في جنوب العراق أكثر من 6000 ميل مربع، أي أنها تعادل عشر مرات مساحة دولة البحرين، ورغم طبيعتها الساحرة، فإني قد لا أجانب الصواب إذا قلت، إن جميع أهل الحضر في العراق لم يشاهدوا الهور ولو مرة في حياتهم. يذهب الطلاب في سفرات مدرسية تدوم ساعات قليلة، يلتقطون فيها الصور لأماكن لا ينتمون إليها، ولا تنتمي إليهم. وتهيّأ لي في سبعينيات القرن الماضي أن أزور بصحبة صديق تلك الأماكن القصيّة، وأعيش هناك أياماً عديدة. ألبس مثل أهل الهور، وأفطر وأتغدى وأتعشى، وأرى لون النجوم في الليل بنفسجياً، ووردياً، فتظهر السماء لي مثل سلّة أزهار.
من ينظر إلى الهور يعود به الزمن إلى 5000 آلاف عام مباشرة إلى الوراء. لم تتغير طريقة العيش منذ عهد الطوفان، بل منذ بداية الخليقة. الطمأنينة ظلّت كما هي، يربّيها مشهد البجع الخالد الأخرس نهاراً، ونقيق الضفادع الذي لا ينقطع منذ مغيب الشمس حتى طلوعها. السلام الذي يعيش فيه الناس هنا لا يدعهم يتوقعون الكثير من الحياة الثانية. إنهم يعيشون في مأمن من البشر، لأن لا أحد يصل ديارهم.
لم ألتقِ بالرجل الذي يحبّه أهل الهور إلى درجة القداسة، لكني شاهدت بيته – ديوانيته – بينما كان المركب يجتاز نهر «الموزر». كنت في أول يفاعتي آنذاك، ولم أكن أعرف من أين تصعد وتنزل رائحة الصّندل وأنا وصديقي نجلس في مقدّمة الزّورق القديم المصنوع في الهند. كان المركب ممتلئاً. لغط النساء وتصايح الأطفال، لم يفعلا شيئاً مع دمدمة المحرّك. ديوانية السيّد «صروط» هي البناء الوحيد القائم من الآجرّ في تلك الأصقاع. كان السيّد غائباً، ووقف جميع من في المركب إجلالاً للمبْنى الذي يضمّ ألوان السيّد الغائبة، ورائحته، وأثاث بيته. استوى الرجال والنساء من مختلف الأعمار على أقدامهم، وأدّوا التّحيّة. ردّتها أزهار المارغريت في الأرض المجاورة للمبنى المؤلف من غرفة واحدة مستطيلة الشكل واسعة. علم أسود في الأعلى، ولا شيء غير ذلك. الباب مطليّ بالأخضر، والشباك الوحيد زجاجه مشغول بالغبار المتراكم وبالشمس القوية. ثلاث جواميس ترعى في الحقل القريب، وثلاث غيمات خفيفة اتخذت زينة براقة كدّرت صفاء السماء. كأن الدوابّ اتّصلت ألوانها السود الناصعة مع لون الراية المرفوعة أعلى المبنى. سرعة الزورق ثابتة في بطئها، تظنّ في بعض الوقت أن المركب واقف. ولمّا ابتعدنا عن ديوانية السيّد بدأ مجرى النهر يتّسع، واختفى شيئا فشيئا خطّ أشجار النخيل في الأفق. إنك تنحدر إلى عالم قديم جداً، عالمٍ بِكرٍ، فتأهّب.
أوّل ما يلاحظه الداخل في مملكة الهور هو السماء. كنت أحمل معي في تلك الرحلة كتاباً، لكنني لم أفتحه، لأن السماء اختلفت عليّ، كأني هبطتُ على سطح كوكب آخر. كانت صافية جداً وشفافة إلى درجة أنها تشعّ نوراً لا يراه أحد إلاّ من يسكن هنا. مثل غطاء من الحرير يسحبه النور الذي ينبعث من الأعلى، ويهبط، ومن ثَمَّ يرتفع، كما أن الضّياء هنا ليس مبعثه الشّمس، بل الماء الصافي يحيط من كلّ جهة، كأنك وأنت واقف على سطح المركب تسبح وتغوص فيه، والزنابق البيض والصُّفر تطفو وسيقانها وجذورها مرئية. من لم يرَ الهور تظلّ كلمة الصفاء ناقصة الحروف في قاموسه اللغوي، ما إن يتعلّمها حتى يشعر أنه منفيّ عن نفسه، وعن حياته السابقة.
ثم اتجه الزورق إلى جهة اليمين، وأقحم حيزومه في غيمة شديدة الخضرة من القصب والبردي، بصعوبة نرى وبصعوبة نتنفس، وعليك أن توطّن نفسك كيف تستلذّ جمالَ السّيقان الخضر العالية، التي يعطيها ضوء الشمس لوناً أسود، من هذه المعادلة اللونية أخذ وادي الرافدين لقب أرض السواد. الأخضر والأسود هما في الحقيقة لون واحد يتحتّم التعامل مع مصدرهما كأنه حجر كريم، يعكس اللون أو غيره، كما أن هذا التّمازج موجود في ريش الطيور، التي تبدو في ضوء الشمس خضراء، سوداء، في آن. بيوت القرية مشيّدة من القصب المضفور والمحنيّ بصورة دائرة تتكرّر عند قمم أعمدة تسند السّقف المصنوع من القصب هو الآخر. إنها الـ»صرائف» التي تعود بهندستها المعمارية إلى أيام السّومريين. تطفو الصريفة تحت اتساع الفضاء فوق أرض من ماء، والحياة فيها ممتلئة، وثابتة، كأن الطوفان حلّ هنا قبل أيام قليلة، عندما أمر الإله إنليل بأن تغرق الإرض، ويهلك الإنسان والحيوان والنبات. خالف أنكي، إله الحكمة والسلام، قرار مجمع الآلهة، وقام بتحذير إنسان واحد هو رجل مدينة شوروباك ـ أورـ كي يمنحه وقتا لبناء سفينته:
«بيت القصب، يا بيت القصب!
جدار… يا جدار
اصغ أنت يا بيت القصب… يا رجل شوروباك:
هدّ بيتك وابنِ مركبا
اهجرْ كلّ ما تملك واطلب الحياة…
احمل في مركبك بذرة كل الأحياء».
ملحمة جلجامش

منطقة الأهوار جنوب العراق

هكذا بنى ابن العراق للقديم فٌلكه، وأخذ معه عائلته وحيواناته وحاجات بيته، وتنتهي قصة الطوفان حين تستقرّ الرياح والعواصف والغيوم الجبّارة التي أحدثت هذا الغرق الشامل.
ثمّ بلغ المركب بنا «الواديّة» القرية التي قضيتُ ليلتين فيها، ولا تزال تفاصيلها حيّةً فيَّ كأني عدت منها السّاعةَ. حللتُ ضيفاً في بيت صديقي، وكان أول ما أصغيتُ له، وأنا أنزل من المركب، هو الصمت. صمت لا يمكن أن تُعزف فيه موسيقى، أو تُطلقُ فيه صرخة؛ هو الصمت الذي صاحب ساعات بدء الخليقة. تستقبلك أولاً الساحة الواقعة أمام الصريفة، ويصير كلّ شيء فجأة له رائحة الحليب، تغمرك بطريقة غير محسوسة مثل الصّمت. فجأة يصيح ديك، ويخفق بجناحيه، فيجيبه ببطء جأر عجل محبوس في الحظيرة. رغم تصايح الأطفال ثمّة هدوء كبير يغلّف الذهن. الزمن الذي ينساب هنا ليس له ساعات، اللحظة تكرر نفسها دون كلل. الساعة تعيد الساعة، واليوم يكرر اليوم. آه، أيها السلام العميق والرفاه! تدخل الصريفة من باب منخفضة، تخلع كلّ كبريائك وخيلائك وتنحني. تكون صغيراً، وتدخل.
كلّ شيء في بيت القصب بدائيّ وغير مريح، لكني مع ذلك كنت أشعر بالسّعادة، بالاكتفاء. السقف قصب، الجدران قصب، والأرض. الماء تشعر به من حولك أكثر مما تراه. فرشوا لي بساطاً معطّراً بدخان روث الجاموس، الذي هو الوقود الرئيسي للطبخ، بالإضافة إلى أعواد الشلب اليابس، وبعد قليل تشعر بأن ثيابك صارت نديّة برائحة قوية وغريبة وأطيب من المسك. عندما تكون خارج الصريفة تحمل وجودها العجيب والمطمئن معك. إنها بيتك المتنقل، وملاذك الروحي والجسدي.
كان الفصل خريفاً، ولا يبرد الجو في الهور إلا في الليل، حيث توزع الفوانيس والمشاعل الحزن على الصرائف بالتساوي، وظهر لي صديقي الواقف قربي كأنه شبح. سألتُه عن السيّد صروط وحكى لي روايات تدلّ على أنه شخص غير عاديّ، ويثير الخيال أكثر مّما يحرك الفكر. فهو يشفي المرضى، ويبارك الولادة والختان والزّواج والموت، وله كرامات أخرى يمتدّ أثرها على الزّرع والضّرع، الحصاد يتأثّر بما يقول، والجواميس تهدأ بإشارة من يده، كما أن بإمكانه إثارتها حتى وهو في مكان بعيد. أخذ يجتاحني في تلك الساعة حنين غامض لرؤية السيد، والتقرّب إليه، ومحادثته. تبقى النار مشتعلة وسط الصريفة طيلة اللّيل، على ضوئها كانت تتشكّل لديّ صورة الشّيخ الملتحي، ولحيته بنفسجية وذهبية في الوقت نفسه. وجه رصين، ومستقيم، وكل ما فيه يوحي بصفاء قديم الطراز. إنه الرجل الذي يحمل عن الجميع ثقل ما يمكن أن يكون. نمتُ، وزارني السيّد في الحلم، وكان غارقاً في سلام شيخوخته مثل طفل بريء. كان يقف بالقرب من الإله أنكي، إله الحكمة والسلام لدى السومريين، سكان الهور القدماء. كان الإله يضع يديه على عصاه، ويتحدث إلى السيّد صروط بصوت خافت. هل كان ينقل إليه تعاليم الآلهة؟ هنالك وجوه فيها ملامح جمال يسمّيه فيكتور هوغو في رواية «البؤساء» بجمال الصلاح، وهو الجمال الذي يعمل الفن فيه بكل أدواته. هذا اللب الجاف لوجه كان كل شيء فيه يانعاً ذات يوم هو ما رأيته في وجه الإله إنكي، وفي سيماء السيّد كذلك.

فطرنا أنا وصديقي وخرجنا نتجول في المشحوف ـ زورق صغير ـ وكانت هناك قوّة في شروق الشمس الذي لا يصدق. الظل أزرق اللون وخفيف، والهواء كأنه يحمل في داخله النور. كانت هناك جواميس كثيرة تلوك العلف وتحمل مظهرا ساهما متعقلا. السكينة هنا موجودة منذ الأزل، وباقية كأنما إلى الأبد. ونحن نهمّ بمغادرة المكان حدث شيء مذهل فجأةً. تدافعت الجواميس بخفة غير عادية وهي تخور. خفضت قرونها الطويلة والحادة في اتجاهنا كأنها ثيران المبارزة، وأخذت تنبش التراب بأظلافها وكانت تستعد للهجوم. تناول صديقي حجرا كبيرا وأخذ يصرخ كالمسعور.
احذر!
ورحتُ أفتّش عن مكان ألوذ به من غضب الوحوش التي انطلقت، وبينما كنت أفكر في أن ألقي بنفسي في الماء طلباً للنجاة؛ شقّت صفاء الهور صيحة صديقي:
«دخيلك (أي أطلب حماك) يا سيد صروط».
تراجعت الجواميس عن الهجوم في الحال، وهي تشخر بغضب، وتنفخ مناخرها بعصبية، وتبدو عليها علامات القهر، واصطبغ الهور بذلك الأخضر العجيب الذي تعكسه لجّة بحر ساكن في حقل سماوي حرّ.
نزوات التاريخ عديدة، كذلك تقلبات الدهر. من الذي حمانا من غضب الوحوش في ذلك اليوم، سيّد صروط أم الإله أنكي؟
إلى الآن، وقد مضى على الحادثة حوالي نصف قرن، ما زلت أنظر إلى الظل الصامت للجواميس على الأرض عندما كانت تتأهب للهجوم.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صفوان:

    وصف بديع شكرا استاذ حيدر على هذا السيران اللطيف

  2. يقول كريم سعدون:

    يلتهم د. حيدر المحسن المكان قبل أن يشرع باستذكاره ، فهو يقيم قداسا ليوصفه ووقفنا لنؤديه معه، شكرا لك هذا السرد الرائع

  3. يقول علاء النحاس:

    اقتربت من روح سومر

  4. يقول عبد الزهرة المنشداوي:

    الهور ينمو في الكلمات عندما تقرا تنشغل عيناك بلوحته التي يرسمها الكتاب باحساس صادق وامتزاج بحياة ربما أخذه بالافول لكن الكلمة احتفظت بألوان زاهية ربما ان طلبتها لن تجدها، المفارقة التي يمكن اخذها بالاعتبار أن سيد صروط رحمه الله ينتمي لجزيرة العرب وارض السواد محط هجرته. محمدا في الكاتب الاحساس الصادق والاندماج حد التلاشي في الطبيعة

إشترك في قائمتنا البريدية